أحمد عسكر
أدى حصول روسيا مؤخراً على موطئ قدم في ميناء بورتسودان السوداني، الذي يطل على البحر الأحمر، عقب توقيعها اتفاق تعاون عسكري مع الحكومة السودانية، إلى تحركات أمريكية مضادة تشير إلى تمسُّك واشنطن بتعزيز نفوذها العسكري في منطقتي البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وحرصها على إبقاء السودان الجديد بعيداً عن النفوذ الروسي، في الوقت الذي يزاحمهما النفوذ الصيني المتنامي في السودان عبر الاستثمارات الاقتصادية في مختلف القطاعات الاستراتيجية، الأمر الذي يفرض تحديّاً واضحاً أمام الدولة السودانية بشأن كيفية إدارة هذا التنافس والتعاطي معه.
تُلقي هذه الورقة الضوءَ على دوافع التنافس الدولي الثُّلاثي على السودان، وملامح هذا التنافس، وسيناريوهاته المستقبلية المحتملة.
الأهمية الاستراتيجية للسودان
تظافر عددٌ من العوامل والمعطيات على زيادة الأهمية الاستراتيجية لبلدٍ عربي وإفريقي، مثل السودان، وعززت مكانته في خضم مساعي القوى الدولية المتنافسة لتحقيق العديد من أهدافها ومصالحها الحيوية في منطقتي البحر الأحمر وشرق إفريقيا. ولعل أهم هذه العوامل يتمثل في الآتي:
1. السودان بوصفه حلقة وصل استراتيجية، إقليمياً وقارياً
يلعب موقع السودان الاستراتيجي الواقع في الجزء الشمالي الشرقي للقارة الإفريقية دوراً أساسياً في ترسيخ مكانته كجسر استراتيجي، والنظر إليه بوصفه المدخل الأنسب لإفريقيا جنوب الصحراء عبر بوابة البحر الأحمر، واعتباره حلقة وصل تربط بين شمال القارة وجنوبها، وبوابة مركزية لشرق ووسط وغرب القارة الإفريقية، خاصة أنه يُجاور دولاً مهمة عديدة، هي مصر وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وإفريقيا الوسطى. فضلاً عن أن ارتباطه، بحكم واقع القرب الجغرافي والتأثير الجيو – سياسي، بعدة مناطق استراتيجية تشهد تنافساً دولياً وإقليمياً ساخناً مثل الشرق الأوسط والخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.
وهو أيضاً جزءٌ من منطقتين استراتيجيتين هما القرن الإفريقي والبحر الأحمر، حيث يمثل السودان نقطة انطلاق للقرن الإفريقي، وهي المنطقة التي أخذت أهميتها في إطار المعادلات والتفاعلات الإقليمية في التنامي على نحوٍ ملحوظ. كما أنه يُطل على البحر الأحمر الذي يعد أحد النقاط الاستراتيجية المهمة في العالم، مما يمنح السودان ثقلاً استراتيجياً يعززه وجود مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وقناة السويس في الشمال، واللذين يمرُّ عبرهما ما يُقدَّر بنحو 700 مليار دولار من التجارة الدولية، الأمر الذي يجعل السودان وثيق الارتباط بتفاعلات النظامين الإقليمي والدولي.
2. محورية موقع السودان وموانئهِ في منطقة البحر الأحمر
يُطِل السودان، الذي يعد ثاني أكبر دولة من حيث المساحة في إفريقيا بعد انفصال الجنوب، العام 2011، على البحر الأحمر بسواحل يبلغ طولها نحو 720 كلم، ويمتلك منفذاً بحرياً استراتيجياً هو ميناء بورتسودان، الذي يستمد أهميته من كونه المنفذ البحري الوحيد للسودان، وتمر عبره حركة التجارة والملاحة البحرية من وإلى البلاد.
كما أنه يتوسط ساحل البحر الأحمر، أي أنه يقع بالقرب من نقاط الاختناق الاستراتيجية في التجارة الدولية (قناة السويس ومضيق باب المندب)، وتبلغ سعته حوالي 1.3 مليون حاوية سنوياً. ويعد بورتسودان مركزاً لوجستياً وتجارياً مهماً، ويضم منطقة استثمارية ومصفاة نفط رئيسة، ومن خلاله يُنقل نفط جنوب السودان إلى العالم الخارجي، ولهذا يُنظَر إلى بورتسودان كبوابة بحرية استراتيجية، ووجهة سياحية محتملة.
