د. إيهاب خليفة*

لم يعد هناك شك في أن العملات المشفرة سوف تصبح جزءاً من النظام المالي العالمي خلال السنوات القليلة القادمة. فبعد القبول الواسع لها لدى العديد من المستخدمين حول العالم، ودعم عدد من المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى لبنيتها التحتية ولنظامها التقني “البلوك تشين”، واستثمار رجال الأعمال في المحافظ الإلكترونية لهذه العملات، لم يعد الحديث عن مستقبل العملات المشفرة بالأمر المهم بقدر الحديث عن مستقبل العملات الوطنية التقليدية.

فهل يمكن تطوير العملات الوطنية التقليدية لكي تصبح هي الأخرى مشفرة، أي يتم تداولها عبر محافظ إلكترونية تستند إلى نظام “البلوك تشين”، دون وجود حقيقي لهذه العملات على أرض الواقع أو في أرصدة البنوك؟ وإذا حدث ذلك، فما هي وظيفة البنوك وشركات تحويل الأموال حينها، وكيف سيتم التغلب على مشكلات عدم استقرار العملات المشفرة، ومشكلة تحديد الهوية لضمان عدم إساءة توظيفها، وما هو مصير أكثر من 3000 عملة مشفرة قائمة وموجودة حالياً في الأسواق تقترب قيمتها من ترليون دولار؟ مشكلات وتحديات متنوعة يحاول هذا التحليل التطرق إليها.

بيئة العملات المشفرة

إذا تحدثت مع أكثر المتشائمين حيال مستقبل العملات المشفرة فلن تجد من يجادل بشأن قوة مستقبلها، فقد تجاوز المجتمع المالي العالمي هذا الجدل، وتقبل الأمر الواقع الذي فرضته العملات المشفرة، لكن لا تزال هناك محاذير وتخوفات حقيقية تطرحها هذه العملات ويحذر منها الخبراء، مثل: التقلبات العالية والسريعة في القيمة السوقية للعملة، واستخدامها كوسيلة للتهرب الضريبي والتجارة غير الشرعية، فضلاً عن مشكلة تأمين المحافظ الإلكترونية وسلاسل الكتل من الاختراقات والهجمات السيبرانية.

لكن، وعلى الرغم من هذه المحاذير، اكتسبت هذه العملات ثقة عدد كبير من المستخدمين ورجال الأعمال وشركات الدفع الإلكتروني وتوجهوا إلى الاستثمار فيها بقوة، سواء من خلال تطوير بنيتها التحتية أو من خلال الاستثمار المباشر فيها عبر شراء هذه العملات، وهو ما يمكن توضيحه في التالي:

– حصلت العملات المشفّرة على دعم كبرى الشركات المالية التي تقدم خدمات الدفع الإلكتروني، مثل “باي بال”، حيث أعلن المدير التنفيذي لها، دان شولمان، أن الشركة سوف تسمح لمستخدميها النشطين الذين يتجاوز عددهم أكثر من 346 مليون مستخدم حول العالم، باستخدام حسابات “باي بال” في شراء وبيع العملات المشفرة، وهي نقلة نوعية وكبيرة للغاية في البنية التحتية لهذه العملات.

– الأمر لم يقتصر فقط على “باي بال”، بل إن المدير التنفيذي أيضاً لشركة فيزا، ألفريد كالي، أعلن هو الآخر أنه سوف يتم تهيئة شبكات فيزا لتسهيل عمليات التداول في أصول العملات المشفرة. ومن ناحيتها، أعلنت الشركة المنافسة لها، ماستر كارد، عن بناء شبكة افتراضية لمساعدة البنوك على اختبار وتقييم عملية تداول العملات الرقمية الوطنية.

– كما اكتسبت العملات المشفرة ثقة المستخدمين لعدة أسباب منها تنوع استخداماتها، فهناك العملات التي تحقق الربح السريع مثل “البيتكوين”، وهناك العملات المستقرة والمستندة إلى الدولار والتي يمكن استخدامها في التداول الآمن مثل عملة “تاذر”، فأصبحت وسيلة مقبولة لدى البائع والمشتري، وتوافر لها شرط “القبول” الذي هو أحد أهم الشروط التي يجب توافرها في العملات.

هذا على صعيد البنية التحتية لنظام العملات المشفرة الذي يتيح للعديد من المستخدمين حول العالم شراء وبيع العملات المشفرة تماماً مثل التداول في العملات التقليدية الأخرى، أما على صعيد مستقبل الاستثمار فيها، فيمكن الإشارة إلى أن:

– أكثر المتفائلين هو رئيس شركة “مورجا نستاني” لإدارة الاستثمارات والذي رجح أن عملة البيتكوين قد تحل محل الدولار الأمريكي كعملة احتياط نقدي عالمية خلال السنوات القادمة.

