قبرص ثالث أكبر جزيرة في البحر المتوسط وتبعد عن تركيا نحو 65 كلم فقط؛ وحتى لو لم يكن في قبرص أتراك، ستبقى ذات أهمية بالغة بالنسبة لتركيا بسبب هذا القرب والموقع الجغرافي. ومع ظهور اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط، زادت أهمية قبرص بالنسبة لتركيا التي تريد أن تكون لاعباً إقليمياً قوياً، ولذا فإنها تعتبر قبرص بمثابة حاملة طائرات وجنود عسكرية لها في شرق المتوسط، وحالياً يقيم نحو 40 ألف جندي تركي في شمال الجزيرة.
ويشهد الموقف التركي من القضية القبرصية مقاربة جديدة حالياً، مع اشتداد الصراع في شرق المتوسط، وذلك من خلال التخلي تماماً عن الحل الأممي المطروح لتوحيد الجزيرة في إطار فيدرالي، وطرح “صيغة” جديدة تقوم على بقاء الجزيرة مقسمة، مقابل “تسهيل التعاون” بين شطري الجزيرة في جميع المجالات، مما سيمهد، وفق الجانب التركي، لبقاء الانقسام وفتح الطريق إلى الاعتراف بجهوريتين قبرصيتين منفصلتين. كما أن الطرح التركي الجديد الذي تتناوله هذه الورقة، يهدف لمنع اليونان وقبرص من استخدام الصراع في شرق المتوسط من أجل فرض أمر واقع فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية، يحرم تركيا من المشاركة في مشاريع النفط والغاز هناك، ويهمش الطائفة التركية القبرصية.
التمهيد للطرح التركي الجديد في قبرص
منذ الاحتفالات بالذكرى الـ 36 لـ “التدخل العسكري التركي” في شمال قبرص يوليو/تموز 2020، بدأت تركيا رسمياً في طرح صيغة جديدة للحل في الجزيرة تقوم على “دولتين جارتين ذات سيادة، تتعاونان في جميع المجالات” وهو ما قدمه للمرة الأولى الرئيس رجب طيب أردوغان في كلمته في تلك المناسبة حينها. ومنذ ذلك الحين، عملت أنقرة على التمهيد لطرح هذه الصيغة بقوة من خلال التدخل المباشر والسافر في الانتخابات الرئاسية للطائفة القبرصية التركية، التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، والتي فاز بها الرئيس أرسين تاتار القومي التوجه والمدعوم من أنقرة، وذلك للتخلص من عقبة وجود الرئيس مصطفى أكنجي الذي كان يؤيد حل توحيد الجزيرة وفق الطرح الفدرالي.
فقبل الجولة الأولى من الانتخابات، قام تتار (وكان يشغل منصب رئيس وزراء القبارصة الأتراك حينها) بزيارة مفاجئة إلى أنقرة والتقى بالرئيس أردوغان الذي أعلن في مؤتمر صحفي حينها عن قرار فتح مدينة فاروشا القبرصية للسياحة، وهي المدينة التي بقيت مغلقة منذ التدخل العسكري التركي في الجزيرة العام 1974 وفق قرارات مجلس الأمن؛ كما أعلن عن تقديم منح مالية للقبارصة الأتراك من أجل مساعدتهم على تجاوز الوضع الاقتصادي السيء بسبب جائحة “كورونا”. وكان لهذه القرارات الأثر البالغ في تقدم تاتار في الجولة الثانية من الانتخابات على الرئيس أكنجي، الذي خسر إمكانية الحكم لدورة ثانية. كما زار الرئيس أردوغان، برفقة شريكه في الحكم القومي دولت باهشلي، شمال قبرص التركية لتهنئة تاتار بفوزه في الانتخابات وجال في شوارع مدينة فاروشا.
ومنذ ذلك الحين، استبدلت الدبلوماسية التركية مصطلح “تقاسم الثروات” في حديثها عن حقوق الطائفة القبرصية التركية، بمصطلح “التعاون البنَّاء” بين الطائفتين القبرصيتين في الجزيرة. ويقوم الطرح التركي الجديد على الفكرة الآتية “طالما أن القبارصة اليونانيين غير مستعدين بعد لتقاسم الحكم مع القبارصة الأتراك، فإنه من الأفضل تأجيل المفاوضات في ملف تقاسم الحكم، والبدء في إجراءات لتعزيز الثقة بين الطرفين، في عدة مجالات حيوية، منها الملاحة الجوية، المياه، الصحة والزراعة والسياحة والثروة النفطية”، مع وضع مقترح تزويد تركيا للجزيرة بأكملها بمياه الشرب العذبة، من خلال خط المياه الذي أنشئ تحت البحر بين مدينة مرسين التركية وشمال قبرص التركية.