وتُصدر بضائع من خلال هذا الميناء بقيمة تتراوح بين 4 و7.5 مليار دولار سنوياً، مما يُضفي عليه أهمية كبرى بالنسبة للاقتصاد السوداني. كما أنه يعد حلقة وصل تربط السودان بمنطقة الشرق الأوسط، ونقطة عبور رئيسة لرحلات المسلمين الأفارقة للحج في السعودية سنوياً. وتزداد أهمية الميناء مع الخطط المحتملة لتدشين خط سكك حديدية بين بورتسودان وداكار في السنغال، مما يُسهِّل طرق التجارة في القارة الإفريقية، ويتيح لأربعة بلدان غير ساحلية الوصول إلى البحر.(1)
3. وفرة الموارد الطبيعية والمواد الخام في السودان
يتمتع السودان بوفرة ملحوظة في الموارد والثروات الطبيعية، ومن أبرزها اليورانيوم والذهب والكوبالت والنفط وغيرها، إذ يمتلك السودان ثالث أكبر احتياطي في العالم من اليورانيوم، واحتل المرتبة الثالثة في إنتاج الذهب على الصعيد الإفريقي خلال السنوات الخمس الماضية، والمرتبة الثالثة عشرة عالمياً بحجم إنتاج سنوي يتراوح بين 100 طن و250 طن.(2) كما يمتلك السودان قرابة 200 مليون فدان، بما يعادل 45% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم العربي(3)، ويمتلك ثروة حيوانية تُقدَّر بأكثر من 108 مليون رأس من الماشية، مما جعل البعض يُطلق عليه وصف “سلة غذاء العالم”(4)، لقدراته الهائلة على تحقيق الأمن الغذائي على الصعيدين الإقليمي والدولي، بسبب توافر مقومات الإنتاج والتصنيع الزراعي والحيواني.
مصالح ومُحفِّزات توجُّه القوى الدولية نحو السودان
يمكن القول إن هناك عدداً من المصالح والمحفزات، المرحلية والاستراتيجية، وقفت خلف زيادة التوجُّه الدولي نحو السودان في الفترة الأخيرة، لعل أهمها يتمثل في الآتي:
1. المصالح المرحلية
• ضمان استقرار المرحلة الانتقالية في السودان إلى حين إجراء الانتخابات العامة، والحيلولة دون تصاعُد الخلافات بين الأطراف السياسية المكونة للمشهد السياسي السوداني، وضمان عدم صعود التنظيمات الإسلامية مرة أخرى للحكم. فضلاً عن منع موجات فوضى محتملة في بعض مناطق البلاد، مثل إقليم شرق السودان، خوفاً من تداعيات ذلك على أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية فيه.
• دعْم مسار إدماج السودان الجديد في محيطيه الإقليمي والدولي، وقد عزز من ذلك تغيُّر نظرة المجتمع الدولي للسودان عقب الإطاحة بنظام الإنقاذ السابق، وقرار الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على الخرطوم منذ تسعينيات القرن الماضي، وإزالة السودان من قائمة الإرهاب، ونجاح الرعاية الأمريكية في تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل.
• احتواء مخاطر الإرهاب واحتمالية ظهور الجماعات الإرهابية في السودان أو تغلغل تنظيم “داعش” داخله، والتصدي لمساعي الفاعلين من غير الدول في المنطقة، مثل جماعة الحوثي اليمنية وحركة الشباب المجاهدين الصومالية، الهادفة إلى تعزيز حضورها في جنوب البحر الأحمر، وما يمكن أن يترتب عليه ذلك من تعطيلٍ محتمل لمرور ناقلات النفط عبر مضيق باب المندب الذي يمر عبره يومياً حوالي 4.7 مليون برميل من النفط، وما يرتبط بذلك أيضاً من تهديدات أمنية مثل انتشار القرصنة وجرائم الاتجار بالبشر وتهريب السلاح والمقاتلين وتجارة المخدرات.
• ضمان عدم استغلال الأراضي السودانية كممر لعبور الأسلحة والمقاتلين والمهاجرين إلى ليبيا، ومنها إلى أوروبا، ومنع تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة عبر السودان ومصر.
