د. عبدالله الأشعل*
كلما حانت ذكرى “صفقة السلام”، مارس/آذار، بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، مناحيم بيغين، أتمنى أن تنشر وثائق ودراسات جديدة تكشف النقاب عن هذا التحول الخطير الذي تحولت فيه مصر من الدفاع عن الهوية العربية إلى التخلي عن الدور بل وتسهيل تمكن المشروع الصهيوني من المنطقة العربية وانفساح العالم العربي امامه. كما أتعشم أيضاً أن تتاح مناقشة جادة لهذا التطور، وهذ المقال نبدأ به هذه الجهود ونحاول الإجابة عن السؤال التالي: لماذا زار السادات القدس وليس تل أبيب؟
لكن قلبي يعتصر لثلة ممن يعدون أنفسهم أساتذة وقدوة فيتصدرون فِرق الحاكم، التي تلوي عنق الحقائق خيانة للوطن وتشويها للحقيقة وضنا على الوطن بعلمهم وخدمة لأعدائه، فتعهدت بكشفهم وفضحهم وللأسف كانوا يتصدرون التنظيم الطليعي أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان يعتقد أنهم “عابدون” له متبتلين في محرابه، فإذا هم وراء مكاسبهم على جثة الوطن يخدمون إسرائيل بينما وقف البعض حياته للدفاع عن الوطن ضد سفاهاتهم، مثل الرمز الوطني السفير المناضل المرحوم ابراهيم يسري.
فى الأسبوع الثالث من شهر نوفمبر/تشرن الثاني 1977، قام الرئيس السادات بزيارة لإسرائيل واختار القدس بالذات وليس تل أبيب. ولما كانت هذه الزيارة هي مفتاح خريطة الأحداث السياسية في المنطقة طوال العقود التالية، فقد أصبح لازماً التدقيق في الفجوات التي قفزت فوقها الأحداث الكبرى.
فقد أعقب الزيارة مسار طويل إختلف الباحثون بالنظر إليه مثلما اختلفوا في كل ما يتعلق بهذه الزيارة. وفيما عدا الفريق الذي رأى الرئيس السادات ذا نظرة استراتيجية ووطنية وأنه وفّر” على مصر عقوداً من الصراع مع إسرائيل واختصر المسافة معها فإستحق أن يكون “إبن مصر البار، فإن الفريق الآخر يرى العكس تماماً، بل ذهب إلى أن سلوك الرئيس السادات كان جزءاً من منظومة فكرية واتجاه قوى انجر إليه ولقي عنده هوىً شخصياً وسياسياً، وأن الزيارة لم تكن مفاجئة كما أوحى هو نفسه وإنما كان يُراد له، بوصفه رئيس أكبر دولة عربية، والعقبة الكبرى في طريق المشروع الصهيوني، أن يقوم بدور مزدوج يتثمل في نزع العقبة والسعي لتمكين إسرائيل من التغلغل في الجسد العربي.
لكل من الفريقين شواهد وأتباع وحجج، ولكن كل منهما يقدم تقييمه للرئيس السادات وسلوكه من منظور مختلف، مدعين أن ما يملكونه هو “المنظور الإستراتيجي”. ولكن الحقيقة أن الرئيس السادات، مهما بدا ممثلاً في معظم أدواره وخلط الجد بالهزل في معظم الأحيان، فإن حقيقته لم تعرف حتى لأقرب الباحثين منه رغم أن هذه نقطة بالغة الأهمية لإستيفاء صفحة هامة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي.
على أية حال، فإنه يبدو لنا أنه أياً كان الرئيس السادات وطريقة تفكيره، فإنه أعان المشروع الصهيوني، بقصد أو بغير قصد؛ وأنه حتى لو كان قد شهد كل هذه المخاطر على مصر والمنطقة، فلربما أعاد النظر في هذه المسيرة لو أمهله القدر ورأى تداعيات السلام المصري – الإسرائيلي. صحيح أن الفريق الأول يرى أن الرئيس السادات لم يقصد صلحاً منفرداً ليستحق اللوم عليه، وأنه لم يكن أنانياً في مصريته، بل حاول أن تكون مصر “قاطرة” السلام العربي مع إسرائيل، ولا زال هذا الفريق يردد أنه أتاح السلام الشامل للفلسطينين لكن قادتهم، الذين امتهنوا المقاومة، فوتوا عليهم تلك الفرصة. ويستطيع هذا الفريق أن يستدل بالمآسي التي تشهدها القيادات الفلسطينية خاصة في إطار السلطة الوطنية لتأكيد هذه الملاحظة، وهي أن الفلسطينيين ليسوا الأكثر حرصاً على مصالحهم، وأن نسبة الجواسيس العاملين لصالح إسرائيل ضد أنفسهم وشعبهم، خاصة خلال الإعتداءات الإسرائيلية على غزة تقطع بخيبة الأمل في وطنيتهم.
ولا زال من يرون أن الدراسة المتأنية الموضوعية التي تنحاز إلى الرؤية الإستراتيجية، حتى المصرية الخالصة، تقطع بأن السلام مع إسرائيل، على النحو الذي انتهى إليه وبصرف النظر عن قصد صانعيه، صار كارثة على مصر الوطن وليس فقط مصر “الدور”، وأنه صار لزاماً على العقلاء في العالم العربي مساندة عملية إستعادة مصر لنفسها بعد استلابها طيلة هذه العقود، إذا أريد للعالم العربي أن يعيد تماسكه في مواجهة المشروع الصهيوني ذي المخطط الإستراتيجي الذي يستهدف مصر “القلب” في البداية والنهاية.
