كان جون يبلغ من العمر 15 عاماً عندما تطوع أحد أعضاء مجموعته على موقع “فايسبوك” ليصبح “أول مفجر انتحاري أبيض في بريطانيا”، وعندما دعا آخر إلى حضور صلاة الجمعة في المسجد المحلي و”قتل الناس في أماكنهم”، فيما أراد آخر أن يشعل المسجد بالقنابل الحارقة.
تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية، في تقريرها، إنه في النهاية لم تُرَق أية دماء، إذ سرعان ما داهمت قوات الشرطة عدة منازل مرتبطة بالمجموعة. وقام جون وصديق له، هو أيضاً يبلغ من العمر 15 عاماً ويتبع أيديولوجية اليمين المتطرف، بدفن ترسانة من السكاكين والأسلحة البيضاء للتأكد من أن الضباط لن يعثروا عليها أبداً.
وتشير الصحيفة إلى أن نزعة التطرف لدى جون تنامت شيئاً فشيئاً من خلال سيل من الدعاية المضللة لليمين المتطرف. ويضرب جون مثالاً على ذلك بالقول “وُضعت منشورات تتحدث عن الجنود البريطانيين المشردين في مقابل الحديث عن منح العائلات المسلمة منازل مجانية. الآن، أعلم أن جميع هذه المنشورات كانت مزيفة. لكنني البالغ من العمر 15 عاماً لم أكلف نفسي عناء التثبت من تلك المعلومات.”
“اليمين المتطرف” في الغرب وإستغلال فراغ المراهقين خلال الجائحة
غير أن الصحيفة تلفت إلى أن الداعي الأبرز إلى مزيد من القلق هو أن أتراب جون ومعاصريه لن يتحققوا هم أيضاً من الدعاية المماثلة. بلغت موجة الدعاية المتطرفة والمعلومات المضللة أوجها في وقتٍ من العزلة والوحدة والتعليم المنزلي المفروض بفعل تدابير الإغلاق المرتبطة بجائحة “كورونا”، ما أوجد ما تسميه الشرطة “الحالة المثالية” لبث هذا النوع من الأفكار، حتى إن إحدى الجماعات اليمينية المتطرفة البريطانية بدأت الدفع بمنهجٍ مدرسي بديل يتبنى إيديولوجية تفوق “العرق الأبيض” لكي يتم استخدامه خلال التعليم المنزلي.
خلال الأسبوع الماضي، صدر حكم بالإدانة على أصغر شخص في تاريخ المملكة المتحدة يُتهم بارتكاب جريمة إرهابية. كان في الثالثة عشرة من عمره فقط، عندما قام بتنزيل دليل صنع القنابل من على شبكة الإنترنت، ليصبح هذا المراهق فيما بعد زعيماً للذراع البريطانية لجماعة إرهابية نازية جديدة تمجّد الأفراد المسؤولين عن جرائم القتل الجماعي العنصرية.
ومع ذلك، فإن الأشد إثارة للقلق في رحلة هذا المراهق السريعة من مراهق منعزل وحيد إلى زعيم الفرع البريطاني من شعبة “اتوموافين”، وهي شبكة إرهابية من “النازيين الجدد”. تأسست العام 2015 في الولايات المتحدة وتوسعت منذ ذلك الحين إلى كندا وألمانيا والمملكة المتحدة وأوروبا عموماً ليس تفرد تلك الرحلة، بل كونها جزءاً من نمط بات يتكرر على نحو متزايد، بحسب الصحيفة البريطانية.
كانت الشرطة البريطانية قد ألقت القبض على ما لا يقل عن 17 مراهقاً بعضهم لا تتجاوز أعمارهم 14 عاماً، بتهم تتعلق بالإرهاب خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية. كما ظهرت مجموعة جديدة تابعة للنازيين الجدد بقيادة شاب يبلغ من العمر 15 عاماً في مدينة ديربي، العام 2020، والأدهى أن كل أعضاء المجموعة كانوا من الأطفال. المجموعة كانت تناقش سبل مهاجمة المهاجرين القادمين عبر بلدة دوفر المطلة على بحر المانش، وكيفية الحصول على الأسلحة وتعديلها للاستخدام.
ويأتي من بين المنظمات العاملة برصد اتجاهات التطرف بين المراهقين، لجنةُ مكافحة التطرف التابعة لوزارة الداخلية البريطانية. وأكدت سارة خان، رئيسة اللجنة، لصحيفة “ذا أوبزيرفر” البريطانية، أن اليمين المتطرف “يعمل بنشاط وتخطيط متعمد على بث التطرف بين أطفال المملكة المتحدة”.