• ضمان عدم تقارب السودان مع حكومات معادية أو مُنافِسة لبعض القوى الدولية في المنطقة، كإيران وتركيا على سبيل المثال. ويندرج ضمن هذا، المساعي الرامية إلى تقليص النفوذ التركي في السودان، في ظل محاولات تركية لإعادة تشكيل العلاقات مع مجلس السيادة الانتقالي السوداني بهدف إعادة إحياء اتفاق 2017 بين الحكومة التركية والرئيس السوداني السابق، عمر البشير، الذي يُمكّن أنقرة من بسط نفوذها على ميناء سواكن السوداني، شمال البحر الأحمر.
2. المصالح الاستراتيجية
• الاستفادة من الوضع الجيو – بوليتيكي للسودان في المنطقة وقربه من أهداف ونقاط استراتيجية في محيطه الإقليمي، وإيجاد موطئ قدم ثابت في البحر الأحمر بهدف تعزيز النفوذ السياسي والعسكري والأمني هناك، حيث يضمن الوجود البحري في السودان الحصول على امتيازات موقعه الاستراتيجي المهم الرابط بين شمال وجنوب البحر الأحمر، وتأمين الحصول على مصادر الطاقة وحماية خطوط الملاحة البحرية في هذه المنطقة. كما يتيح ذلك للقوة/للقوى الدولية المستفيدة القدرة على التمدُّد نحو منطقة قوس الأزمات وعدم الاستقرار التي تضم الشرق الأوسط وغرب المحيط الهندي والقرن الإفريقي، بالإضافة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
• تعظيم المصالح الاقتصادية والعسكرية في السودان، خصوصاً أنه يعدّ سوقاً واعدة وبوابة عبور للدول الإفريقية في شرق ووسط القارة، بما في ذلك تجارة الأسلحة.
التنافس الدولي الثُّلاثي (أمريكا وروسيا والصين) على السودان
سلَّط رسو الفرقاطة الروسية “الأدميرال غريغوروفيتش” في ميناء بورتسودان، أواخر فبراير/شباط 2021، وبعد يوم واحد فقط من وصول المدمرة الأمريكية “يو.أس.أس تشرشل” إلى الميناء نفسه، وكذلك وصول البارجة العسكرية الأمريكية “يو.أس.أس كارسون سيتي” قبلها بأيام قليلة إلى هناك، الضوءَ على تنامي مظاهر التنافس الأمريكي الروسي على إيجاد موطئ قدم لهما في السودان، وتعزيز نفوذهما فيه.
وبات واضحاً أن السودان أضحى مؤخراً أحد المحاور الجديدة للتنافس بين القوى الدولية والإقليمية بهدف الهيمنة والنفوذ وضمان السيطرة على الموارد الطبيعية المهمة، في وقتٍ يسعى السودان إلى تنظيم شؤونه الداخلية وعلاقاته الخارجية، وموازنة علاقته مع القوى الدولية الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة وروسيا والصين.
1. الولايات المتحدة الأمريكية
كان القرار الأمريكي برفع العقوبات الاقتصادية على السودان، العام 2017، بعد أكثر من عقدين مؤشراً على بدء تحول جوهري في مسار العلاقات بين واشنطن والخرطوم، وقد تعزز هذا التحول بعد صدور قرار أمريكي آخر برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية، ديسمبر/كانون الأول 2020، بالتزامن مع توقيع اتفاقية السلام بين السودان وإسرائيل برعاية أمريكية، لتبدأ مرحلة جديدة من التوجه الأمريكي نحو بناء علاقات استراتيجية مع السودان.