– كما صرح الملياردير الأمريكي، بول تودور جونز، بأن عملة “البيتكوين” هي “الحصان الأسرع” في سباق تحقيق الأرباح عالمياً. وأشار استطلاع رأي من شركة “فيديلتي” إلى أن 36% من المستثمرين المؤسسيين في الولايات المتحدة وأوروبا يمتلكون أصول عملات مشفرة، وقالت شركة تداول العملات المشفرة “كوينبيز” إنها شهدت “ارتفاعاً ملحوظاً” في الطلب من المستثمرين المؤسسيين في النصف الأول من العام 2020.

– يأتي في النهاية رجل الأعمال الأمريكي وأغنى رجل في العالم أيلون ماسك، الذي أربك الأسواق العالمية بسبب دعمه للعملات المشفرة، حيث وضع علامة “البيتكوين” في ملفه التعريفي على موقع “تويتر”، كما أعن عن استثمار شركة تسلا التي يرأسها 1.5 مليار دولار في عملة “البيتكوين”، وغرد داعماً لعملة “دوغيكوين” المشفرة، الأمر الذي نجم عنه ارتفاع كبير في قيمة هذه العملات، وهو ما أثار استياء بعض المستثمرين الذين تسببت تغريداته في إرباك استثماراتهم، الأمر الذي نجم عنه إعلان ماسك توقفه عن استخدام منصة “تويتر” مؤقتاً، وقد يكون ذلك خشية تعرضه للمساءلة القانونية بسبب إرباك الأسواق العالمية.

هذا الدعم الذي تقدمه هذه الشركات للعملات المشفرة بصورة عامة، سواء من خلال تطوير بنيتها التحتية والاستثمار المباشر فيها ومنحها صفة “الشرعية” و”المصداقية” إلى جانب صفة “القبول”، قد يساهم في إجراء بعض التغيرات الهيكلية عليها لكي تصبح أكثر رشادة ومتوافقة مع النظم القانونية والمالية للدول، بما يدفع بعض الحكومات إلى التفكير بجدية في تقنين عملية استخدام هذه العملات مستقبلاً ودعمها، متجنبة بذلك ظهور سوق كبيرة سوداء للعملات المشفرة يصعب السيطرة عليها وتتسبب في أضرار كبيرة للاقتصاديات القومية.

تهديدات ومشكلات قائمة

رغم هذا الدعم الكبير، لا تزال العملات المشفرة تواجه تحديات هيكلية، فهي إما أن تكون وسيلة جيدة وآمنة للتداول بين الأفراد، أو وسيلة آمنة للتهرب وممارسة الأعمال غير الشرعية، لكنها لا يمكن لها أن تقوم بالوظيفتين معاً.

حيث تُعتبر إحدى أهم المشكلات القائمة التي تواجه العملات المشفرة هي القدرة على إخفاء الهوية الحقيقية للشخص مما ينجم عنه تهديدات حقيقية، مثل: التجارة في السلع غير الشرعية، ودعم الحركات الإرهابية والتهرب من الضرائب، وتوفير ملاذ آمن للهروب من القيود القانونية، وكسر العقوبات المالية، وجميع هذه التهديدات يتم إثارتها بسبب قدرة العملات المشفرة على إخفاء هوية الشخص الحقيقية، هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، هناك تقلبات حادة في سوق العملات المشفرة، حيث يمكن لها أن تكسب مكاسب كبيرة للغاية في خلال أسابيع قليلة، وتخسرها أيضاً في مدة أقل، وبالتالي فإن الاحتفاظ بكميات كبيرة من العملات المشفرة، خاصة تلك التي لا تستند إلى الدولار مثل البيتكوين، يحوي مخاطر حادة لمستثمريها. وحتى العملات المشفرة التي تستند إلى الدولار مثل عملة “ثاذر” فهي أيضاً في غير مأمن كبير من التقلبات، فقد تنتهي علاقتها به يوماً ما.

تبقى المشكلة الأهم والأخطر والتي تكمن في مجموعات التنقيب التي تمتلك أكثر من 51% من القدرة التعدينية للعملة المشفرة، والتي يمكن لها أن تتحكم في قيمة العملة، ويُقصد بذلك أن أي عملة مشفرة تحتاج إلى منقبين يقومون بعمليات التنقيب داخل سلسلة الكتلة “البلوك تشين” الخاصة بالعملة المشفرة. بعبارة أخرى، هم مجموعة المراجعين الحسابيين الذين يتأكدون من صحة المعاملات المالية التي تتم عبر العملة المشفرة وتأكيدها داخل سلسلة الكتلة.

