إقامة دولة عصرية تأخذ بأسباب التقدم وأحدث ما وصل إليه العصر، مثّلت هدفاً استراتيجياً للمشروع الإصلاحي لملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، منذ توليه المسؤولية في مارس/آذار 1999. حينئذ، كان يجتاح العالم تطور مذهل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بلغ حد الثورة، التي تغلغلت في كل مناحي الحياة، بل إنها حولت العالم على اتساعه إلى قرية كونية، وعدت من أبرز مظاهر العولمة، ولم تكن البحرين التي اكتسبت مكانتها كمركز مال وأعمال المنطقة، تتخذ منها الشركات العالمية العاملة فيها مقرا لها، بعيداً عن هذا التطور، سواء من حيث البنية الأساسية المتطورة للاتصالات والمعلومات، أو من حيث معدلات انتشار الهواتف المحمولة والإنترنت، أو توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية.
ومن الناحية التشريعية، كانت نقطة البداية إصدار الملك القانون رقم 28 لعام 2002 بشأن المعاملات الإلكترونية؛ وفي العام 2004، تم إنشاء إدارة التجارة الإلكترونية وتكنولوجيا معلومات بوزارة الصناعة والتجارة، وكانت البحرين من أوائل دول العالم في تحرير قطاع الاتصالات بشكل كامل، وسمحت بقيام الاستثمار الأجنبي فيه وتملكه بنسبة 100%، ونشاطه من دون ضرائب، ووجدت الشركات المستثمرة في سوق العمل البحريني حاجتها من العمالة المؤهلة فبلغت نسبة البحرينيين العاملين في هذا القطاع 75%، منهم 85% جامعيون يجيدون اللغة الإنجليزية، كان هذا نتيجة سياسة إعداد الكوادر البشرية المؤهلة من خلال مدارس البحرين المنتسبة لليونسكو، العام 2004، ومبادرة الملك “مدارس المستقبل”، العام 2005، والتي غدت معممة في البحرين وصنعت أجيالاً تجيد استخدام وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ومن خلال المجلس النوعي للتدريب المهني في قطاع تقنية المعلومات والاتصالات الذي جرى إطلاقه بمقتضى قرار وزير العمل، رقم 10 لعام 2005.
ومع تعدد الجهات التي تقوم باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وكل منها يقدم خدماته بطريقة مختلفة كان قرار مجلس الوزراء رقم 25 لعام 2005 بتشكيل لجنة عليا لتقنية المعلومات، ثم قام الملك بإنشاء المجلس الأعلى لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في نفس العام برئاسة الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، نائب رئيس مجلس الوزراء، وهو الذي توجه لوضع استراتيجية للحكومة الإلكترونية تم الإعلان عنها، مايو/أيار 2007، وفي ضوء هذه الاستراتيجية أنشئت هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، أغسطس/آب 2007.
ومن المعلوم أن مفهوم الحكومة الإلكترونية، وهي إحدى مكونات عملية التحول الرقمي، ينصرف إلى تطبيق الحكومات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للربط بين مؤسساتها، وتقديم المعلومات والخدمات العامة، بما يعني تبسيط الإجراءات الحكومية، وتحقيق السرعة والجودة والنزاهة والشفافية والعدالة في تقديم المعلومات والخدمات، والحصول عليها، مع تقليل الكلفة وتقليل الحاجة إلى العاملين القائمين لتقديم هذه الخدمات بالوسائل التقليدية، ويتطلب ذلك بنية تحتية وتنظيمية وتشريعية مؤهلة، كما يتطلب إعداد البيانات والمعلومات اللازمة لتقديم الخدمة إلكترونياً، وضمان دقتها وسريتها وإمكان تناقلها عبر شبكة الإنترنت مع ضمان صحتها ومصداقيتها، وتعد الحكومة الإلكترونية إذن هي البديل عن النظام التقليدي للإدارة الحكومية في تقديم الخدمات القائم على التعامل الشخصي المباشر بين مقدم الخدمة ومن يريد الحصول عليها، ويعني هذا تفادي سوء استخدام السلطة لأغراض خاصة، أي تفادي الفساد الإداري بأنواعه، وما ينتج عنه من خلل جسيم في أخلاقيات العمل وقيم المجتمع والعدالة ومناخ الاستثمار والنشاط الاقتصادي.
وللأهمية القصوى التي تمثلها الحكومة الإلكترونية، أصبحت سياسات دول العالم الأكثر تقدماً، تتجه إلى حكومة بلا أوراق – Paperless government بما يرفع من مكانتها في سهولة أداء الأعمال، ويحسن ترتيبها في مقياس البنك الدولي الذي يرتب دول العالم بحسب هذه السهولة، ومن ثم التأثير على جاذبيتها للاستثمار.