وقد جاء هذا الحراك الأمريكي متزامناً مع تحرك روسي في نفس الاتجاه، وصل ذروته مع إعلان موسكو عزمها إقامة قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، وهو ما شكل إزعاجاً للولايات المتحدة دفعها، هي الأخرى، إلى إظهار رغبتها في بناء تعاون عسكري وثيق مع السودان، ونشطت السفارة الأمريكية في الخرطوم في مساعيها لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين لا سيما العسكرية منها، خاصة في ضوء رغبة واشنطن بدء مرحلة جديدة من التنسيق بين البلدين في كافة المجالات، وتحديداً في مجالي التعاون الأمني والاستخباراتي ومكافحة الإرهاب في منطقة القرن الإفريقي، مما زاد من احتمالية حصول القوات الأمريكية على تسهيلات لوجستية في السودان. ويذكر أن العلاقات العسكرية بين البلدين قد استؤنفت، العام 2018، بافتتاح مقر ملحقية السودان العسكرية في واشنطن، وبدء تَسلُّم الملحق العسكري الأمريكي مهامه في السودان.(5)
ومن الواضح أن واشنطن أخذت في تكثيف تحركاتها تجاه السودان، بهدف كسب مزيد من النفوذ الذي يعزز وجودها في المنطقة، ويدفع إلى تقليص حضور مُنافِسَيْها الآخذ في التنامي. وقد دعمت الولايات المتحدة مسار المرحلة الانتقالية في السودان بعد إقصاء نظام الإنقاذ السابق من الحكم، أبريل/نيسان 2019، إذ زار وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، الخرطوم، أغسطس/آب 2020 في أول زيارة يقوم بها وزير خارجية أمريكي للسودان منذ 15 عاماً، في دلالة على الدعم الأمريكي للمسار الانتقالي وإضفاء الشرعية على الحكومة السودانية الانتقالية. كما زار وفد من القيادة الأمريكية في إفريقيا – أفريكوم السودان، يناير/كانون الثاني 2021، بهدف تعزيز الشراكة الأمنية والاستراتيجية بين البلدين. وقبلها، أقر الكونغرس الأمريكي، ديسمبر/كانون الأول 2020، مشروع قانون يعيد الحصانة السيادية للسودان، ويمنع الإجراءات القانونية المستقبلية ضده.
وبرز أيضاً عددٌ من المساعي الأمريكية لدعم الاقتصاد السوداني المتأزم من خلال بعض المساعدات المباشرة وغير المباشرة، والتي تقدر بقيمة 1.1 مليار دولار كجزء من قانون تسوية مطالبات السودان.(6) ووقع السودان، يناير/كانون الثاني 2021، قرضاً قصير الأجل مع واشنطن بقيمة 1.2 مليار دولار بالتزامن مع توقيع اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل. فضلاً عن توقيع مذكرة تفاهم بين الطرفين، من شأنها تمكين السودان من الحصول على تمويل يتجاوز المليار دولار من البنك الدولي بعد توقف دام ثلاثة عقود.(7)
كما قدمت واشنطن 81 مليون دولار من المساعدات الإنسانية للسودان لمواجهة التحديات المتعلقة بتدهور الاقتصاد، وتفشي جائحة “كوفيد – 19″، والفيضانات، بحيث أضحى إجمالي المساعدات الإنسانية الأمريكية للسودان، العام 2020 فقط، نحو 437 مليون دولار، بما في ذلك 32 مليون دولار للاستجابة لجائحة “كوفيد – 19”. وبذلك، تعد الولايات المتحدة أكبر مانح للمساعدات الإنسانية في السودان.(8) وإلى جانب ذلك، حصل السودان على منحة بقيمة 20 مليون دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، قُدِّمت إلى برنامج الأغذية العالمي.(9)
2. الصين
الموقف الصيني المؤيد للثورة السودانية، العام 2019، واعتباره الإطاحة بحكم عمر البشير شأناً داخلياً، أتى شاهداً على حرص بكين على الحفاظ على حضورها في السودان، وتعزيز علاقاتها مع النخبة الحاكمة الجديدة لحماية مصالحها الاقتصادية وشراكتها الاستراتيجية المعلنة مع الخرطوم، منذ العام 2015، والمساهمة في استقرار الأوضاع الداخلية للسودان في ضوء تزايد أهميته بالنسبة لبكين، باعتباره ممراً أساسياً لعبور نفط جنوب السودان الذي يمثل 7% تقريباً من إجمالي واردات الصين النفطية.
وتدرك بكين أهمية السودان باعتباره أحد أبرز البلدان الإفريقية الواعدة استثمارياً، نظراً لما يملكه من فرص جاذبة متنوعة في العديد من القطاعات مثل النفط واليورانيوم والتنقيب عن الذهب والزراعة والثروة الحيوانية والبنية التحتية. وحالياً، هناك أكثر من 126 شركة صينية في الصين، بإجمالي استثمارات تبلغ 15 مليار دولار.(10) وكشف السودان، مارس/آذار 2021، عن رغبة ثلاث شركات صينية في الاستثمار في مجالات الزراعة والتعدين والنفط بقيمة مليار دولار.(11)
وتتزايد أهمية السودان في السياسة الصينية بالنظر إلى كونه إحدى الدول المهمة المطلة على البحر الأحمر، الذي يعد واحداً من أهم الممرات المائية الاستراتيجية بالنسبة لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ومن خلاله أيضاً تعزز بكين حضورها في البحر الأحمر، فضلاً عن حماية مصالحها الاقتصادية والتجارية في السودان والمنطقة.