وتكمن المشكلة في أن عمليات التعدين هذه تحتاج إلى “مزارع تعدين” تحتوي على آلاف أجهزة الكمبيوتر الضخمة التي تقوم بعمليات التعدين، و65% من مجموع هذه المزارع حول العالم توجد في الصين فقط، للاستفادة من عدد الأجهزة الموجودة بها، ورخص أسعار الكهرباء ، وإذا استطاع مجموعة من المنقبين أو إحدى الشركات العملاقة امتلاك أكثر من 50% من القدرة التعدينية لإحدى هذه العملات، فإنهم يمكنهم التأثير في قيمة العملة والتحكم في قوتها.

وهنا يجب التساؤل: كيف يتحقق ذلك، وكيف يمكن التغلب على التهديدات والمشكلات التي تثيرها العملات المشفرة والتي تمنع الحكومات والمؤسسات المالية الرسمية من تقنينها ودعمها، دون أن ينقص ذلك كثيراً من المميزات التي تحققها العملات المشفرة لمستخدميها؟ وفي حال إجراء تغيرات على هيكل هذه العملات لكي تتوافق مع القوانين والنظم والتشريعات، فهل سوف تظل محتفظة بنفس قوة قيمتها السوقية أم سوف تنهار؟ وهل سوف تسمح الدول لفواعل آخرين من غير الدول بإدارة أصول النقد المحلي والعالمي؟ أم سوف تجري تغيرات على نظمها المالية لكي تصبح هي المُصدر الشرعي والوحيد لهذه العملات المشفرة؟

لماذا الانتقال إلى العملات المشفّرة؟

إن الانتقال إلى العملات المشفرة ما هو إلا خطوة إضافية في هرم تطور المعاملات المالية بين الأفراد، فكما تطور الحياة البشرية قديماً من نظام المقايضة في العصور الأولى، إلى إصدار العملات الذهبية والفضية، ثم إصدار العملات الورقية، ثم الدفع الإلكتروني عبر البطاقات الإلكترونية، سوف تأخذ خطوة أخرى وذلك بالانتقال إلى جيل جديد من نظم التبادل المالي عبر “البلوك تشين” والعملات المشفرة. وكما قامت ببناء مؤسسات تنظم عملية إدارة النقد التقليدي مثل البنوك، فسوف تقوم ببناء مؤسسات أخرى وظيفتها إدارة العملات المشفرة.

فقد أصبحت العملات المشفرة جاذبة وبشدة لعدد كبير من المستخدمين حول العالم لعدة أسباب؛ فهي من ناحية تقدم لهم أهم ميزة يحتاجونها، وهي تحويل ودفع الأموال فوراً وبدون أي رسوم، وبدلاً من أن يأخذ التحويل المالي عبر الطرق التقليدية عدة أيام حتى يصل إلى الطرف الآخر، سوف يصل عبر “البلوك تشين” في نفس اللحظة، وبدلاً من أن يأخذ البنك أو المؤسسات الوسيطة رسوماً ونسباً مقابل عملية التحويل، لأنها ضامنة ومنفذ لهذه العملية، فسوف يقوم البلوك تشين أيضاً بهذه العملية ولكن دون أي رسوم تذكر.

ومن ناحية أخرى، هناك حالة من عدم الثقة في آليات عمل النظام المالي الحالي ومؤسساته، كما زاد الحديث مؤخراً عن الأزمات المالية والاقتصاد المتوقع أن يشهدها النظام الاقتصادي العالمي، وبات الخلل في آليات عمل هذا النظام الذي يسيطر عليه الدولار واضحاً، الأمر الذي دفع أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في العملات المشفرة، رغم ارتفاع مخاطرها، إلا أنه يبدو أن هذه المخاطر أقل من المخاطر التي يمكن التعرض لها في النظام المالي الحالي، فوصلت عملة مثل “البيتكوين” إلى حاجز الـ 45 ألف دولار، في وقت يشهد العالم فيه أزمة اقتصادية وركوداً بسبب تداعيات انتشار فيروس “كورونا”.

فالواقع يخبرنا أن هناك تغيراً ملموساً وحقيقياً يحدث على أرض الواقع، وأن الدول يجب أن تتحرك للتكيف مع هذا المتغير الجديد، مثلما تغيرت من قبل وتكيفت مع عدة تطورات تكنولوجية سابقة، مثل: اعتماد نظم الدفع الرقمي عبر بطاقات الائتمان، وتقديم الخدمات الحكومية الرسمية عبر نظم الحكومات الذكية، والتكيف مع سطوة مواقع التواصل الاجتماعي على المواطنين والأفراد، وغيرها من التطورات التكنولوجية المركبة التي لم تجد الدول مفراً من التكيف معها بعد ترشيدها وتقنينها.

