حرزت الجهود الفلسطينية الرامية إلى وضع جرائم إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بعض التقدم، بعد قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة الصادر، 5 فبراير/شباط 2021(1)، بأغلبية اثنين إلى واحد، أن للمحكمة اختصاصاً قضائياً على دولة فلسطين التي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، بإعتبارها دولة طرفاً في ميثاق روما.
وقد أتى هذه القرار بعد أن أقرت المدعية العامة للمحكمة، فاتو بنسودا، العام 2019، بوجود “أساس معقول للشروع في إجراء تحقيق في الحالة في فلسطين”، وبأن “جرائم حرب قد ارتكبت أو ترتكب في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة”(2)، لكنها طلبت من الدائرة التمهيدية للمحكمة البت في نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة؛ أي ما النطاق الإقليمي لهذا الاختصاص؟ ذلك أن حدود دولة فلسطين غير محددة حتى الآن.
يفتح هذا القرار الطريق أمام المدعية العامة للانتقال من مرحلة التحقيق الأولي إلى مرحلة التحقيق في عدد من الملفات التي أحيلت إليها، أبرزها الجرائم التي ارتكبت في الحرب على غزة العام 2014 والاستيطان.
الجهود الفلسطينية والمحكمة الجنائية الدولية
يأتي هذا القرار بعد أكثر من عشر سنوات من المحاولات الفلسطينية تحميل إسرائيل المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب التي تقوم بها، وقد بدأت أولى هذه المحاولات بعد الحرب على غزة، عامي 2008 – 2009، لكنها لم تنجح. ومع تعثر المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تغيرت سياسة السلطة في اتجاه السعي لإنتزاع الاعتراف بوجود دولة فلسطينية تحت الاحتلال، وذلك عن طريق تفعيل إعلان الدولة العام 1988، والإنضمام الى الأمم المتحدة ومؤسسات دولية أخرى.
وبعد أن منحت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين وضع “دولة مراقب غير عضو”، العام 2012، أصبحت الطريق ممهدة للانضمام إلى مؤسسات ومعاهدات دولية. وقد استعملت القيادة الفلسطينية وضعها بوصفها دولة مراقباً (وإن لم تحظَ باعتراف واسع في الدول الغربية) لتحدي إسرائيل في عدة مواقع على مستوى المنظمات الدولية والضغط عليها وعلى حلفائها بهدف استئناف المفاوضات المتعثرة.
وبعد الحرب على غزة العام 2014، ازدادت الضغوط والمطالبات الشعبية على القيادة الفلسطينية بالانضمام إلى ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، والذي يعني فعلياً الانضمام إلى المحكمة والقبول باختصاصها؛ الأمر الذي حصل فعلاً العام 2015. ومع أن الانضمام حصل العام 2015، فإن طلب الانضمام يعطي المحكمة الاختصاص القضائي على إقليم دولة فلسطين، اعتباراً من 13 يونيو/حزيران 2014، أي قبل بداية العدوان على غزة. وبعد الإنضمام، قرر مكتب الادعاء إجراء تحقيق أولي في “الحالة في فلسطين”، والتي تعني مجموعة من الجرائم التي توجد مؤشرات على وقوعها.
ومع ذلك، لم تتحرك القيادة الفلسطينية جدياً لتفعيل عضويتها، بل اكتفت بالانضمام إلى معاهدات أخرى باعتبارها وسيلة ضغط. لكن بعد قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إلى القدس، كان الرد الرسمي الفلسطيني، بداية العام 2018، بإحالة الوضع في فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، والطلب من المدعية العامة “التحقيق بالجرائم التي حصلت، والتي تحصل حالياً، والتي سوف تحصل في المستقبل، والتي هي ضمن اختصاص المحكمة”.(3) وقد أزالت هذه الإحالة بعض المعوقات الإجرائية التي كان من الممكن أن تؤخر أي تحقيق في الحالة، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، ومع أن إسرائيل لم تتعامل على نحو مباشر مع المحكمة وامتنعت عن تقديم أية مذكرات لها لشرح موقفها، فإنها شجعت مؤسسات إسرائيلية وغير إسرائيلية متعاطفة معها على تقديم مذكرات لتفنيد الموقف الفلسطيني، كما أنها شجعت شخصيات حقوقية معروفة ودولاً حليفة لها، مثل هنغاريا والتشيك والنمسا والبرازيل وأوغندا، على تقديم مذكرات تشرح وجهة النظر الإسرائيلية.(4)
وتحاول إسرائيل في تعاملها هذا مع المحكمة أن تطرح موقفها وحججها القانونية من دون المشاركة المباشرة في الإجراءات، وفي الوقت نفسه التشكيك في شرعية المحكمة وقراراتها لأنها لم تكن طرفاً في الإجراءات.