وبعد تعزيز وجودها بقاعدة عسكرية في جيبوتي منذ العام 2017، تسعى الصين إلى خلق شبكة تربط بين الموانئ في البحر الأحمر، بما فيها تلك الموجودة في السودان، وقد أخذ بعض الشركات الصينية في المنافسة على لعب أدوار في موانئ السودان البحرية؛ فعلى سبيل المثال، عرضت شركة الصين لهندسة الموانئ تمويلاً بقيمة 543 مليون دولار لتوسيع المرافق في ميناء سواكن السوداني، فيما تقوم شركة ميناء الصين بتطوير ميناء لشحن الثروة الحيوانية في هايدوب جنوب ميناء بورتسودان.(12)
وفي ضوء هذا، بدأت الولايات المتحدة تنظر إلى الوجود الصيني في السودان ومساعي بكين لتعزيز حضورها في البحر الأحمر باعتبارهما تهديداً واضحاً للمصالح الأمريكية في المنطقة، وقد ضاعف من المخاوف الأمريكية تقاطع المصالح الصينية والروسية فيما يتعلق بالأهداف الاستراتيجية في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، لا سيما تلك التي تخص معادلة الطاقة والنفط.
3. روسيا
بعد نجاح موسكو في إيجاد موطئ قدم على ساحل البحر الأبيض المتوسط عبر قاعدة طرطوس بسوريا، اتجهت أنظار الروس إلى مد نفوذ بلادهم إلى البحر الأحمر عبر بوابة السودان، في خطوة قد تكون نقطة انطلاق لروسيا إلى المناطق الاستراتيجية في الشرق الإفريقي ووسط وغرب القارة، بعد أعوام من لعب روسيا دوراً هامشياً في تلك المناطق. ويبدو أن روسيا بدأت تتحين الفرصة لاستعادة نفوذها التاريخي القديم في تلك المناطق عبر بوابة السودان الذي بات يمثل الضلع الثالث لمثلث نفوذ روسيا الاستراتيجي، الذي يضم كلاً من ليبيا وسوريا، ويستهدف تعزيز مصالح موسكو الاستراتيجية في الشرق الأوسط وإفريقيا.(13)
وقد استطاعت موسكو الحفاظ على الاتفاقيات التي أبرمتها مع نظام البشير، وما تضمنتها من امتيازات مهمة. وبعد الإطاحة به نفذت روسيا استراتيجية من مسارين تجاه الخرطوم تسمح لها بالحفاظ على علاقات إيجابية مع المكونين المدني والعسكري في الحكم الانتقالي، حيث دعمت روسيا المجلس العسكري الانتقالي، الذي يدير المرحلة الانتقالية في البلاد، واستمرت في مساعيها الرامية لبناء نفوذها في السودان وجواره الإفريقي وإيجاد موطئ قدم لوجودها العسكري في البحر الأحمر، فضلاً عن التأثير على الرأي العام السوداني لتأييد الحكومة الانتقالية بهدف دعم الاستقرار في البلاد وقبول الوجود الروسي فيها، وذلك بتوجيه وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الصحف السودانية.(14)
وخلال العامين الأخيرين، كشفت موسكو عن بعض المشروعات المشتركة مع الخرطوم في المجال الأمني؛ ففي قمة سوتشي، أكتوبر/تشرين الأول 2019، تعهَّد الرئيس فلاديمير بوتين بتنفيذ مجموعة واسعة من اتفاقات الدفاع الروسية – السودانية التي تهدف إلى إصلاح الجيش السوداني وتعزيز قدرات قواته. وأيضاً، تسهم روسيا في التعاون النووي السلمي بموجب اتفاق مع الحكومة السودانية، مايو/أيار 2019، يمتد إلى 7 أعوام مقبلة، فيما تسري اتفاقية القاعدة البحرية التي وقعت مع الحكومة السودانية، ديسمبر/كانون الأول 2020، لمدة 25 عاماً، مع إمكانية تمديدها لعقد آخر من الزمان في حال لم يُنهِ أيٌّ من الطرفين الاتفاق.