ولما كان هناك تغير يحدث في نظم النقد العالمي، فالأولى بالدول أن تستجيب لهذا التغير، حتى تظل محتفظة بحقها الطبيعي في إصدار عملاتها الوطنية، وتضمن الحفاظ على الأسواق من الفقاعات المالية والأزمات الاقتصادية، وتحافظ على أمنها القومي بقطع السبل على الحركات الإجرامية والإرهابية من استخدام أي ثغرات في النظام المالي لتمويل أعمال تخريبية.

الاستعدادات المسبقة

من هنا يمكن التفكير بجدية في بداية التحول نحو تدشين نسخ مشفرة من العملات الوطنية، فيكون مثلاً هناك “كريبتو دولار” أو “كريبتو يورو”، يوجد جنباً إلى جنب مع العملة التقليدية المطبوعة، على أن يتم إحلالها تدريجياً محل العملات المطبوعة، ويصبح النظام النقدي قائماً على مفهوم العملات المشفرة المستندة إلى نظام البلوك تشين، بمعايير وشروط تتماشى مع أهداف الدول وتحقق أمنها.

أي إن الدولة وحدها هي التي تصدر العملة المشفرة، وتتحدد قيمتها بالطرق التقليدية التي يتم تحديد قيمة العملة بها، من وجود احتياطي نقدي من الذهب والعملات الأخرى، سواء كانت مشفرة أو غير مشفرة، كل ما في الأمر أن العملة أصبح تداولها بصورة مشفرة كاملة بدلاً من تداولها عبر بطاقات الائتمان أو طرق الدفع التقليدية – الكاش.

وللتغلب على مشكلة إخفاء الهوية، يصبح التسجيل في المحافظ الإلكترونية الخاصة بهذه العملة عبر بطاقات الهوية الوطنية، منعاً لإساءة الاستخدام، وتتولى جهة حكومية، كالبنك المركزي مثلاً، عملية مراجعة وتدقيق العمليات التي تتم عبر المحافظ الإلكترونية، للتأكد من سلامتها وعدم استخدامها في عمليات تمويل غير شرعية أو التهرب من الضرائب.

وبالإضافة إلى مراجعة البنك المركزي، فإن جميع المنقبين ممن يمتلكون محافظ إلكترونية يساهمون في التأكد من صحة المعاملات المالية، وذلك من خلال عملية التعدين التي يقومون بها داخل سلسلة الكتلة الخاصة بالعملة المشفرة، وتكون نتيجة ذلك أن يتم تحويل الأموال بين جميع المنقبين دون أي رسوم إضافية كتلك التي تحصل عليها البنوك، لأنه بالفعل تم دفعها مسبقاً من خلال الطاقة التي تم استخدامها من أجهزتها في عملية التعدين داخل السلسلة.

ومن هنا تحقق الدول مميزات العملات المشفرة من تقليل دور المؤسسات الوسيطة في عمليات التحويل المالي، وتوفير الرسوم التي كان يتم اقتطاعها نظير عمليات التحويل، وتوفير الوقت المستخدم في إجراء هذه العملية، والتغلب على مشكلة تزوير وتهريب العملات الوطنية، والقضاء على سوق سوداء كبيرة تضر بالاقتصاد، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، تتجنب عيوبها وسلبياتها من خلال فرض رقابة صارمة على عمليات استخدام العملات المشفرة، وحصر كافة الأنشطة المالية التي تتم داخل الدولة ومراقبتها.

تحديات التحوّل

وبالطبع، إن عملية التحول هذه لن تكون بهذه السهولة، فهناك تحديات فنية وأمنية واقتصادية وثقافية أيضاً تواجه عملية التحول هذه لدى كثير من الدول، بل لدى جميعها حتى المتقدمة منها، على الأقل في المنظور القريب، ولكن الدول الأكثر تقدماً والتي قطع نظامها النقدي شوطاً كبيراً في عمليات الرقمنة والتحول المالي، وباتت ثقافة الدفع الإلكتروني راسخة داخل المجتمع وفي جميع التبادلات المالية لدى المستخدمين، هي الأكثر استعداداً لتقبل هذه التغيرات والتكيف معها مقارنة بغيرها من الدول أو المجتمعات الأقل تقدماً، والتي لم تكتمل بنية نظامها المالي الرقمي بعد، ولم تنتشر خدمات الإنترنت فيها بصورة كافية، والتي قد يصعب لدى بعض الفئات المهمشة داخلياً فيها أو الأكثر فقراً على تقبل هذا التغيير الكبير.