لهذا، عملت هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، منذ إنشائها العام 2007، على هدف استراتيجي أولي، وهو تقديم جميع الخدمات الحكومية من خلال 4 قنوات إلكترونية: البوابة، الهواتف النقالة، مراكز الاتصالات، أكشاك الخدمة، لتزويد العملاء بحرية اختيار القناة التي يفضلونها، مع التأكيد على توحيد الخدمة. ومع الدعم المادي الذي قدمته القيادة البحرينية، سواء من حيث توفير الموارد المالية أو تحرير قطاع الاتصالات وفتحه للاستثمار الأجنبي المباشر، تم إنشاء هذه القنوات الأربع، وأصبحت الحكومة الإلكترونية في مدة وجيزة تقدم حوالي 200 خدمة من مكان واحد، وتصدرت البحرين العالم العربي في مؤشر الحكومة الإلكترونية الذي تصدره الأمم المتحدة العام 2010، وظلت تحافظ على هذا المركز في 4 تقارير متعاقبة.
كل ذلك، جعل مملكة البحرين تتبوأ هذا المركز، فضلاً عن جاهزيتها للحكومة الإلكترونية، والخدمات التي تقدمها هذه الحكومة، وجودة الكوادر البشرية التي تقوم بها، هو تحقيق الأمان في عمليات الحكومة الإلكترونية، وأمن المعلومات وتناقلها وتوظيفها، وهو ما تكفل به قرار وزارة الخارجية، رقم 37 لعام 2007، بشأن إجراءات وضوابط استخدام شركات الأمن والحراسة الخاصة للأجهزة والمعدات وغيرها من الوسائل التقنية، وقرار مجلس الوزراء، رقم 1 لعام 2011، بشأن لجنة حوكمة تقنية المعلومات والاتصالات بالجهات الحكومية، والقانون رقم 6 لعام 2012 القاضي بتعديلات في المرسوم بقانون رقم 28 لعام 2002 بشأن المعاملات الإلكترونية، ثم القانون رقم 60 لعام 2014 بشأن جرائم تقنية المعلومات.
وقامت هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، العام 2017، بتنفيذ نقلة نوعية، وهي المسماة “السحابة أولاً” أتاحت نقل أنظمتها إلى تقنية السحابة، كأحد البلدان القلائل في المنطقة التي تقوم بهذه المبادرة (تقنية السحابة تعني سحب إلكترونية يتم فيها تخزين البيانات بشكل نبضات كهربائية، يتم الدخول إليها عن طريق الإنترنت من خلال أي جهاز يمكنه الاتصال بالإنترنت)، وبهذه النقلة تمكنت الهيئة من تحقيق 91% من أهدافها الاستراتيجية، وبلغ عدد معاملاتها عبر جميع القنوات أكثر من مليون معاملة.
في هذا العام أيضاً، صادقت المملكة بمقتضى القانون رقم 34 لعام 2017 على الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات، وعدلت بعض أحكام قانون المعاملات الإلكترونية، وصدر قرار وزارة شؤون الإعلام رقم 8 لعام 2017 لنشر إعلانات المحاكم على موقع الجريدة الرسمية بهيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، وقرار وزير الصناعة والتجارة والسياحة، رقم 167 لعام 2017، بشأن اعتماد مواصفات قياسية خليجية خاصة بقطاع تقنية المعلومات. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أصدر الملك المرسوم بقانون رقم 54 لعام 2018 بشأن الخطابات والمعاملات الإلكترونية، وفي العام نفسه القانون رقم 56 لعام 2018 بتشجيع الاستثمار في قطاع الاتصالات، هذا التطور في أداء الحكومة الإلكترونية جعل المملكة تحتل المركز 26 عالمياً والخامس آسيوياً، في تقرير الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية للعام 2018، وحافظت على مكانتها ضمن الدول ذات المؤشر العالي جداً في تقرير، العام 2020.
وما حققته المملكة في مجال التجارة الإلكترونية، كمكون آخر من مكونات التحول الرقمي، جعلها تصعد في مؤشر الأمم المتحدة للتجارة الإلكترونية فاحتلت، العام 2019، المركز 65 عالمياً بين 152 دولة، ويقيس هذا المؤشر الجاهزية للتجارة الإلكترونية والاستفادة من مزاياها. وفي فبراير/شباط 2020، عقدت البحرين برعاية وزير الصناعة والتجارة والسياحة المؤتمر البحريني للتجارة الإلكترونية احتفاءً بإنجازات أكاديمية البحرين للتجارة الإلكترونية، التي انطلقت من 2018 كنتاج تعاون مثمر بين الوزارة ومعهد “لينك سمارت” للتدريب بدعم من تمكين، ومن المعلوم أن التجارة الإلكترونية هي تجارة عبر الإنترنت، وأبرز روادها عالمياً شركة “أمازون” الأمريكية، التي تأسست العام 1994 وبلغت أرباحها في 2018 نحو 869 مليار دولار.