معنى القرار وتداعياته
بعد قرار المحكمة الأخير، أصبح الشروع في تحقيق رسمي في الجرائم هو الخطوة العملية القادمة. ولا يعني هذا بالضرورة أن محاكمة الضباط والسياسيين الإسرائيليين أصبحت قريبة؛ فالتحقيق في الجرائم لن يركز فقط على الطرف الإسرائيلي، بل سوف يشمل أموراً أخرى قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية مثل إطلاق الصواريخ على تجمعات السكان الإسرائيلية. وسوف تستغرق التحقيقات فترة طويلة قد تصل سنوات. فطوال فترة وجود المحكمة، منذ العام 2002، تولّت 30 دعوى فقط، كانت نتيجتها 9 إدانات و4 أحكام بالبراءة.(5)
ومع أن مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية قد وثقت العديد من الجرائم وجمعت أدلة كثيرة على ذلك، فإن التحقيق في الجرائم الدولية مسألة معقدة وتتطلب وقتاً وجهداً كبيرين. ومن المتوقع أيضاً أن تعمل إسرائيل جدياً على عرقلة هذه التحقيقات سياسياً ولوجستياً. وفعلاً، بدأت إسرائيل منذ فترة طويلة في العمل السياسي والدبلوماسي مع دول حليفة لثني المحكمة عن النظر في الجرائم، ويأتي المرسوم الرئاسي الذي أصدره ترامب بشأن العقوبات ضد طاقم المحكمة في هذا السياق.(6)
وإضافة إلى الجهد السياسي، ففي استطاعة إسرائيل أن تصعّب عمل المحققين لوجستياً بطرق شتى، كمنعهم من زيارة الضفة الغربية وقطاع غزة، أو منع الشهود من الإدلاء بشهادتهم عن طريق الترهيب، أو حتى إصدار أمر عسكري أو قانون في الكنيست الإسرائيلي يجرّم التعامل مع المحكمة أو المساهمة في عملها، فضلاً عن العمل المخابراتي غير المعلن الذي قد يستهدف المحققين والخبراء والشهود، كحملات الابتزاز والتضليل والقرصنة الإلكترونية. كما أن التغييرات في مكتب الادعاء قد يكون لها تأثير؛ المدعية العامة الحالية، فاتو بنسودا، سوف تنتهي فترة ولايتها في يونيو/حزيران 2021، وقد اختارت الجمعية العامة للدول الأعضاء في المحكمة المحامي البريطاني، كريم خان/ لتقلد المنصب. ويذكر أن خان، الذي كان قد ترأس في السابق طاقم الدفاع عن سيف الإسلام القذافي في الدعاوى ضده في المحكمة الجنائية الدولية، كان المرشح المفضل لإسرائيل لخلافة بنسودا.(7) وسوف يكون للمدعي العام الجديد تأثير كبير في أولويات الادعاء وكذلك في مجريات التحقيق واختيار الملفات.
توجد أيضاً عوائق قانونية خاصة فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبت في غزة من ناحية التكاملية ومقبولية الدعوى Admissibility. فميثاق روما ينص على أن اختصاص المحكمة هو اختصاص مكمّل لاختصاص المحاكم المحلية. وبناء على ذلك، ووفقاً للمادة 17(1) (أ) لميثاق روما، فإن المحكمة غير مخولة بقبول النظر في جرائم “إذا كانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها ولاية عليها وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني، ما لم يكن القرار ناتجاً عن عدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها حقاً على المقاضاة”.