وقالت خان، التي من المقرر أن تنشر هذا الشهر تقريراً يؤرخ لإخفاقات الحكومة التي لا تحصى فيما يتعلق بإستراتيجية مكافحة التطرف، إن اللجنة وضعت يديها على محتوى متطرف ضخم ينشر، عبر منصات غير منظمة وأخرى مدفوعة، بطرق وخوارزميات يمكن أن تجتذب بسرعة عقول الشباب، مثل جون، إلى اتجاهات التطرف العنيف.
ألعاب الفيديو وأساليب أخرى لجذب المراهقين لـ “اليمين المتطرف”
تشير خان إلى “آلاف من مقاطع الفيديو والميمات وصور GIF، ومواد دعائية للنازية الجديدة تدعو إلى (قتل اليهود خنفاً بالغاز)، علاوة على مقاطع الفيديو التي تحتفي بأعمال إرهابيين مثل توماس ماير (يميني متطرف قتل النائبة العمالية البريطانية جو كوكس)”.
في غضون ذلك، كشفت دراسة حديثة عن الأساليب الجديدة التي بات يستخدمها المتطرفون اليمينيون لجذب المجندين الشباب. وأشارت الدراسة، التي أجراها باحثون لصالح مبادرة مدعومة من المديرية التنفيذية للجنة مكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة، إلى نظام “روبلوكس” لتصميم الألعاب عبر الإنترنت، على أنه أحد أبرز الوسائل التي يستخدمها متطرفون يمينيون لإعادة إنشاء نسخ من ألعاب بهدف استخدامها للترويج لفظائع اليمين المتطرف الشائنة بين هؤلاء المراهقين.
واكتشف باحثو مبادرة “تكنولوجيا في مكافحة الإرهاب” أن المستخدمين تمت دعوتهم للمشاركة في ألعاب تستحضر هجوم الإرهابي اليميني المتطرف، أندرس بريفيك، في جزيرة أوتايا النرويجية، وعملية إطلاق النار الإرهابية في مسجدي “كرايستشيرش” في نيوزيلندا، العام 2019، وأيضاً هجوم “إل باسو” الإرهابي بولاية تكساس الأمريكية، العام 2019.
كما لفتت الدراسة إلى الانتشار الملاحظ لحركة “البديل” التي تعتنق تفوق العرق الأبيض وتشهد نمواً سريعاً في أعداد معتنقيها في المملكة المتحدة بين المراهقين وصغار السن، وتوظيفها مؤخراً للعبة كول أوف ديوتي – Call of Duty ذات الشعبية الكبيرة لحشد مزيد من المؤيدين والمتابعين.
مراهقون يعولون على “اليمين المتطرف” للحصول على الوظيفة أو المال
في المحكمة، تطرق محامو المراهق البريطاني إلى شبكة معقدة من العوامل العاطفية والمادية والسياسية التي يمكن أن تجعل الشباب عرضة لاعتناق الأفكار المتطرفة. كما أشار المحامون إلى حالة العزل الاجتماعية وغياب التطور العاطفي، ومعاناة “طفولة مروعة” تشهد غياباً للوالدين.
أما جون نفسه فيقول إن إحساسه بنوع من اليأس هو ما جعله عرضة لتقبل تلك الرسائل النابعة من أقصى “اليمين المتطرف”. ففي سن الخامسة عشرة، شعر بأنه “ساقط من حسابات الجميع” بعد أن جاء في أسفل قائمة نتائج المدرسة. وتنبأ المعلمون له بنتائج صفرية في الامتحانات وأن حياته ستكون بائسة. في المقابل، جاء “اليمين المتطرف” له بوعود المستقبل.
ويقول جون إنه “كان يعوّل على اليمين المتطرف للحصول على وظيفة. فقد كانوا يقولون إنهم عندما يصلون إلى السلطة، فإنهم سيمنحون الوظائف لأشخاص مثلي.”
من جهة أخرى، عادة ما تقدم حركة “البديل” اليمينية للمراهقين الذين يشعرون أنهم فشلوا في مسارهم التعليمي التقليدي مساراً مختلفاً للتعلم. وأعدت الحركة منهجاً مختلفاً للتعليم المنزلي يشمل من “السنوات الأولى حتى المرحلة الأساسية الرابعة (الثانوية)”، وهو منهج يركز بشدة على العرق الأنغلو – سكسوني وتاريخه، ويخصص أقساماً لدراسة شخصيات يتبنى فكرها مثل الشاعر الفيكتوري، ألفريد تنيسون.
استغلال التعليم المنزلي في الدعوات للتطرف
على الجانب الآخر، يحذر المسؤولون من أن غياب الإشراف الحكومي على التعليم المنزلي يهدد بانتشار الأفكار المتطرفة بين الأطفال. ويعمد “اليمين المتطرف” إلى إنشاء مجموعات وبث مقاطع فيديو، جمهورها الأساسي من المراهقين، تتحدث عما يسميه “الإبادة الجماعية للبيض” والمخاوف من أن تصبح الأقليات السوداء والملونة والآسيوية هم “الأسياد الجدد”.