وفي الوقت نفسه، قدَّمت موسكو الدعم لحكومة رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، لمساعدتها على الإفلات من عزلتها الاقتصادية الدولية، وسبق أن استضافت الحكومة الروسية اجتماعاً تجارياً مشتركاً مع نظيرتها السودانية، أواخر العام 2018، وحينها زعمت موسكو أنها أودعت مليار دولار في البنك المركزي السوداني لوقف خفض قيمة العملة المحلية السودانية. وركزت اللقاءات الثنائية بين مسؤولي الطرفين على التعاون الاقتصادي والاستثماري، باعتباره مكوناً محورياً في علاقات البلدين الثنائية.(15)
وتمتلك موسكو العديد من المصالح الاقتصادية في السودان، إذ تعد الخرطوم ثاني أكبر مستورد للأسلحة الروسية خلال العقدين الماضيين. وبلغ حجم التجارة بين روسيا والسودان، العام 2018، حوالي 510 مليون دولار، وتضاعفت مع مرور الوقت كميات الصادرات الروسية من القمح إلى السودان. كما كثَّف الروس، منذ العام 2019، مشروعاتهم في قطاع التعدين، حيث تنشط شركة Esimath الروسية للتعدين في عمليات تنقيب عن الذهب في السودان، وتقوم مجموعة “فاغنر” الأمنية بحراسة مناجم الذهب السودانية التي تديرها شركة M-Invest التابعة لمالك “فاغنر”، يفغيني بريغوجين.(16)
وتتجه أنظار روسيا بشكل أساسي إلى تعزيز حضورها في البحر الأحمر من خلال الاتفاق الذي أبرمته مع الخرطوم، نوفمبر/تشرين الثاني 2020، لإنشاء قاعدة بحرية جديدة في ميناء بورتسودان قادرة على استيعاب 300 جندي، وتوفر القاعدة فرصاً متنوعة عسكرية وجيو – سياسية واقتصادية في ضوء الموقع الاستراتيجي للسودان والموارد التي تتمتع بها، حيث تضمن موسكو من خلال تمركزها في السودان دخولاً ميسراً إلى ليبيا والقرن الإفريقي، وزيادة حضورها العسكري والأمني على طول الطريق البحري المار عبر باب المندب وقناة السويس، وإظهار قدرتها على منافسة القوى الدولية الأخرى، لا سيما الولايات المتحدة، وكذلك تحدي حلف الناتو في البحر المتوسط من خلال نظام دفاع جوي جديد(17)، فضلاً عن إعادة تأكيد روسيا كقوة بحرية تمثل حصناً ضد تهديدات الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن وغرب المحيط الهندي، وضمان الوصول إلى معظم الدول الإفريقية التي تعتمد على السلاح الروس.(18)
وتجدر الإشارة إلى أن توجه روسيا إلى إنشاء قاعدة عسكرية في السودان قد لاقى ترحيباً صينياً اعتقاداً من بكين أن ذلك يدل على استعداد الخرطوم لمكافحة التدخلين الأمريكي والفرنسي، بالرغم من الشكوك الصينية حول قدرة موسكو على المساعدة في إحلال الاستقرار ومنع الاضطرابات في السودان حالياً، بسبب جائحة “كوفيد – 19” وانخفاض أسعار النفط والميزانية العسكرية المُجهدَة.(19)
مستقبل التنافس الدولي الثُّلاثي على السودان ونتائجه المحتملة
تطرح طبيعة التنافس بين مثلث أمريكا وروسيا والصين على السودان، عدداً من السيناريوهات المحتملة بشأن مستقبل هذا التنافس ونتائجه، من جهة، ومدى تأثيره على السودان والمنطقة خلال المدى المنظور، من جهة أخرى.
1. السيناريوهات المحتملة للتنافس ونتائجه
السيناريو الأول: نجاح واشنطن في احتواء السودان على حساب روسيا والصين؛ وذلك استناداً للانفتاح الأمريكي الجديد على السودان بعد رفع اسمه من قائمة الإرهاب، والذي قد يدفع الخرطوم للنأي بنفسها عن الطرفين الروسي والصيني لحساب واشنطن، فضلاً عن استعداد الجانب الأمريكي لتقديم مزيد من المساعدات التنموية والإنسانية للنهوض بالاقتصاد السوداني، وبناء علاقات استراتيجية وتعاون عسكري وأمني أكبر وأوسع نطاقاً مع السودان خلال الفترة المقبلة.
