تشعر شريحة كبيرة من المصريين أن المجتمع الدولي أكثر اهتماماً بحل أزمة الحدود بين السودان وإثيوبيا ووضع حد للصراع الدائر في إقليم تيغراي من إيجاد تسوية سريعة لأزمة “سد النهضة”. تزايد هذا الشعور مع توالي الحديث عن وساطة خارجية بين الخرطوم وأديس أبابا، وزيادة التحذيرات من مغبة استمرار النزاع في تيغراي.
بدت أزمة “سد النهضة” أقل اكتراثاً في المقاربات الموجهة لمنطقة القرن الإفريقي، مع أنها مستمرة منذ عشر أعوام، ولم يتم إيجاد حل مناسب لها أو ممارسة ضغوط قوية على إثيوبيا لإجبارها على التجاوب مع مبدأ عدم الإضرار بمصالح الغير، كأن هناك “مؤامرة” تستهدف استنزاف مصر والسودان عن طريق المفاوضات لحساب إثيوبيا.
ظهر التلويح بالتدخل جدياً لأجل الحل الودي في أزمة الحدود، وجرى رفع العصا في وجه الحكومة الإثيوبية بسبب تيغراي، لأن تداعيات الأزمتين من الصعوبة ضبطها، وتصطحب معها روافد قاسية على الدول المحيطة، وقد تصاب المنطقة برمتها بسلسلة جديدة من النزاعات يصعب السيطرة عليها في ظل بيئة تكمن فيها كل عوامل الانفلات وتنتظر لحظة تفجيرها من أية جهة.
جاء الاهتمام وتسليط الأضواء على أزمة الحدود من قبل قوى إقليمية ودولية، وانتفض بعضها بصورة كبيرة عندما استشعروا أن المناوشات العسكرية يمكن أن تقود لحرب حقيقية، فالقوات المسلحة في كل من السودان وإثيوبيا وصلت لجاهزية مرتفعة، وثمة من يغذي الاتجاه نحو المزيد من الاستنفار لما ينطوي عليه من مصالح لهم.
كانت الصورة مغايرة في بداية الأزمة، فلم يعبأ كثيرون بسخونة الحدود، ولم تظهر إثيوبيا تجاوباً مع الإشارات التي جاءتها من الاتحاد الإفريقي ودولة جنوب السودان للوساطة، على اعتبار أن الخرطوم ستقوم بالتراجع خطوة أو خطوات للوراء نتيجة السيولة الطاغية في جوانب من أوضاعها الداخلية.
عندما تمسك السودان بعدم التفريط في ما حققته قواته المسلحة من تقدم وسيطرة على جزء كبير من الأراضي التي احتلتها إثيوبيا في إقليم الفشقة، شعرت بعض القوى المراقبة للموقف أن التطورات مقبلة على الدخول في نفق قاتم، بما يضر بترتيبات طامحة وطامعة في السيطرة على المنطقة، ويوقف قطار السلام والأمن والاستقرار الذي تعوّل عليه بعض الدول لإعادة صياغة منظومة إقليمية تحقق أهدافها.
بدأت تتوالى التلميحات والتصريحات للوساطة في خضم عدم اعتراض واضح من أديس أبابا أخيراً، التي وجدت أن القبول بأي تدخل في الأزمة يعني الاعتراف بوجود طرفين متنازعين، ويستوجب تقديم تنازلات متبادلة تضر السودان أكثر من إثيوبيا، لأن الأرض “محل النزاع” مملوكة له وفقاً لعلامات ترسيم الحدود المعترف بها دولياً.
كشفت أديس أبابا عن استعدادها للحل وسحبت الإشارات التي أوحت بأنها مقبلة على حرب مع السودان. وتبدل الخطاب الرسمي وبات أكثر سلمية، وظهر ذلك أيضاً على الخطاب السوداني، بما أسهم في تشجيع خطط التحرك لإيجاد حل، حيث وجدت إثيوبيا أن المرونة في أزمة الحدود تفضي لتفكيك التعاون والتنسيق بين القاهرة والخرطوم في أزمة “سد النهضة” الذي وضعها في موقف ضعيف دبلوماسياً.