لكن هذه الملحمة تحتاج، كما قلت، إلى مراجعة بـ “التصوير البطيء” في ضوء تحليل نوايا الرئيس السادات وطريقة تفكيره، وأبرزها: لماذا زار الرئيس القدس ولم يقم بزيارة تل أبيب؟ وهل اختار السادات أم أن إسرائيل اشترطت عليه أن يزور القدس؟ وإذا كان هدفه، كما قال، هو “القفز فوق المسائل الإجرائية والنفسية ومواجهة القضية الأساسية” وهي شروط السلام العادل، فهل كان السادات يعتبر زيارة الحكومة الإسرائيلية في القدس مسألة تافهة لا تستحق التوقف عندها؟ وهل كان مدركاً حقاً طريقة التفكير الإسرائيلية وخطة المشروع الصهيوني أم أن تكوينه لم يسمح له بمعرفة هذه القضايا؟ وإذا قيل أن الرئيس السادات بدأ حياته عسكرياً ثم أصبح سياسياً مرموقاً منذ قيام “ثورة يوليو”، وأنه رغم ذلك لم يقرأ ويستوعب ما أفصح عنه قادة إسرائيل أنفسهم حول المشروع الصهيوني الذي لا يمكن أن يكون مفاجأة لأحد، ألم يدرك أن جميع قادة إسرائيل خاصة من الآباء المؤسسين هم زعماء العصابات الذين انخرطوا في المشروع مهاجرين أو أبناء مهاجرين وتدربوا لنهب الأرض من سكانها بالقوة؟ وأن إسرائيل لهذا السبب جيش “تسربل” برداء الدولة، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات على القرار والسلوك الذي تفرضه أوضاع القوة بحسب أنها أهم مقومات وأدوات المشروع الصهيوني، فأصبح العسكري الإسرائيلي مختلفاً في مدركاته بالطبع عن الثقافة السياسية للعسكريين المصريين بالنسبة لأوضاع الصراع العربي – الإسرائيلي؟
بعبارة أوضح، هل يدرك السادات أن القدس يتم تهويدها منذ العام 1948 بشكل منهجي وأن إسرائيل تدعي أنها “عاصمتها الأبدية”، على الأقل منذ بداية الخمسينيات وبشكل أخص منذ احتلال الشطر الشرقي منها، في 7 يونيو/حزيران 1967؟ ثم، ألم يدرك أن زيارة الحكومة الإسرائيلية في القدس، رغم إصرار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 على أنها جزء من الضفة الغربية المحتلة، يعدّ “إعترفاً” منه بأنها عاصمة إسرائيل وأنه يعمل ضد الشرعية الدولية في هذه القضية؟
إذا أخذنا بنظرية أن الرئيس السادات كان محبذاً لإخراج مصر من ساحة الصراع مع إسرائيل، وفتح الطريق لإنطلاق هذا المشروع إلى غايته، فمن السهل القول أنه كان يدرك ذلك كله وأنه تعمّد هذه النتيجة وأن يكون عنوان الزيارة تاريخياً، “زيارة القدس”، وأن تحفظه حول مزاعم إسرائيل في خطابه بالكنيست كان على سبيل التمويه وإبراء الذمة التاريخية الشكلية. أما إذا سلمنا مع الفريق الآخر بأن الرئيس السادات كان “يستخف” بأمور بالغة الجدية بسبب نقص تكوينه الثقافي والفكري وإدراكه لخطورتها، فإن التفسير الأقرب هو أنه لم يدرك هذا كله بشكل كافٍ أو أنه ربما أدركه ولم يرتب عليه النتائج التي يستوجبها هذا الإدراك.
نحن نميل إلى هذا التفسير، والدليل على ذلك أن مصر خلال مفاوضات واشنطن لإبرام معاهدة السلام، العام 1979 وحتى خلال محادثات “كامب ديفيد” العام 1978، سجلت موقفها كتابة من قضية القدس، بل إن الرئيس السادات شعر، في أغسطس/آب 1980، أن صدور قانون الكنيست بضم القدس لإسرائيل واعتبارها عاصمة أبدية لها “عمل قصد إحراجه” عقب توقيع اتفاقية السلام، ولإثبات أن الإتفاقية أطلقت يد إسرائيل وأخرجت مصر حتى من المعادلة الدبلوماسية في القضية، وأن هذا العمل “إهانة” له من جانب بيغين، على النحو الذي أشير إليه في مذكرات أمريكية وإسرائيلية. ولذلك، سعى الرئيس السادات مع الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، إلى أصدار قرار مجلس الأمن الشهير رقم 478 الذي أدان القانون الإسرائيلي واعتبره باطلاً ولاغياً، وحث الدول على ألا تنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس.
على أية حال، لم يؤثر قرار مجلس الأمن في مسيرة إسرائيل نحو تهويد القدس، وكان قانون الكنيست إحدى المحطات في الطريق القانوني، ولا شك بأن علاقة مصر بإسرائيل، منذ العام 1977، أثمرت العام 1995 أول قانون أمريكي يطابق تماماً موقف إسرائيل، حتى صدر القانون الأشمل العام 2002 من الكونغرس وصدق عليه الرئيس؛ ولذلك، لا يمكن فصل اشتداد عملية التهويد الآن في ظل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن الإرهاصات الأولى يوم زار الرئيس السادات القدس.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق.
مصدر الصور: الميادين.
موضوع ذا صلة: حوار إفتراضي بين عبد الناصر والسادات ومبارك حول إسرائيل