إعداد: مركز سيتا
بات سكان عدة دول عربية تحت تأثير تدهور تدريجي للعملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، ما يساهم في ارتفاع أسعار السلع ويهدد بالجوع وسحق الطبقات الفقيرة؛ على سبيل المثال لا الحصر، سجّل الدينار الجزائري انهياراً قياسياً في قيمته، وفق أرقام كشف عنها بنك الجزائر.
أيضاً، هوت العملة اللبنانية لتصبح قيمتها أكثر من عشرة آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد، في مستوى غير مسبوق للعملة التي تضررت جراء انهيار مالي تسبب بحالة من الفوضى والاضطرابات، وأدى الانهيار الذي بلغ مدى لم تشهده لبنان من قبل لفقد العملة اللبنانية نحو 85% من قيمتها في بلد يعتمد بشكل كبير على الواردات. وفي سوريا وبعد 10 سنوات من الحرب، تعاني البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، في وقت اقترب فيه سعر صرف الدولار من حاجز 4 آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد.
فما الجامع بين هذه الدول؟ وما الأسباب الحقيقية وراء هذا الانهيار؟ هل هو نتيجة الوضع الاقتصادي جراء جائحة “كورونا”؟ أم بفعل الحرب؟ أم هناك جهات خارجية لها صلة بهذا الانهيار؟
انهيار سريع
جعلت الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر منذ سنوات قيمة الدينار الأرخص عالمياً، فبينما كان الدينار يقاوم الانهيار بسبب تراجع أسعار النفط، بدءاً من سنة 2014، أتت أزمة “كورونا” والإغلاق شبه الكلي، الذي يكاد يستمر لسنة كاملة، ليزيد من انهيار العملة حتى وصل سعر الصرف إلى مستوياتٍ غير مسبوقة من الإنهيار، ويعزو رئيس قسم العلوم المالية والمحاسبة في إحدى الجامعات الجزائرية أسباب هذا الإنهيار السريع والمتواصل للعملة الجزائرية إلى تأثيرات سوق سعر الصرف من ناحية العرض والطلب؛ إذ يرى أن الحالة الجزائرية هي حالة شاذة اقتصادياً إذ تشمل انخفاضاً وتخفيضاً في آن واحد.
ويُرجع المصدر ذلك إلى الأسباب الثانوية التي يلخصها في عجز ميزان المدفوعات وضعف الصادرات خارج قطاع المحروقات التي تصدّر بعملة الدولار؛ إضافة إلى سيطرة الاقتصاد غير الرسمي الذي بلغت نسبته 60%، وعدم وجود تدفقات سياحية نتيجة غلق الحدود واستمرار سياسة تمويل غير تقليدي ناهيك عن ضعف احتياطي سعر الصرف؛ فعوضاً عن إيجاد حلولٍ لهذا الانهيار، قررت الحكومة الجزائرية فرض تعويم جديد للعملة المحلية هذا العام وذلك لكبح فاتورة الواردات، من جهة، وحماية احتياطي الصرف من التآكل السريع، من جهة أخرى، بالإضافة لامتصاص جزء من التضخم المنتظر أن يصل خلال العام 2021 إلى 4%، حسب توقعات الحكومة الجزائرية.
ففي موازنة البلاد لعام 2021، قامت الحكومة الجزائرية بتخفيض قيمة العملة المحلية بنسبة 5%، بحيث وضعت سعراً متوسطاً للدينار عند حدود 142.20 للدولار الواحد،العام 2021، و149.31 ديناراً جزائرياً للدولار الواحد، لعام 2022، و156.78 ديناراً جزائرياً، لعام 2023، وهذا بافتراض تسجيل انخفاض طفيف في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار بنحو 5% سنوياً.