وقد عملت الجهات القانونية الإسرائيلية على الاستعداد لاستعمال هذه المادة عن طريق تعزيز قسم القانون الدولي في وزارة العدل الإسرائيلية، وفي النيابة العسكرية التي تعنى بالتحقيق في الجرائم التي يقترفها العسكر. وعلى الرغم من كون هذه التحقيقات في أغلبها صورية ولا ترتقي إلى المعايير الدولية للتحقيقات الجنائية(8)، فإنها جزء من خطة الدفاع الإسرائيلية. وإضافة إلى ذلك، فقد عيّن الجيش طاقماً يرأسه ضابط برتبة جنرال لتنسيق الرد على أي تقدم في التحقيقات في المحكمة الجنائية.(9)
ومن المهم هنا الإشارة الى أن التكاملية قد تكون عائقاً فيما يتعلق بجرائم إسرائيل في غزة، لكنها لن تكون عائقاً فيما يتعلق بالاستيطان. فإسرائيل لا ترى في الاستيطان في الأراضي المحتلة جريمة حرب، ولا يوجد ما يجرّمه في القانون الاسرائيلي ولم تفتح أية تحقيقات حوله، بل على العكس، هو السياسة الرسمية للحكومة.
لذا، سيكون التحقيق بشأن الاستيطان الأسهل قانونياً وتقنياً؛ إذ إن المعايير القانونية بشأن تحريم الاستيطان واضحة ولا جدال فيها، وقد شددت عليها أذرع الأمم المتحدة المختلفة، بما فيها مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية. كما أن التحقيق في هذا الموضوع سيكون أقل تعقيداً، بسبب كون الاستيطان سياسة رسمية للدولة، فإن الوثائق التي تتعلق به والأشخاص الذين أمروا به وصدقوا عليه موجودة وجزء من الوثائق الرسمية الموجودة في الحيز العام. كما أن سلسلة القيادة تمتد من صغار الضباط في الإدارة المدنية ووزارة الدفاع إلى رئيس الوزراء.
كذلك الأمر بالنسبة إلى جريمة الأبارتهايد (التطهير العرقي). فنظرياً، يمكن إثبات عناصر الجريمة من دون تحقيقات تفصيلية التي هي في حاجة إلى شهود ووجود في ميدان الجريمة، ويوجد ما يكفي في الحيز العام من وثائق تعكس السياسات والإحصائيات التي تثبت جريمة الأبارتهايد.
القانون الدولي: بين السياسة والقانون
يأتي هذا النقاش حول القضاء الجنائي الدولي في سياق أوسع، وهو مدى إمكانيات العمل القانوني فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومحدوديته. فمع وجود إمكانيات لتحقيق بعض الإنجازات، فإن الاستراتيجية القانونية يجب أن تكون مبنية على فهم القانون الدولي باعتباره نتاج علاقات قوة وتعبيراً عنها؛ فهو نوع من السياسة، لكن بقواعد مُعينة ومنطق مختلف، ويعتمد بدرجة كبيرة على مواقف وأفعال الدول (أي السياسية)، إذ يفتقر إلى آلية تنفيذ مركزية، الأمر الذي يُبقي تنفيذه في يد الدول التي تتعامل مع الموضوع بحسب مصالحها.
ويجب الانتباه الى أن العديد من المصائب التي حلت بالفلسطينيين هي من صنع القانون الدولي. صحيح أن تطورات في المنظومة الدولية جعلت القانون الدولي عاملاً مهماً لا يمكن إهماله، وقد استخدمته منظمة التحرير الفلسطينية وحركات تحرر وطني أخرى في سبعينيات القرن العشرين، لكنه في حد ذاته ليس أداة تحرير، بل قد يكون له دور في إطار مشروع نضالي سياسي، أما خارج أي مشروع سياسي نضالي فقد يكون مصيره مثل مصير قرارات الجمعية العامة، وحتى مجلس الأمن بشأن فلسطين، والتي لا تنفذ، هذا مع أهمية وضع أسماء مسؤولين إسرائيليين بوصفهم مشبوهين أو حتى مطلوبين، وهو ما تخشاه إسرائيل لناحية مكانتها الدولية.
لكن ما يحصل اليوم من تركيز القيادة الفلسطينية الشديد على موضوع القانون الدولي ليس نتاج استراتيجية مدروسة وجزءاً من خطة عمل سياسية شاملة لحركة تحرر وطني. ويدلّ تصرف القيادة الرسمية الفلسطينية، على مدار العقد الماضي، على أن العمل القانوني هو فقط وسيلة ضغط من دون استراتيجية واضحة.