جولة مفاوضات فاشلة مع تقديم تركيا لطرحها الجديد
جرت في جنيف، بين 27 و29 أبريل/نيسان وتحت مظلة الأمم المتحدة، جولة غير رسمية من مفاوضات 5+1 (تركيا وقبرص الشمالية، واليونان وجمهورية قبرص والأمم المتحدة بالإضافة إلى بريطانيا)، وفي نهاية هذه الجولة أعلن الأمين العام للأمم المتحدة فشلها “إذ لم نجد أرضية مشتركة بين الطرفين”. وتم الاتفاق على إعادة المحاولة مجدداً من خلال عقد جولة مفاوضات غير رسمية جديدة بعد 3 أشهر. والسبب الرئيس لفشل المفاوضات هو تقدُّم الجانب القبرصي التركي بورقة غير رسمية للحل تقوم على 6 مواد، يمكن اختصارها بإصرار الجانبين التركي والقبرصي التركي على تغيير قواعد المفاوضات من التفاوض على توحيد الجزيرة ضمن حل فدرالي، وهو الحل الذي تطرحه الأمم المتحدة، إلى التفاوض من أجل تقسيم الجزيرة بين جمهوريتين لكل منهما سيادته المستقلة، سواء ضمن حل كونفدرالي أو جمهوريتين منفصلتين تكون كلاهما عضواً في الاتحاد الأوروبي. ويعتبر هذا الطرح تغيراً جذرياً في الموقفين التركي والقبرصي التركي.
وكان من غير المفاجئ أن ترفض الجمهورية القبرصية واليونان هذا الطرح. فقبرص تعتبر أن الوقت يجري لصالحها، وأن بقاء الوضع الراهن يضع ضغوطاً على أنقرة والطائفة القبرصية التركية التي سيمنعها الوضع الراهن من الحصول على قسم من ثروات النفط والغاز في محيط الجزيرة القبرصية بشكل قانوني. كما تستخدم قبرص واليونان عضويتهما في الاتحاد الأوروبي للضغط على أنقرة في الملف القبرصي، ومطالبة أنقرة بتقديم تنازلات في قبرص مقابل عدم عرقلة اليونان وقبرص استئناف التفاوض بين أنقرة والاتحاد على العضوية. لذا فإن تركيا تسعى للخروج من هذا الوضع الساكن، والالتفاف عليه من خلال “جر” الإدارة الأمريكية الجديدة لتولي إدارة هذا الملف مباشرة، مع حصول أنقرة على إشارات إيجابية من لندن في هذا الشأن.
وترى أنقرة، أنها من خلال التصعيد العسكري سابقاً في شرق المتوسط، ومن خلال وجودها العسكري في ليبيا واتفاقية ترسيم الحدود مع حكومة “الوفاق”، فإنها أظهرت للقوى الدولية أنها لن تتخلى عن “حقوقها” في شرق المتوسط، وأنها وإن لم تكن قادرة على فرض أمر واقع مقبول دولياً وأوروبياً، فإنها على الأقل قادرة على عرقلة وإفشال مشاريع التعاون الإقليمية في شرق المتوسط التي تستثنيها من خلال سياساتها “المشاغبة”. وترى أن واشنطن سترى في الطرح التركي الجديد محاولة تركية “جادة” من أجل إيجاد مخرج “معقول”، يجنب المنطقة أي توتر عسكري جديد، وفي نفس الوقت يفتح المجال أمام مشاريع النفط والغاز في شرق المتوسط دون أية عوائق، وهو ما ترى أنقرة أن واشنطن ستأخذه بعين الاعتبار بشكل إيجابي، في ظل التوقعات بأن الإدارة الأمريكية الجديدة ستحاول ممارسة الضغوط من جديد على روسيا والحيلولة دون تمدد نفوذها في شرق المتوسط، وتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، الذي يستوجب إيجاد مصادر غاز بديلة متمثلة في ثروة شرق المتوسط.
ولدى أنقرة الأمل في أن يكون موقف الرئيس الأمريكي الجديد، جو بايدن، أكثر تفهماً للموقف والطرح التركي الجديد، ولا تنسى أنقرة أن بايدن كان أول نائب رئيس أمريكي يزور الشطر الشمالي التركي للجزيرة العام 2014 كبادرة حسن نية، بعد أن وافق القبارصة الأتراك على صيغة الحل التي طرحها الأمين العام للأمم المتحدة الراحل، كوفي أنان، حينهالتوحيد الجزيرة وحل القضية القبرصية، وهو الطرح الذي رفضه القبارصة اليونانيون حينها في استفتاء شعبي عام.