عجز قديم
عانت الجزائر طيلة السنوات الماضية من أزمة اقتصادية خانقة نتيجة انخفاض أسعار النفط، فلقد فشلت البلاد مراراً وتكراراً بتنويع مصادر العائدات بعيداً عن قطاع المحروقات؛ مما جعل قيمة الدينار مرهونة بتطورات أسعار النفط، ناهيك عن جائحة “كورونا” التي فرضت إغلاقاً طويلاً وتركت الاقتصاد الجزائري يواجه ركوداً غير مسبوق.
هذا وتتوقع الحكومة تراجع الاحتياطات من النقد الأجنبي إلى أقل من 46.8 مليار دولار بنهاية العام 2021، إذ تشكل القيود المفروضة على القطاع الخاص، وسوء الإدارة الذي لم يتم التعامل معه، والمشكلات الهيكلية، وسيطرة الجيش على الأعمال وعلى قطاعٍ واسعٍ من الاقتصاد، والفساد المستشري بين المسؤولين إلى تعميق هذه الهوة بحسب مراقبين.
غياب الاستراتيجية
إنهيار تاريخي أصاب العملة الوطنية اللبنانية بعدما وصل سعر صرف الدولار إلى أكثر من 10 آلاف ليرة، حيث رأى خبراء وصحافيون أن الانهيار كان متوقعاً طالما أن السلطة السياسية لم تتخذ الإجراءات اللازمة بعد، وفسر آخرون ما يحدث بأنه جزء من السياق العام في المنطقة، وانعكاس للصراعات الإقليمية، إذ أن إستراتيجية “عدم فعل أي شيء” تأتي بثمارها؛ فانهيار سعر الصرف، يُفقد الودائع من قيمتها ويُسهّل الحل للمصارف، تآكل للمعاشات يعزز من سطوة أصحاب رؤوس الأموال على الموظفين، وتفقير أكثر للناس لكي ينسوا مطالبهم.
على إثر الانهيار المالي تم إحياء توقعات للخبير الاقتصادي العالمي ستيف هانكي، الذي توقع أن يصل سعر صرف الدولار إلى 15 ألف ليرة لبنانية، بينما لا يزال سعر الصرف الرسمي يساوي 1507 ليرة مقابل للدولار. ومنذ صيف العام 2019، وقع الانهيار الاقتصادي الأسوأ في لبنان، منذ عقود، حيث بدأت الليرة تتراجع تدريجاً أمام الدولار تزامناً مع أزمة سيولة أجنبية حادة وتوقّف المصارف عن تزويد المودعين بأموالهم بالدولار.
السبب الرئيس في هذا الانهيار يعود إلى مجموعة عوامل على رأسها فساد الطبقة السياسية الحاكمة والهدر الكبير في الأموال العامة حيث بلغ حجم الدين العام، بحسب تسريبات، ما يفوق على الـ 100 مليار دولار، بالإضافة إلى وجود معلومات لدى بعض الخبراء الماليين تفيد بقيام العديد من السياسيين بسحب أموالهم إلى الخارج (سواء بناء على أمر عمليات ما أو لا)، ناهيك عن سحب المصارف لمبالغ كبيرة جداً من الدولارات من السوق وهو نتيجة لإعلان مصرف لبنان بدء مراجعة أوضاع البنوك بعد انتهاء مهلة حددها لها من أجل زيادة رأسمالها، ضمن خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
وينعكس الانخفاض في العملة المحلية على أسعار السلع والمواد الغذائية وكل ما يتم استيراده من الخارج، لا سيما وأن الغالبية العظمى من المنتوجات الموجود في الأسواق هي منتجات يتم استيرادها؛ بالتالي، هي تدفع بالعملات الصعبة وخصوصاً الدولار وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع بنسبة 144%، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر.
