بعد الخلاف الحاد الذي شهده النصف الثاني من العام 2020 حول تمديد معاهدة حظر الرؤوس والصواريخ النووية “ستارت 3″، وفيما كانت المعاهدة المذكورة تسير نحو الإلغاء بقرار من الرئيس دونالد ترامب، شأنها شأن معاهدتي “الأجواء المفتوحة” و”الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى”، كان موقف الرئيس جو بايدن بموافقته السريعة على تمديدها، وبالشروط الروسية، مفاجئاً، في الوقت الذي كان تمديدها، كما طرحت موسكو، يعتبر بالنسبة إلى البنتاغون خطراً على الأمن القومي الأميركي وإخلالاً بالتوازن الاستراتيجي بين القوتين.
نصت معاهدة “ستارت 3” أو “ستارت الجديدة” على خفض الطرفين الأميركي والروسي أسلحتهما الهجومية الاستراتيجية، بطريقة لا تتجاوز كمياتها الإجمالية بعد 7 سنوات من دخولها حيز التنفيذ (فبراير/شباط 2011) وفي المستقبل، إلى 700 رأس للصواريخ الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية للغواصات والقاذفات الثقيلة، و1550 رأساً حربياً عليها، وذلك في تعديل لمعاهدة “ستارت 1” التي وقعا عليها في العام 1991، والتي كانت تنص على أنهما لا يستطيعان نشر أكثر من 6 آلاف رأس نووي وما لا يتعدى 1600 مركبة من مركبات الإطلاق التي تشمل الصواريخ الذاتية الدفع العابرة للقارات والغواصات والقاذفات الاستراتيجية.
صحيح أن هناك خفضاً كبيراً في عدد الرؤوس النووية، وفي عدد وسائل إطلاقها المختلفة، ولكن من خلال إلقاء نظرة تقنية – عسكرية إلى بنود “ستارت 3″، نلاحظ أن المعاهدة عبارة عن إجراءات استعراضية أكثر من كونها عملية، والسبب في ذلك أن المفعول التدميري لآلاف الرؤوس النووية، والتي تم الاتفاق على خفضها، لا يختلف عملياً عن مفعول ما دون الألف منها، والتي تسمح المعاهدة بامتلاكها، فالعالم سوف يتدمر أيضاً في العدد المخفّض، ولن تكون المعاهدة عملياً قد حمته من الدمار في ما لو حصل إطلاق هذه القدرات أو قسمٍ بسيط منها من الطرفين أو من أحدهما.
في الواقع، وبموازاة هذه الموافقة الروسية والأميركية على تمديد المعاهدة من دون الالتفات إلى الثغرات التي تعتري بنودها، وأهمها ثغرة عدم قدرة أي طرف فيها أو أي طرف خارجي دولي آخر على مراقبة التزام الآخر ببنودها، تبين أن كل طرف يعمل على مناورة خاصة تتجاوز عملياً قيود “ستارت 3” بطريقة التفافية، من دون أن يُظهِر عدم التزامه بها، وذلك على الشكل التالي:
لناحية المناورة الأميركية
1. تمت الاستفادة من خفض عدد الرؤوس النووية وفقاً لـ”ستارت 3″، وذلك عبر تقسيم الرؤوس النووية الاستراتيجية الكبيرة إلى رؤوس نووية تكتية صغيرة ادّعوا أنها لا تخالف المعاهدة، لكونها لا تملك القدرة على الدمار الشامل، وهو النقطة المركزية التي تمحورت عليها فكرة خفض القدرات النووية. وبعد أن امتلكوا حتى الآن الآلاف من هذه الرؤوس النووية التكتية الصغيرة، أصبح لديهم الإمكانية والقدرة على تدمير مدن أو مناطق محددة، في ما لو تدحرجت المواجهات الاستراتيجية إلى استعمال قدرتهم النووية.
2. عمد الأميركيون إلى الانسحاب سابقاً من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، وذلك بعد أن امتلكوا صواريخ “مركّبة”، مثل منظومة “إيجيس” وغيرها، تبدو في الظاهر صواريخ دفاع جوي ضد الأجسام الطائرة وقاذفات وصواريخ، ولكنها عملياً قادرة على أن تتحول، وبعد الإطلاق، إلى صواريخ هجومية قصيرة ومتوسطة المدى، قادرة على أن تحمل الرؤوس النووية الصغيرة المذكورة أعلاه.