السيناريو الثاني: توافُق الرؤيتين الروسية والصينية حول السودان بهدف تقليص نفوذ واشنطن؛ وهو أمرٌ عززهُ الموقفان الروسي والصيني من مشروع القرار الأممي الذي حاول إدانة المجلس الانتقالي العسكري السوداني، يونيو/حزيران 2019، وترحيب الصين بإنشاء القاعدة البحرية الروسية في ميناء بورتسودان، فضلاً عن الترحيب السوداني المتوقع بالاستثمارات الصينية الكثيفة. ومما يعزز فرص هذا السيناريو تماهي مصالح الطرفين الروسي والصيني بدرجة كبيرة، لا سيما الاقتصادية منها، وتحديداً تلك المتعلقة بضمان تأمين مصادر الطاقة في السودان والمنطقة، واتجاههما إلى تعزيز حضورهما في البحر الأحمر والقرن الإفريقي والمناطق المجاورة، فضلاً عن إظهار قوتهما لواشنطن في البحر الأحمر والمحيط الهندي بهدف ردع المحاولات الأمريكية لتقليص دورهما في شرق إفريقيا تحديداً.
2. السيناريوهات المحتملة لمستقبل السودان والمنطقة في ظل هذا التنافس
السيناريو الأول: تمكُّن السودان من إيجاد هامش مناورة معقول في تعامله مع القوى الدولية المتنافسة، على نحوٍ يُعزز استقراره ومحيطه الإقليمي. ويستند هذا السيناريو إلى تنامي قدرة السودان على إدارة العلاقات مع القوى الدولية الفاعلة، وتبلور سياسة سودانية ترتكز على مبدأ تنويع الحلفاء والشركاء الدوليين لتحقيق الأهداف والمصالح الحيوية السودانية، خاصة أن الوجود الدولي في السودان قد يساعد حكومته على استكمال إجراءات خارطة الطريق وإنجاح المرحلة الانتقالية دون تحديات أو انتكاسات كبيرة تؤثر سلباً في المشهد السوداني.
كما يفترض هذا السيناريو أن يُحسِنَ السودان الاستفادة من مكانة تلك القوى عالمياً من أجل الانفتاح على العالم الخارجي، وتوسيع أُطُر التعاون مع المجتمع الدولي، وفكّ العزلة الدولية التي طالما عانى منها. ناهيك عن إمكانية النهوض بالاقتصاد السوداني، في ظل نجاحه في إقناع تلك القوى الدولية مجتمعةً على ضخِّ المزيد من الاستثمارات والمساعدات للسودان خلال المرحلة المقبلة.
السيناريو الثاني: إقحام السودان والمنطقة في تجاذبات سياسية وأمنية تؤثر بالسَّلب على أمنهما واستقرارهما. ويستند هذا السيناريو إلى احتمال احتدام التنافُس بين القوى الدولية المتنافسة على السودان كبلدٍ وموقعٍ جيو – سياسي وموارد طبيعية، من دون التوصل فيما بينها إلى صيغة تعاونية ترضيها جميعاً، مع إمكانية دخول بعض الأطراف الإقليمية الأخرى مثل تركيا وقطر وإسرائيل في خط هذا التنافس، وصعوبة استيعاب السودان لسياسات تلك القوى المتنافسة مُجتمعةً، خاصة في ظل ضعف تماسُك الجبهة الداخلية، واحتمال حصول انقسامات في الولاءات داخل النخبة الحاكمة لتلك القوى، وما ينتج عن ذلك من تعمُّق لحالة الاستقطاب السياسي في الداخل السوداني قد تُفضي إلى اضطرابات وعدم استقرار، واحتمال عودة الإسلاميين، كقوة منظمة وفاعلة، إلى قلب المشهد السياسي مجدداً.
وقد تتسع تداعيات هذا التنافس إقليمياً إلى نطاق جغرافي أكبر يمتد إلى منطقتي البحر الأحمر والقرن الإفريقي، بما يهدد بمزيد من التدويل والعسكرة للمنطقة نتيجة اشتداد التنافس على الموانئ البحرية، وتنامي توجهات إنشاء القواعد العسكرية الأجنبية فيها.