كما أن عملية بناء البنية التحتية الكاملة التي تضمن السيطرة على العملة الوطنية وعدم خروجها من الاقتصاد الوطني إلا وفق معايير وضوابط سوف تكون شديدة التعقيد، لأنه في هذه الحالة يجب دمج شبكات العملات المشفرة على مستوى مختلف الدول لتحديد مصادر خروج ودخول الأموال، تماماً مثلما تفعل البنوك التقليدية حالياً، هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، يجب التفكير أيضاً في مصير البنوك والمؤسسات المالية، ماذا سوف تكون وظيفتها في ذلك الوقت، فهي لم تعد وسيطاً لتبادل الأموال، بل إنه لا توجد أموال من الأساس لكي يتم وضعها في الحسابات حتى تحتفظ بها البنوك في خزائنها، لأنه ببساطة أصبحت جميع الأموال افتراضية مشفرة في المحافظ الرقمية، فلا توجد أموال يتم نقلها أو الاحتفاظ بها بالبنوك، ولن يستطيع البنك القيام بدوره كمؤسسة للإقراض أو حتى الاستثمار لأنه لم يعد خزانة توجد بها أموال للمودعين حتى يتم استثمارها، بل قد يتحول إلى مجرد مؤسسة تمويل محدودة، يضع فيها مجموعة من رجال الأعمال رؤوس أموال لإقراض الأفراد سلة من العملات المشفرة نظير عائد مالي أو فائدة.

أما الثروات التي يمتلكها بعض الأفراد، والرواتب الشهرية والمكافآت التي يحصل عليها الموظفون، فسوف تكون مجرد رمز على المحفظة الإلكترونية، دون وجود فعلي لها على الأرض، وكذلك الأمر بالنسبة للمدفوعات المالية المتنوعة مقابل شراء السلع الغذائية ودفع الفواتير والأقساط الشهرية ومتطلبات الحياة اليومية، جميعها تتم عبر المحفظة نفسها.

وإذا كان الأمر كذلك، أي أصبح هناك توجه رسمي للاعتماد على العملات المشفرة، فقد يكون من العدالة أيضاً تدشين عملة عالمية مشفرة تكون مستقلة بذاتها وتدعمها جهة دولية يتم تأسيسها خصيصاً لهذا الشأن، تصبح عملة التداول العالمي، مثلها مثل الدولار حالياً، أو إنشاء عملات مشفرة للتبادل التجاري بين الدول مثل التي تم إعلانها بين السعودية والإمارات.

وإذا كان الطرح الوارد حالياً هو الاعتماد على البيتكوين كعملة احتياط عالمي مثلما اقترح البعض، فإنه بات من الضروري ترشيد هذه العملة عبر بناء مؤسسة مستقلة تدعمها بدلاً من المؤسس الخفي، ساتوشي نكاماتو، الذي قد يكون في النهاية هو الآخر أحد المشروعات السرية داخل جيوش إحدى الدول التي تسعى لفرض سيطرتها على النظام المالي العالمي، لكنها لا تزال ترغب في عدم الإفصاح عن ذلك رسمياً. بحيث تضمن هذه المؤسسة عدم سيطرة مجموعات 51% على القدرة التعدينية للعملة والتلاعب بها، فضلاً عن ضمان الشفافية والنزاهة وعدم احتكار دولة بعينها مثل الصين لمزارع التعدين الخاصة بهذه العملات، وأيضاً التأكد من عدم استخدام العملة في القيام بعمليات غير شرعية.

ختاماً، إذا تحقق هذا السيناريو الذي قد يصبح محل تفكير في المستقبل القريب، فسوف تشهد أسواق العملات المشفرة تضارباً كبيراً، فقد يندفع كبار وصغار المستثمرين للاستثمار فيها بقوة، تاركين الاقتصاد الحقيقي، فترتفع قيمة هذه العملات بصورة غير منطقية، أكبر بكثير من قيمتها الحقيقية، تنتهي بفقاعة مالية عملاقة تجعل جميع الأفراد يخسرون أموالهم، مسببين أزمة اقتصادية كبيرة في الأسواق، ولذلك فإن عملية التحول هذه لا بد أن تكون وفق رؤية دولية وليس فقط وطنية، تحافظ على استقرار الأسواق قدر المستطاع.

*خبير سياسي.

المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

مصدر الصور: Romania Insider – سي.أن.بي.سي

موضوع ذا صلة: البيتكوين: عملة “خيالية” خسائرها حقيقية