لذلك، دخلت القيادة في أخطاء كثيرة، مثل الالتزام بمعاهدات ومواثيق دولية من دون تحفظات بما يتناسب مع الظروف الخاصة والمصالح الحيوية كما هو متبع، وكذلك من دون دراسة إمكانية استخدام إسرائيل وداعميها هذه المعاهدات ضد المصالح الفلسطينية. حتى في موضوع المحكمة الجنائية الدولية، سوف يكون من الأسهل قانونياً محاكمة أعضاء الفصائل العسكرية للقوى السياسية الفلسطينية مقارنة بالجنود الإسرائيليين، وهذا ما أشارت إليه المذكرة التي قدمتها المدعية العامة إلى المحكمة؛ فقد قالت إن فحص مقبولية الدعوى فيما يتعلق بالجنود الإسرائيليين هي موضوع تحت البحث، لكن فيما يتعلق بالفصائل الفلسطينية فإن المقبولية لن تكون عائقاً.(10)
خاتمة
مع أن هذا القرار يعد تطوراً إيجابياً، فإنه لا يعني أن الأوضاع سوف تتغير جذرياً. ما زالت الطريق إلى النجاح طويلة ومحفوفة بمخاطر عديدة، تشمل احتمال استعمال المحكمة ضد الفلسطينيين ذلك أن القانون الدولي سيف ذو حدين، وهو لا يعدّ في حد ذاته وسيلة نضال وتحرر.
إن الاعتماد الكلي على القانون الدولي من دون استراتيجية تحرير واضحة هو رهان محكوم بالفشل. طبعاً لا يعني أن على الفلسطينيين تجاهل القانون الدولي في نضالهم، إذا توفَّر مشروع وطني نضالي. على العكس، يجب أن يكون القانون الدولي إحدى الأدوات المهمة في عمل سياسي شامل، وليس بديلاً من السياسة.
المراجع:
1. أنظر:
“Decision on the ‘Prosecution Request Pursuant to Article 19(3) for a Ruling on the Court’s Territorial Jurisdiction in Palestine’” International Criminal Court, 5/2/2021, accessed on 14/2/2021, at: https://bit.ly/3dfZ5bZ
2. أنظر:
“Statement of ICC Prosecutor, Fatou Bensouda, on the Conclusion of the Preliminary Examination of the Situation in Palestine, and Seeking a Ruling on the Scope of the Court’s Territorial Jurisdiction,” International Criminal Court, 19/12/2019, accessed on 14/2/2021, at: http://bit.ly/2ZeXk6L
3. أنظر:
“Referral from the State of Palestine Pursuant to Articles 13(a) and 14 of the Rome Statute,” ICC Legal Tools Database, 22/5/2018, accessed on 14/2/2021, at: https://bit.ly/2ZbX5cy
4. القائمة الكاملة للدول التي قدمت دفوعاً والمنظمات والباحثين الذين شاركوا بصفتهم جهات صديقة للمحكمة موجودة في القرار: “Decision on the ‘Prosecution Request Pursuant to Article 19(3)’.”
5. أنظر:
“Facts and Figures,” International Criminal Court, accessed on 14/2/2021, at: http://bit.ly/37e0prZ
6. أنظر:
“Blocking Property of Certain Persons Associated with the International Criminal Court,” Federal Register, 11/6/2020, accessed on 14/2/2021, at: http://bit.ly/3agEQce
أنظر:
“UK’s Karim Khan Elected next ICC Prosecutor, will Replace Controversial Bensouda,” The Times of Israel, 13/2/2021, accessed on 14/2/2021, at: http://bit.ly/2ZlIQSp
8. “عامان على العدوان على غزّة: 27 ملفاً في شبهات لجرائم حرب، صفر إدانات” المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل – عدالة، 31/8/2016، شوهد في 14/2/2021، في: http://bit.ly/3rSfZBD
9. ليلاخ شوفال ويئير ألتمن، “جاهزية لاهاي: الجيش يعين منسقاً لمجابهة المحكمة”، إسرائيل هيوم، 7/2/2021، شوهد في 14/2/2021، في: https://bit.ly/3qnZNb4 (بالعبرية)
1. أنظر:
“Prosecution Request Pursuant to article 19(3) for a Ruling on the Court’s Territorial Jurisdiction in Palestine,” International Criminal Court, 22/1/2020, para. 94, accessed on 14/2/2021, at: https://bit.ly/37e18cH.
المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
مصدر الصور: مركز العودة الفلسطيني – العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: واشنطن تهدد الجنائية الدولية وقُضاتها بإجراءات “رادعة”