لا يعني هذا الكلام أن هناك ما يشبه التواطؤ على مصر أو انتهازية من قبل السودان، لكنه يعكس قراءة بعيدة من جانب إثيوبيا، والتي تأكدت أن فض هذا التحالف يمكنها من المضي في “سد النهضة”، كمشروع قومي تعتقد قيادتها أن تنفيذه أحد تجلياتها الإيجابية، ويساعد على الالتفاف الشعبي حولها، وكسر شوكة المعارضة المحلية.
أبدت الحكومة في أديس أبابا ليونة في أزمة تيغراي من خلال الاعتراف بوجود انتهاكات والتحقيق فيها، ما يعزز التقارير الدولية التي أشارت إلى ذلك، وتأكيد دخول قوات إريترية على خط الحرب في الإقليم، وبعيداً عن الدوافع التي ساقها آبي أحمد وتتعلق بدفاع هذه القوات عقب تعرضها لرشقة صواريخ من تيغراي، أوحت الخطوة بتبرئته وأنه غير مسؤول عن أية انتهاكات ميدانية، خاصة أنه تعهد بمعاقبة المجرمين.
ينسجم هذا التحول مع رغبة قوى دولية تتشدق بالاهتمام بحقوق الإنسان في العالم، ويرضي غرورها في تكرار هوايتها في المزيد من التركيز على الأزمة التي مهما بلغت الضغوط فيها على الحكومة الإثيوبية فهي تحتاج إلى قدر من الترتيبات أو حتى التنازلات الداخلية من دون أن تلحق أذى بثوابت الحكم.
يقود التقاطع الإيجابي مع هذين الأزمتين إلى تبييض وجه أديس أبابا، ويبعد عنها الفكرة الرائجة بأن حكومتها متمردة وتريد إعادة ترسيم الجغرافيا السياسية على طريقتها والإضرار بمصالح الآخرين، وأية حالة شكلية في الحدود مع السودان وتيغراي تقلل من قيمة اتهامها بأنها متعنتة ومتغطرسة في أزمة “سد النهضة”.
تحصل أديس أبابا على هذه الرخصة بموجب قبولها بوساطة خارجية في الأزمتين على سبيل إظهار المرونة وليس الحل النهائي، ويحصل المنخرطون في الوساطة على شرف قدرتهم على نزع فتيل صراعين يهددان التماسك النسبي في منطقة تتشكل من موزاييك سياسي وأمني واجتماعي قابل للانفجار.
جاء التركيز على الأزمتين من خبرة المفاوضات الطويلة في أزمة “سد النهضة”، والتي دخلت على خطها الولايات المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الإفريقي، ورفضت إثيوبيا القبول بالطرح الخاص بتشكيل لجنة رباعية عبر إضافة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي.
يرى مصريون أن إهمال “سد النهضة” عملية متعمدة، ومقصود بها الانتصار لإثيوبيا لتتمكن من جعل مشروعها أمراً واقعاً مع الملء الثاني للسد، في يوليو/تموز 2021، وعلى حكومتهم التحرك بخشونة لوضع حد لمماطلات أديس أبابا قبل فوات الأوان.
بعيداً عن فكرة المؤامرة الكونية، فالناظر إلى أزمة “سد النهضة” يجدها معقدة وليس من السهولة توجيه ضربة عسكرية مباشرة له، لأن تأثيرات هذا التصرف فنياً وسياسياً وأمنياً كبيرة، وربما تجهض خطة التحديث الجارية في مصر؛ لذلك، لا تميل قيادتها لهذا الحل، فالسد أبعد من مشروع تنموي، وتسهم فيه بالتمويل والبناء شركات تابعة لقوى إقليمية ودولية، لا تريد القاهرة المخاطرة معها.
تسببت ثقة القوى الدولية في استبعاد الحل العسكري، مقارنة باستمرار هذا الشبح في أزمتي الحدود وتيغراي، في عدم الحماس للوساطة التي ترفضها إثيوبيا؛ بالتالي، فالقبول بها في الأزمتين الأخريين يفهم على أنه يرمي لتخفيض قبضة الضغوط الدبلوماسية عليها في “سد النهضة”، وفض التحالف بين مصر والسودان الذي أصبح رأس حربة ويكبدها خسائر باهظة.
المصدر: صحيفة العرب.
مصدر الصور: سي.إن.إن عربية.
موضوع ذا صلة: تيغراي.. إرتيريا جديدة؟!
مدير تحرير جريدة الأهرام المصرية / مدير مكتب جريدة العرب اللندنية بالقاهرة – مصر