وتتوقع تركيا موقفاً “إيجابياً” من بريطانيا، الدولة الراعية للقضية القبرصية، من “الطرح التركي الجديد”، خصوصاً بعد انسحاب لندن من الاتحاد الأوروبي، وعلى اعتبار المصلحة البريطانية القائمة على حل مشكلة تقسيم ثروات شرق المتوسط، مع الإبقاء على تقسيم الجزيرة قائماً دون حل سياسي، وهو الوضع الذي يمنح بريطانيا الحجة لاستمرار بقائها العسكري هناك من خلال قاعدتين عسكريتين جوية وبحرية.
ووفق الطرح التركي الجديد، هناك دور مهم ترسمه أنقرة لشركات النفط والغاز العالمية الكبرى التي تريد أي حل للأزمة القبرصية من أجل مباشرة أعمالها بحرية وأمان في شرق المتوسط، وهنا ستسعى أنقرة لتحميل الجانب القبرصي اليوناني مسؤولية رفض طرحها “الوسطي” الذي يساعد شركات الطاقة العالمية، وستعمل على توجيه ضغط هذه الشركات عبر واشنطن ولندن للتأثير على موقف القبارصة اليونانيين.
الظهور في صورة الطرف الباحث عن التهدئة والحل
تماشياً مع الاستراتيجية التركية الجديدة بشأن القضية القبرصية والطرح الجديد، بدأت تركيا في تهدئة التوتر مع أطراف الصراع في شرق المتوسط، على أمل الظهور بصورة الطرف الباحث عن حل عملي للأزمة وليس الطرف الذي يبحث عن تصعيد عسكري وتوتر دون أي سبب؛ وعليه، بدأت السياسة الخارجية التركية في التهدئة وخطب ود كل من مصر وإسرائيل وفرنسا.
فقد بعث الرئيس أردوغان رسالة خطية للرئيس الفرنسي، إيمانيول ماكرون، بداية العام (2021) يهنئه على تعافيه من الإصابة بفيروس “كورونا”، ورد ماكرون برسالة خطية أكد فيها عزم باريس على تحسين العلاقات بين البلدين. كما أطلقت أنقرة مباحثات استخباراتية مع تل أبيب من أجل تحسين العلاقات، ونشرت أخباراً عن تعيين سفير تركي جديد لدى إسرائيل، وما زالت هذه المفاوضات جارية لبحث حل للشرط الإسرائيلي بإغلاق مكاتب حركة “حماس” في تركيا. كما أرسلت أنقرة عدة رسائل دبلوماسية عن رغبتها في تحسين العلاقات مع كل من القاهرة والسعودية والامارات، محاولة التأثير على علاقات هذه الدول المتنامية مؤخراً مع اليونان وقبرص.
معظم هذه التحولات في السياسة الخارجية باتجاه التهدئة مع أطراف الصراع في شرق المتوسط تهدف أساساً لاستمالة واشنطن من أجل فرض حل وسط على الجميع، وذلك من خلال الدعوة لاجتماع لجميع الدول المعنية بشرق المتوسط من أجل تقاسم الثروات وتحديد الأدوار، وهو الاجتماع الذي تأمل تركيا أن يساعدها على تجاوز تراجع دورها في العقد الأخير في السعي لترسيم الحدود البحرية مع دول شرق المتوسط، فيما كانت قبرص سباقة في ذلك أثناء انشغال أنقرة بثورات “الربيع العربي”.
وتعتبر أنقرة أنها تقدم لواشنطن من خلال طرحها الجديد في قبرص حلاً وسطاً يساعد على تأمين الاستقرار في المنطقة، وتنمية دولها، وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. كما تربط أنقرة بشكل غير مباشر بحل أزمة شرق المتوسط وأزمة شراء صواريخ “إس – 400” الروسية، من خلال السماح للإعلام الموالي للحكومة بتسريب أنباء عن أن الهدف الحقيقي لشراء هذه الصواريخ هو تأمين الموقف الدفاعي التركي في شرق المتوسط ضد الطائرات اليونانية، وأنه في حال التوصل إلى حل لمشاكل شرق المتوسط مع اليونان وقبرص وإرساء التعاون والاستقرار فستنتفي حاجة أنقرة إلى الصواريخ الروسية، وستستعيد تركيا موقعها من جديد داخل حلف الناتو.