المراجع:
(1) انظر:
The Rising Importance of Port Sudan,” Africa News Portal, available at: https://bit.ly/2OJDm2x
(2) إسماعيل محمد علي، “السودان يحاصر مهربي الذهب بالأسعار والقانون”، إندبندنت عربية، 20 يونيو 2020، متاح على: https://bit.ly/3eXiSxF
(3) عبد الله عبد القادر آدم، “الصومال والسودان وأهمية الموقع الاستراتيجي للقرن الإفريقي”، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، 26 يوليو 2018، متاح على: http://mogadishucenter.com/2018/07/الصومال-والسودان-واهمية-الموقع-الاست/
(4) “السياسة أم الاقتصاد… ما الذي يدفع قوى كبرى للتحرك نحو السودان؟”، وكالة سبوتنيك، 24 ديسمبر 2020، متاح على: https://bit.ly/3cKjiEV
(5) أحمد يونس، “بوادر سباق أميركي-روسي على السودان”، صحيفة الشرق الأوسط، 21 ديسمبر 2020، متاح على: https://bit.ly/3luMNPg، وانظر أيضاً: “واشنطن «تكشر عن أنيابها» بوجه مساعٍ روسية لبناء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر”، متاح على: https://bit.ly/3cHHZlr
(6) أنظر:
Call for US Pres Biden to normalise relations with Sudan ‘on his watch’,” Dabanga, 3/2/2021, available at: https://bit.ly/30Znr2n
(7) أنظر:
“United States signs $1.2bn loan deal with Sudan,” Africa News, 6/1/2021, available at: https://bit.ly/3c3B0Ed
(8) أنظر:”United States Announces $81 Million in Humanitarian Assistance to Help the People of Sudan,” Relief Web, 24/10/2020, available at: https://bit.ly/3s5NlgW
(9) أنظر:
USAID, “$20 MILLION IN WHEAT PROVIDED THROUGH USAID GRANT ARRIVES IN SUDAN,” 16/12/2020, available at: https://bit.ly/3110BHC
(10) سعيد الطيب، “السودان والصين: ستون عاما من العلاقات البناءة”، وكالة السودان للأنباء، 26/1/2019، متاح على: https://bit.ly/3sfdUAs
(11) وزير الاستثمار السوداني لـ”الشرق”: 3 شركات صينية ترغب في استثمار مليار دولار، موقع الشرق، 4/3/2021، متاح على: https://bit.ly/2OSpRgI
(12) أنظر:
“DP World, China Harbour vie for roles in Sudanese ports,” Gulf Business, 3/3/2021, available at: https://bit.ly/3vImKIZ
(13) أشرف محمد كشك، “مقترح إنشاء المركز التجاري اللوجستي الروسي في السودان”، أخبار الخليج، 30 نوفمبر 2020، متاح على: https://bit.ly/3bUYFH0
(14) أنظر:
Pablo Arbunies, “Russia’s sharp power in Africa: the case of Madagascar,” Central Africa Republic, Sudan and South Africa, Global Affairs Strategic Studies, 12/3/2021, available at: https://bit.ly/3vMsHEA
(15) أنظر:
Samuel Ramani, “Resilience amid turmoil: Russia and Sudan maintain strong ties despite political upheaval,” Middle East Institute, 26/11/2019, available at: https://bit.ly/3c1ShO3
(16) أنظر:Alex Irwin-Hunt, Russia’s ongoing charm offensive in Africa, 15/9/2020, available at: https://bit.ly/390ZDjb
(17) أنظر:
Cristina Maza, Russia, “Explained: Russian Adventurism in the Red Sea,” CEPA, 22/12/2020, available at: https://bit.ly/38YbHSg
(18) ندى أحمد، “لماذا يجب أن نوجه اهتمامنا نحو السودان”، مركز مالكوم كير-كارنيجي للشرق الأوسط، 2 فبراير 2021، متاح على: https://bit.ly/3eRbJyT
(19) أنظر:
Samuel Ramani, “Russia’s Port Sudan Naval Base: A Power Play on the Red Sea,” RUSI, 7/12/2020, available at: https://bit.ly/3cX1MxA
المصدر: مركز الإمارات للسياسات.
مصدر الصور: النهار العربي – الحدث المصرية.
موضوع ذا صلة: نزاع النفوذ الدولي في بورتسودان.. مكاسب ومخاوف