وكانت رؤية القيادة البحرينية واضحة من خلال مبادرة الملك، العام 2014، “برنامج التمكين الرقمي في مدارس البحرين” التي تأتي اتصالاً بما تحقق من قبل إنشاء اللجنة العليا لتقنية المعلومات والاتصالات، واستراتيجية الحكومة الإلكترونية، العام 2010، وجاء هذا التحول الرقمي في صلب الاستراتيجية الوطنية للحكومة الإلكترونية 2016، والتي تم تحديثها العام 2018 وصولاً إلى استراتيجية الحكومة الرقمية 2022، وفيها تلتزم الحكومة بتحويل خدماتها بشكل استباقي رقمياً، كما تقوم بتطوير خدمات مصممة وفقاً لاحتياجات المواطنين، ومجالات التركيز الأساسية في هذه الاستراتيجية:
• تطوير آلية تقدم الخدمات الرقمية للجميع.
• تصميم الخدمات العامة الجديدة رقمياً.
• إعادة بناء الخدمات القائمة رقمياً.
• تمكين المواطنين والشركات من تقديم بيانات مختلفة إلى جهة حكومية مرة واحدة فقط.
• إجراء تنبوآت أكثر دقة.
• دمج البيانات الحكومية وتوفيرها للجميع.
وتشمل مبادرات الخدمات العامة الجديدة التي يجري رقمنتها وفقاً للاستراتيجية: السجل التجاري، نظام الضرائب الوطني، البرنامج الوطني للضمان الصحي، خدمات الدعم المالي، ولتمكين المواطنين والشركات من تقديم بيانات مختلفة إلى جهة حكومة مرة واحدة فقط أتاحت الاستراتيجية نظام البوابة التجارية كنظام إلكتروني موحد يتم تقديمه من خلال قنوات متعددة تقدم خدمة متكاملة “الحكومة ككل”، كما اتاحت البنية التحتية للبوابة الوطنية كمنصة إلكترونية موحدة تشمل التكامل الإلكتروني للأنظمة الحكومية، وأتاحت نظام الهوية الرقمية الوطنية المطورة للمواطنين والمقيمين والشركات للتعامل رقمياً مع الحكومة والقطاع الخاص بطرق مريحة وآمنة.
وقد عززت أزمة “كوفيد – 19” وسياسات التباعد الاجتماعي عمليات التحول الرقمي في مملكة البحرين، فتمت أتمتة جميع مراحل النشاط العقاري، ما أدى إلى تخفيض قياسي في وقت إنجاز معاملات هذا القطاع، وتبني التحول الرقمي في المجالات التشريعية والقضائية، وعمليات التخليص الجمركي، والخدمات المقدمة للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، وعمليات شركات التأمين والمصارف.
وساعد على سرعة تحقيق التحول الرقمي جودة رأس المال البشري وسهولة بدء المشاريع التجارية في البحرين وتنافسية أسعار النطاق العريض، وسهولة الاتصال، حيث غدت البحرين الثانية عالمياً في نسبة انتشار خدمات الهاتف النقال، بنسبة 136% من السكان والرابعة عالمياً في نسبة انتشار الإنترنت 98%، والثانية عالمياً في نسبة انتشار النطاق العريض النقال، فيما تسعى الخطة الرابعة للاتصالات إلى تغطية المملكة بشكل كامل بشبكة الألياف البصرية فائقة السرعة، وكل ذلك يمثل إتاحة كبيرة للتحول الرقمي في وقت وجيز، فيما أخذت المصارف تحقق هذا التحول الرقمي في كافة عملياتها، وأعلنت رئيسة مجلس النواب التحول الرقمي الكامل في العمل النيابي، فيما شددت غرفة صناعة وتجارة البحرين على ضرورة التحول الرقمي في أنشطة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وأخذت مؤسسات المجتمع المدني في هذا التحول، وهكذا أخذت خطى التحول الرقمي تشمل جميع قطاعات ومؤسسات الدولة، ليصبح هذا التحول واقعاً جديداً.
مفتاح هذا التحول السريع يكمن في إرادة سياسية قوية مثّلها الملك الذي سعى من البداية إلى دولة عصرية تأخذ بأسباب التقدم، وفي جوهر هذه السياسة العنصر البشري المؤهل الذي أمكنه إنجاز هذا التحول، ما يفتح الباب أمام عصر جديد تدخله المملكة وهو عصر اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي محدثاً تغييراً كبيراً في تركيبة سوق العمل، ومدى إسهام الأنشطة المختلفة في الاقتصاد الوطني، ليصبح قطاع الاتصالات من أكبر رواد هذا الاقتصاد.
المصدر: مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية.
مصدر الصور: وزراة العمل البحرينية – صحيفة الوسط.
موضوع ذا صلة: التجارة الإلكترونية السعودية: سوق واعد في فضاء العولمة