تفاصيل الطرح التركي الجديد
في لقائه مع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، 7 ديسمبر/كانون الأول 2020، قال وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو “نحن ندعو لاجتماع موسع لجميع الدول المعنية بأزمة شرق المتوسط، بل ونقترح أيضاً دعوة الشركات النفطية العالمية العاملة في المنطقة والمهتمة بمشاريعها، من أجل تسهيل الوصول إلى حلول عملية”؛ وعليه، فأنقرة تهدف إلى إشراك الولايات المتحدة وشركاتها النفطية في الأزمة من أجل الخروج بحل وسط، يتجاوز الأهداف السياسية اليونانية والقبرصية.
وفي يناير/كانون الثاني 2021، قال المفوض التركي لشؤون قبرص قدرت أوصراي “نعلم أنه لا يوجد لدينا حالياً الأدوات التي تضغط لإقناع الجانب القبرصي اليوناني على القبول بطرحنا الجديد للتعاون بين شطري الجزيرة وتأجيل الحديث عن تقاسم السلطة، لكننا نعتقد أنه من خلال إشراك واشنطن وشركات النفط العالمية في اجتماع موسع لحل الازمة، فإن الجانب القبرصي اليوناني سيكون تحت ضغط شديد يجعله يغير رأيه.”
ويوضح المسؤول التركي مقترحه من خلال مثال فيقول “لقد فوضت تركيا شركة البترول الوطنية للتفاوض حول حقوقها النفطية في شرق المتوسط، ويمكن للقبارصة اليونانيين تفويض شركة إيكسون موبايل، وعليه فإنه يمكن للشركتين الجلوس للتفاوض وتقسم الأدوار والحدود والمشاريع بينهما في المنطقة بدلاً من التفاوض بين سياسيي الدولتين، ويمكن لشركة نفطية أن توقع عقداً مع أكثر من دولة، وتقوم هي بالعمل بالنيابة عنهم في المنطقة. وكمثال آخر، فإن شركة إيكسون موبايل تقوم بالتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة رقم 10 في شرق المتوسط لصالح القبارصة اليونانيين، وغداً يمكن لنفس الشركة أن توقع عقداً مع القبارصة الأتراك وتقوم بالبحث عن النفط والغاز في مربع آخر، أو أن تقوم شركة البترول والغاز القطرية، الشريك لإيكسون موبايل، بتوقيع العقد مع القبارصة الأتراك وبدء التنقيب.”
تدرك تركيا أن طرحها الجديد في شرق المتوسط قد يواجه تحديات من قبل موسكو، ذات العلاقة القوية مع الجمهورية القبرصية؛ ولذا، فإن هذا الطرح التركي يعتبر بمثابة اختبار أخير لمدى جدية واشنطن في إقامة علاقات متوازنة ومتينة مع تركيا، وسيؤثر بشكل مباشر على علاقات أنقرة مع موسكو سلباً أو إيجاباً، وربما يتحول الملف إلى محدد رئيس في تغيير توجهات السياسة التركية في المنطقة باتجاه اندماج أكبر مع السياسات والمشاريع الأمريكية في المنطقة على حساب علاقات أنقرة مع موسكو، وهذا سينعكس على عدة مناطق تحاول تركيا أن تزيد من نفوذها العسكري فيها، مثل القوقاز وسوريا وشمال إفريقيا.
المحددات الداخلية في الطرح التركي
أدى تراجع شعبية الرئيس أردوغان وتفاقم الأزمة الاقتصادية إلى زيادة ارتباطه بشريكه القومي دولت باهشلي وحزب “الحركة القومية”، الذي يستطيع – لو فك تحالفه مع اردوغان – الدعوة لانتخابات مبكرة تطيح بأردوغان وحكومته. فالعبرة هنا ليست بأصوات القوميين التي باتت غير كافية لضمان فوز جديد للرئيس أردوغان بالانتخابات، وانما باحتمال انتقال أصوات القوميين إلى المعارضة؛ وبالتالي، توفير العدد اللازم من أصوات نواب البرلمان للدعوة لانتخابات مبكرة تطيح بأردوغان.
وعلى هذا الأساس، فإن الوضع الداخلي في تركيا يتيح فرصة أكبر لتحكُّم التيار القومي بسياسات تركيا الخارجية، ويولي القوميون اهتماماً بالغاً لقضية قبرص، وأزمة شرق المتوسط، وهو التيار الذي يضغط حالياً على أردوغان من أجل التهدئة والمصالحة مع مصر وإسرائيل ولو كان ذلك مقابل التخلي عن ملف تنظيم “الإخوان المسلمين”. وقد ساعد التيار القومي المنتشر بقوة في الجيش والأمن الرئيس أردوغان على تحقيق نجاحات عسكرية في شمال سوريا وأذربيجان وليبيا، وهو الآن يطالبه ببدء العمل الدبلوماسي من أجل استكمال جهود التيار في فرض تركيا على الساحة الإقليمية كلاعب قوي لا يمكن تحقيق الاستقرار والتنمية دون إشراكه كطرف أساسي وأصيل فيها.