ويقول جون إنه أيضاً انشغل لفترة بمفاهيم الحرب بين الأعراق والأديان، ويشير إلى أن الجميع “كانوا يفكرون بوصفهم جنوداً في معركة، يتحدثون عن الدفاع عن ثقافتنا، والدفاع عن بلدنا”.
وبالإشارة إلى بداية جون في التعرف إلى أفكار “اليمين المتطرف”، يقول باتريك هيرمانسون من مجموعة الأمل لا الكراهية – Hope not Hate المعادية للعنصرية، إن الإنترنت يقدم طريقة سريعة وبسيطة للمراهقين لتخطي حدود الدول وإنشاء هوية جديدة لأنفسهم.
بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسة التي أجرتها مبادرة “تكنولوجيا في مكافحة الإرهاب” إلى أن المتطرفين يستخدمون إشارات رمزية فيما بينهم على منصات الألعاب مثل “روبلوكس” لتجنيد شباب جدد عبر الإنترنت. وتقول الدراسة إن المتطرفين استخدموا إشارات إلى ألعاب كمبيوتر مثل Minecraft في منشوراتهم من أجل إخفاء رسائلهم على أنها مجرد محادثة ألعاب عبر الإنترنت.
“إنقاذ الصغار الذين أغوتهم دعاوى التطرف”
وتستشهد الدراسة بأحد الأمثلة، التي وردت عبر تطبيق المراسلة الاجتماعية “تلغرام”، إذ تضمنت مجموعة من الرسائل تعليمات شاملة حول كيفية صنع القنابل.
وينتقد آدم هادلي، مدير مبادرة “تكنولوجيا في مكافحة الإرهاب” ذلك بالقول “كل يوم ترى المتطرفين اليمينيين والمجموعات الإرهابية العنيفة تستغل ثقافة الشباب، ليس فقط للانحراف عن الأفكار المعتدلة، بل ونشر التطرف بين الشباب أنفسهم.”
ويقول هادلي إنهم يريدون أن تكون الحكومات قادرة على إزالة قدرٍ أكبر من المحتوى اليميني المتطرف من خلال تصنيف المزيد من المجموعات المتطرفة على أنها منظمات إرهابية.
كما أن هناك قضية ملحة أخرى، وهي كيفية إنقاذ الصغار الذين أغوتهم دعاوى التطرف. وفي هذا السياق، تلقى المراهق الذي حُكم عليه في بريطانيا أمراً بالخضوع لبرنامج إعادة تأهيل لمدة 24 شهراً لمساعدته في التخلص من التطرف.
“اقتباسات مزيفة من القرآن تدعو للحرب على الشعب البريطاني”
يقول جون إنه بات يعرف كيف يمكن لإيديولوجيات الكراهية أن تستحوذ على الإنسان. فبحلول الوقت الذي بلغ فيه 18 عاماً، العام 2019، كان مقتنعاً بشدة برسائل “اليمين المتطرف” لدرجة أنه شارك علناً تعليقات عنصرية ومعادية للمهاجرين مع أقرانه في الكلية.
لكن بعدما ألقي القبض على جون وأُحيل للالتحاق ببرامج الحكومة لمكافحة التطرف بريفنت – Prevent، ثم برنامج تشانيل – Channel، التي تقدم الدعم والتوجيه وسبل إعادة التأهيل، سرعان ما تبين له زيف “الإقتباسات” من القرآن، والتي لطالما اعتقد جون أنها تتضمن دعوة للحرب على “الشعب البريطاني”. إذ طلب منع معلمه تحديد موضع تلك الاقتباسات في نسخة إلكترونية من القرآن، فلم يجد إلا موضعاً واحداً فقط، وحتى ذلك الموضع كانت الإحالة إليه “تستلزم إخراجه عن سياقه إلى حد كبير”.
يقول جون إن تلك اللحظة كانت “لحظة الإستنارة بالنسبة إلى، فقد أدركت أنهم كانوا يكذبون عليّ”، وعلى مدى الأسابيع الخمسة التالية، أخذ يبحث بجدية ويتحرى عن تلك “الحقائق” التي آمن بأنها تدعم عقيدته اليمينية المتطرفة. بعد اكتشافه الحقيقة، يقول جون “أدركت أنه يجب عليّ التخلي عن تلك الأفكار. لم أعد أريد أن أكره الإسلام، ولا أريد أن أكره المسلمين. لم أعد أريد أن أكره. كانت هذه نقطة فاصلة.”
المصدر: عربي بوست.
مصدر الصور: Getty – القبس.
موضوع ذا صلة: أثر “الترامبية” على البنية الداخلية الأمريكية