3. وهي النقطة الأهم في مناورتهم، عمد الأميركيون إلى الاقتراب أكبر قدر ممكن من الأراضي الروسية، ومن الجهات الأكثر حساسية بالنسبة إلى روسيا، في القوقاز أو في البلقان أو في أوروبا الشرقية، ومؤخراً في البحر الأسود وفي بحر البلطيق، وعلى السواحل الشمالية لكل من السويد والنرويج، وعلى مداخل بحر بارنتس الذي يشكل منفذ روسيا نحو القطب الشمالي، وهم اليوم ينشرون وسائل الإطلاق، من صواريخ متوسطة المدى وقاذفات استراتيجية وغواصات ومدمرات، وجميعها مجهز بروؤس نووية تكتية صغيرة، في أمكنة مناسبة قادرة على التحكّم باستهداف الأراضي الروسية بطريقة فعالة.
لناحية المناورة الروسية
أيضاً، يبدو أن الروس غير مهتمين بما تقضي به “ستارت 3” من خفض للقدرات النووية، فهم التزموا ببنودها لناحية خفض الرؤوس النووية ووسائل إطلاقها. وبعد أن حذوا حذو الأميركيين لناحية تقسيم الرؤوس النووية الاستراتيجية إلى نووية تكتية صغيرة، فعَّلوا مناورتهم أيضاً على الشكل التالي:
1. ركزوا على تطوير نوع جديد من الأسلحة، هو السلاح فرط الصوتي، وتمكنوا من صنع صاروخ فرط صوتي يحمل اسم “تسيركون” 8 ماخ (الماخ هو سرعة الصوت)، وهي سرعة لا تمنح الهدف المزمع تدميره فسحة كبيرة من الوقت لتفادي الإصابة. وباعتراف الأميركيين، تتقدم اليوم روسيا على الدول الأخرى، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، في مجال الأسلحة فرط الصوتية، وذلك وفقاً لـ”ناشيونال إنترست”.
2. تحضر الروس حالياً لوضع الصواريخ فرط الصوتية في الغواصات. ولأن الصواريخ تنطلق من تحت الماء، فمن الممكن أن تقترب الغواصة من الهدف المزمع تدميره إلى أقصى حد، وهو ما يقلص فسحة الوقت لتوجيه الضربة إلى مطلق الصواريخ.
3. طور الروس 5 برامج لأسلحة استراتيجية حتى الآن، يعتبر الأميركيون أنها تتجاوز بقدراتها بأشواط ما خفضته “ستارت 3” من القدرات النووية ووسائل إطلاقها. هذه الأسلحة هي: صاروخ “سارمات” العابر للقارات الجديد، وصاروخ “أفانغارد” الأسرع من الصوت، ونظام الصواريخ “كينجال” الأسرع من الصوت، وصاروخ كروز “بوريفيستنيك” العابر للقارات، والغواصة المسيرة “بوسيدون” القادرة على التجهيز بالأسلحة النووية.
وبعد أن عرض الرئيس بوتين الأسلحة الخمسة للمرة الأولى في آذار/مارس 2018، أطلق الأميركيون صفارة البداية لمسلسل الانسحابات من المعاهدات الصاروخية. وبعد أن ذهبوا قبل ذلك أيضاً إلى مسار تطوير صواريخ “خادعة”، مثل منظومة “إيجيس” المتعددة المهام، انسحبوا لاحقاً من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، وبعدها من معاهدة الأجواء المفتوحة، ليوافقوا مؤخراً على تمديد “ستارت 3″، بعد أن لمسوا أنها لم تعد ذات قيمة من ناحية تقييد القدرات الاستراتيجية، تبعاً لما امتلكوه – الأميركيون والروس – من قدرات نووية ومن وسائل إطلاق تضع هذه المعاهدة الاستعراضية (ستارت 3) وبنودها في مكان بعيد جداً عن ضبط تلك القدرات.
*خبير عسكري وإستراتيجي – لبنان
المصدر: الميادين
مصدر الصورة: Arms Control Association
موضوع ذا صلة: من “ملء الفراغ”.. إلى توسيعه