تفاقم الأوضاع
الأمر نفسه في سوريا، حيث يتفاقم الوضع المعيشي والإنساني يوماً بعد يوم. وأثار هذا الوضع المتردي غضب السوريين، لأنه يؤثر في الناس مباشرة، وتواصل الليرة السورية انهيارها المتواصل منذ أسابيع، حيث لامست حاجز الـ 4 آلاف ليرة أمام الدولار الأمريكي الواحد، في حين لا يزال مصرف سوريا المركزي يسعر كل دولار بـ 1256 ليرة سورية، ما أثار سخطاً شعبياً ومطالبات باتخاذ إجراءات فعالة لضبط الوضع.
يأتي على رأس ذلك الضغط بسبب العقوبات الإقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة، منذ منتصف عام 2020، والمتمثلة بـ “قانون سيزر”، والتي تمنع التعامل التجاري والاقتصادي مع الدولة السورية، خاصة في مسألة إعادة الإعمار، وهو ما أفقد الليرة السورية، منذ مطلع عام 2021، أكثر من 24.5% من قيمتها الفعلية، تزامناً مع طرح فئة نقدية جديدة بقيمة 5 آلاف ليرة سورية، في يناير/كانون الثاني 2021.
هذا الانهيار ردته الأوساط الاقتصادية أنه جاء بسبب زيادة الطلب على “العملة الصعبة” في ظل أزمة كبيرة في توفيرها، إلى جانب الأزمة المالية في لبنان، حيث جمّدت البنوك مليارات الدولارات الخاصة برجال أعمال سوريين.
أخيراً، ثمة قناعة عند الكثير من المحللين بأن العوامل السياسية و”الحرب الاقتصادية”، ومن آلياتها المضاربة على النقد، هو ما يدفع بالعملات المحلية لكل بلد نحو حافة الانهيار، وليست المعطيات الاقتصادية لوحدها هي التي تتمتع بالقوة المطلوبة، فالعملة هي ورقة مالية محددة القيمة مضمونة بحكم القانون من قبل مصدرها وعادة تصدرها البنوك المركزية للدول، العامل الاقتصادي يتحدد بما لدى هذا البلد من ثروات واحتياطات طبيعية، وبما لدى الدولة من أصول أياً كان مصدرها. كما تستند قيمة وقوة العملة أيضاً إلى حجم الاحتياطات النقدية، والقدرة الإنتاجية والتصديرية للبلاد، وهذا بالنسبة للجزائر ولبنان وسوريا شبه متوقف، إن لم نقل متوقف كلياً.
يضاف إلى ذلك مسألة المضاربات التي تأتي من قبل دول وبنوك على ضرب العملة، أيضاً، الظروف السياسية وتوقعات المستثمرين بناء على مستوى الاضطرابات السياسية تؤثر على قوة العملات، والبلاد الثلاثة لديها من هذه الاضطرابات الكثير ليكون سبباً مباشراً للانهيار، وسط عجز حكومي عن إيجاد تدابير حقيقة تصحح المسار أو تعمل على إصلاحه، لقلة السبل والضغوطات والتجاذبات السياسية التي بدأت تنهش بجسد شعوب هذه الدول.
بجانب العوامل الإقتصادية، يرى بعض المراقبين بأن هناك إستهداف سياسي، من بوابة الإقتصاد، لتلك الدول خصوصاً وأنها تدور إلى حد كبير في دائرة المحور المقابل للغرب؛ ففي لبنان، يسيطر حزب الله على البلاد، بحسب الإدارة الأمريكية. وسوريا باتت تقبع تحت المظلة الروسية. أما الجزائر، فهي أحد أكبر مصدري الغاز إلى أوروبا، وهي لا تزال قريبة من روسيا لا سيما من جهة التسليح. مع “حرب الغاز” الروسية – الأمريكية، سيكون من الضروري إما “تطويع” الجزائر غربياً أو ضربها من أجل إضعافها خصوصاً وأنها البلد العربي شبه الوحيد الذي لم تطله موجات “الربيع العربي” بشكل مباشر.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: لبنان 24 – العربي الجديد – الجزيرة نت.
موضوع ذا صلة: مسارات صعود وتراجع هيمنة الدولار الأمريكي