د. عبدالله الأشعل*
أظن أن من حقي كمواطن أولاً ودبلوماسي سابق ثانياً ومراقب يهمه مصلحة مصر ثالثاً أن أضع هذه التساؤلات، وألا أقصد أن أجرّح أحداً وإنما الهدف هو فتح الموضوع للنقاشين العام أو الخاص. لا تزال العلاقات الدبلوماسية الثنائية مقطوعة منذ 42 عاماً، وهي أطول فترة في تاريخ العلاقات الدولية، كما أن أبواب مصر موصدة بإحكام في وجه إيران. ونحن هنا لا نلوم أحداً، وإنما نبحث عن مصالح مصر مع إيران، والعوائق التي تحول دون إقدام الحكومة على تحقيق هذه المصالح.
أولاً: بالنسبة للعلاقات الدبلوماسية، صحيح أن “إيران الثورة” هي التي قطعت العلاقات مع مصر يوم كانت الثورة مشتعلة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر، وهم شركاء مشروع واحد لصالح إسرائيل. وصحيح أن علاقة الشاه بواشنطن وتاريخ قهر الشعب الإيراني من جانبه، بدعم أمريكي لمصالح أمريكية مؤكدة، هي المسؤولة عن قيام الثورة. كما أن عنف قمع الشرطة للثوار هو الذي حولهم صوب العنف، ثم حركة التطهير. فقد رأت القيادة الثورية أن السلطة قد فسدت بالمطلق ويستحيل إصلاحها، فأقامت سلطة جديدة بعد أن تخلصت من السلطة القديمة التي سبق لواشنطن والموساد أن إخترعوها والتي “أعطبت فارسيتهم”.
لا شك أن واشنطن كانت تعوّل على قيادتي الجيش والأمن لإحباط الثورة؛ فلما انتصرت الثورة عليهم، أقامت لهم المشانق، وهذه هي اللحظة التي أغرت بها واشنطن الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، كي يهاجم السلطة الجديدة التي أعدمت القيادات العسكرية، وتحوّل سلاحها إلى خردة بعد حظر السلاح الذى فرضته واشنطن، بل إن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، نفسه إعترف بأنه هو من أقنع صدام حسين بأن غزوه لإيران، رغم غرابته الجيو – سياسية، على أنه “نزهة”. فهو بذلك أراد أن يُوقع البلدين في صراع محموم ليتخلص منها معاً بنهاية المطاف (ولعل الهجوم العراقي والجيش الإيراني كانا في أسوأ حالاتهما)، وكي يمكّن بلاده من إطلاق سراح رهائنها الدبلوماسيين الذين احتجزهم الحرس الثوري الإيراني لعدة شهور.
ربما فكرت “إيران الثورة” أن قطع العلاقات مع مصر سيرغم الأخيرة على التراجع عن صفقة “كامب ديفيد” أو التقارب من إسرائيل، لأن هذا التقارب دعم لإسرائيل ضد إيران، خاصة وأنها إعتقدت، صواباً أم خطأً، أن الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، فرّط بالقدس فرفعت هي شعار “تحرير القدس”. والطريف أن الرئيس صدام حسين هو الآخر رفع شعار “تحرير القدس” ولكن عبر غزو الكويت، فكان ذلك نهاية العراق ونهايته معاً.
لقد تسرعت إيران وأساءت تقدير الموقف مع مصر؛ ولما إستفاقت بعد ذلك بسنوات، عارضت فيها مصر بكل الساحات وحاربت خطها المتقارب مع إسرائيل، ثم حاولت استعادة العلاقات معها، بعد أن أوغل الرئيس السادات في معاملة الشاه نكاية بالثورة وربما تعويضاً عن نكران واشنطن له. لكن الغريب أن الرئيس السادات نفسه لم يسستفد من درس الشاه مع واشنطن، حتى قررت الأخيرة له أيضاً الجزاء والمكافأة التي يستحقها كل شخص يربط طموحه الشخصي بها على حساب وطنه.
وفي جنيف العام 2003، التقى الرئيس الراحل، محمد حسني مبارك، بالرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، في نوع من التقارب بين البلدان، لمن وعلى ما يبدو تدخلت كل من واشنطن وإسرائيل في اللحظة الأخيرة.
ثانياً: بالنسبة إلى العلاقات الإقتصادية الإستثمارية والسياحية، لا يشترط لتطوير العلاقات غير السياسية وجود علاقات دبلوماسية كاملة، فلقد تحارب العراق وإيران ولم تقطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، فوجودها لا يمنع الحرب وغيابها لا يمنع تطوير بقية أنواع العلاقات. لكن إعادة العلاقات ظل رغبة إيرانية لا يقابلها إيجاب مصري، بل لم تأبه مصر للمصالح المؤكدة مع إيران، وأهمها التبادل التجاري واعتماد مصر عليها في كل مقومات التنمية والخيرات والعلوم التي طورتها طهران تحت الحصار والعقوبات.