لذلك، فإن تحقيق حكومة الرئيس أردوغان لاختراق مهم في “الطرح الجديد” للقضية القبرصية ومن خلاله لأزمة شرق المتوسط سيكون محدداً مهماً لمستقبل ومسار التحالف بينه وبين القوميين، الذين سيحمِّلونه مسؤولية أي فشل في المسار السياسي والدبلوماسي الحالي، بعد أن قاموا هم بالشق العسكري والأمني. وعلى الرغم من أن فشل أنقرة – إن حدث – في استمالة واشنطن تجاه دعم “طرحها الجديد” في قبرص وشرق المتوسط، واستمرار تعقيد الموقف وبقاء التهميش الإقليمي والدولي قائماً لتركيا في مشاريع شرق المتوسط، سيزيد من قوة التيار القومي داخل تركيا، ممَّا يمكن توظيفه من قبل الرئيس أردوغان لمصلحته الانتخابية، إلا أن التيار القومي قد يفكر حينها وبشكل جدي بالإطاحة بالرئيس أردوغان وفك التحالف معه، وتحميله مسؤولية الفشل الحاصل، والبحث عن خيارات سياسية أخرى.
خلاصة واستنتاجات
• خلال جولة المفاوضات غير الرسمية القبرصية الأخيرة التي جرت في الفترة من 27 إلى 29 أبريل/نيسان 2021 في جنيف برعاية الأمم المتحدة، طرحت تركيا “صيغة جديدة” من أجل تجسير المواقف والالتفاف على الاستعصاء الحاصل في حل أزمة تقاسم ثروات شرق المتوسط بينها وبين قبرص. واقترح الجانب التركي بدء “تعاون بنَّاء” بين شطري الجزيرة في كافة المجالات عدا السياسية منها من أجل “بناء الثقة” بين الطرفين. ومن مجالات التعاون التي تطرحها تركيا التعاون في مجالات الصحة والسياحة والطيران المدني، والأهم التعاون في مجال الطاقة والنفط والغاز عن طريق القطاع الخاص وشركات النفط الدولية، بما يؤدِّي إلى ترك ملف تقاسم الثروات النفطية والغازية للشركات الدولية النفطية العاملة في هذا القطاع.
• تهدف تركيا إلى جذب واشنطن لتكون “الحكم” في قضية الخلاف حول تقاسم ثروات شرق المتوسط، وكذلك شركات النفط والغاز الدولية المهتمة بالعمل هناك. وتَعتبِر أنقرة أن الموقف البريطاني سيكون أكثر إيجابية تجاه هذا الطرح بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما تهدف أنقرة إلى كسر الجمود الحاصل في المشهد، والذي تستفيد منه قبرص كونها الدولة المعترف بها دولياً وصاحبة السيادة على مياه الجزيرة.
• من أجل دعم المقترح التركي، وإقناع واشنطن بوجود “نوايا طيبة” تركية لحل الخلاف، فإن سياسة أنقرة الخارجية تتحوَّل من تكتيك التصعيد والتهديد العسكري لعرقلة مشاريع الغاز في المنطقة، إلى التقارب سياسياً مع الدول المعنية بملف شرق المتوسط، من خلال مساعي التقارب مع كلٍّ من إسرائيل ومصر، واستئناف المحادثات الاستكشافية مع اليونان، وتحسين العلاقات مع فرنسا. وذلك من أجل إرسال إشارات قوية لواشنطن بأن أنقرة تسعى جدياً من أجل الوصول إلى حل “وسط وعادل”.
• تسعى تركيا لإقناع الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن لعقد مؤتمر موسَّع للدول المعنية بملف شرق المتوسط، وكذلك الشركات الكبرى للنفط والغاز، من أجل تجاوز الموقف القبرصي واليوناني الذي يسعى لفرض أمر واقع يضر بالمصالح التركية من خلال ترسيم اليونان وقبرص حدودهما البحرية بشكل ثنائي مع دول المنطقة.
المصدر: مركز الإمارات للسياسات.
مصدر الصور: إنديبندنت عربية – العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: إرهاصات أزمة ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية في المتوسط: مصر وقبرص من ناحية وتركيا من ناحية