أما المزايا المترتبة على السياحة فهي مؤكدة في ضوء عشق الإيرانيين لآل البيت وحبهم لمصر، وتشرّف مصري بإستضافة جثمان شهيد الأمة الحسين بن علي والسيدتين زينب ونفيسة وعدد من آل البيت الذين يتشرف المصريون ويسعدون بهم، وأنا واثق أن السياحة الدينية وحدها ستجلب ما لا يقل عن 10 ملايين سائح إيراني سنوياً، يضاف إلى ذلك أن بلاد فارس في العصر الفرعوني كانت قد غزت مصر مرتين قرابة 300 عاماً، حيث تمازجت فيها الثقافتين المصرية والفارسية، وتغذت اللغة المصرية من المصادر الفارسية. إنها علاقة بين حضاراتين، فضلاً عن أن نصف التراث الفكري الإسلامي على الأقل من أصل فارسي، ذلك يوم كانت المدن الفارسية معيناً لا ينضب للفقه الإسلامي والحديث، وما البخاري ومسلم عنا ببعيدين.
إن الوشائج الدينية والثقافية والاجتماعية حميمة بين مصر وإيران، أضف إليها أن أجمل أخوات الملك فاروق، فوزية، قد تزوجها الشاه محمد رضا بهلوي الذي دفن بالقاهرة أيام الرئيس السادات إلى جانب أبيه. وهناك روايات تؤكد أن الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، قد رعى، العام 1964، التيارات الثورية ضد الشاه لأنه كان حليفاً لإسرائيل؛ لكن العلاقات بين الرئيس السادات وأعداء الثورة الإيرانية إزدهرت، مما توثقت علاقاته بإسرائيل “ناكثاً” عن طريق الرئيس عبد الناصر. أيضاً، إن اشتداد موجة القومية العربية التي رعاها الرئيس عبد الناصر في الخليج، كانت تهدف إلى المحافظة على عروبة الخليج في مواجهة الزحف فارسي عليه ظناً منه أن الصراع مع الفرس هو صراع قومي، لكنه كان في الواقع صراعاً سياسياً، كما أوضحنا في مقال سابق.
من هنا، إن المصالح المصرية المؤكدة من بناء علاقات مصالح مع إيران واستعادة العلاقات الدبلوماسية هي تجاوب مع إيران، التي تمد أيديها لمصر، والأهم أنها تحقق مصالح البلدين ولكن مصالح مصر أكثر. قد يحاول البعض القول بأن واشنطن وإسرائيل والسعودية والإمارات تضع قيداً على قرار مصر في هذا الاتجاه؛ وردي هو أن هذه الدول تقيم أفضل العلاقات مع إيران، وعلاقاتها الدبلوماسية والإستراتيجية مع السعودية على أحسن حال رغم التوتر بين البلدين لأسباب كثيرة، إلا أن مصدر التوتر الحقيقي هو تحالف الررياض مع واشنطن، ومجاملتها لها في عدائها لإيران.
أيضاً، إن قيل أن إسرائيل لا ترغب لمصر بالتقارب من إيران وكذلك السعودية، أقول أن مصر مستقلة لا تتدخل في سياسات هذه الدول، بل إن التقارب المصري – الإيراني سيكسب القاهرة نقلة إضافية يجعلها صالحة للوساطة بينا وبين كل من الرياض وواشنطن، كما أنها تستطيع التخفيف من حدة التوتر بين إيران وإسرائيل. برأيي، لا أظن أن الحكومة المصرية إذا رأت مصالح البلاد مع إيران ستغلّب ضغوط الدول الأخرى لمنعها من تحقيق هذه المصالح.
إننى أرجو أن تدرس الحكومة المصرية، وبجدية، فرصة لاستمرار الأيدي الإيرانية الممدودة للتقارب مع مصر، مع علمي اليقين بأن إسرائيل تريد أن تستخدم مصر كـ “ورقة ضغط” على طهران، لكن السلطة في القاهرة لديها القدرة على تغليب مصالحها مع إيران، ثم أنها لا تضر أحداً لا بل ربما تخفف أي اعتماد لمصر على هذه الدول إن وجد.
أخيراً، إن مصالح النظام يتطابق في هذا الملف بالذات مع مصالح الوطن، على سبيل المثال، فكلا البلدين، مع روسيا، يدعمان الحكومة السورية وهو أمر ضد سياستي السعودية وإسرائيل، لكن هذا الأمر لا يضير مصر المستقلة في شيء.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: Getty Image – راديو سوا.
موضوع ذا صلة: المقاومة ضد إسرائيل.. بين العرب وإيران