تشتد الأزمة اللبنانية بشكل غير مسبوق وعلى مختلف النواحي والصُعد؛ إلا أن الخطورة القصوى تكمن في الجانب الاقتصادي منها، حيث يعيش اللبنانيون ظروفاً استثنائية قاسية أوصلت نسبة كبيرة جداً منهم إلى حد أدنى من خط الفقر و/أو بمستواه، لا سيما مع غلاء المعيشة الفاحش وفقدان عدد كبير من السلع – سواء بسبب نقص العملة الأجنبية للاستيراد أو احتكار التجّار – وتدني سعر الصرف بشكل دراماتيكي والذي أُّثّر بدوره وبشكل كبير على القيمة الشرائية للرواتب والأجور ناهيك عن حجز أموال المودعين في المصارف وتداعيات أزمة “كورونا”، ليأتي تفجير مرفأ بيروت، 4 أغسطس/آب 2020، ليزيد الطين بلة.
هذه الظروف المتعددة، ومنها السياسية التي تَظهر بشكل جلي في عدم تشكيل حكومة حتى الآن بسبب التجاذبات الدولية والإقليمية وحتى المحلية، جراء حسابات ومصالح أطراف عدة من الأحزاب السياسية اللبنانية التي تعلو في بعضها المصالح الحزبية و/أو مصالح أفرادها على حساب الشعب ومصالحه؛ كل ذلك، يعطي مؤشرات سلبية على عدم وجود ضوء في آخر نفق الأزمة، ما يطرح عدداً من الأسئلة وأهمها: ما هي السيناريوهات المتوقعة للحل؟ ومن يعمل على العرقلة لأخذ لبنان نحو المجهول؟
خيبة أمل
دخلت فرنسا على خط الأزمة اللبنانية، لأجل إيجاد حل ما يرضي غالبية الأطراف، من خلال وضع عناوين عريضة؛ وعلى الرغم من قدوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – مرتين خلال أقل من شهرين – وكذلك وزير خارجيته جان إيف لودريان، واجتماعهما بكافة المسؤولين اللبنانيين، توقّع البعض حدوث إنفراجة نحو إيجاد مخرج للظروف التي يعيشها لبنان، لا سيما بعد تكليف السفير د. مصطفى أديب بتشكيل الحكومة والذي قام بالإعتذار لاحقاً، لتعود الإستشارات النيابية الملزمة مرة أخرى وتُسْفر نتائجها عن تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة.
لكن على عكس التوقعات، إعتبر بعض المراقبين أن الزيارة الفرنسية كانت عبارة عن حنين لحقبة الاستعمار الفرنسي، واعتبار لبنان “مستعمرة” تخضع – ولو معنوياً – لقرار باريس على غرار الماضي السحيق؛ وبالتالي، ظهرت خيبة الأمل الفرنسية من خلال تصريحات صدرت عن قصر الإليزيه تندد وتتهم العديد من الأوساط السياسية اللبنانية بالفشل والتعطيل، في وقت لم يرقَ فيه مؤتمر بروكسل للمانحين الدوليين لأن يصل إلى مستوى مساعدة لبنان على النحو المطلوب، في ظل العديد من الأزمات ومنها تفجير مرفأ بيروت.
هذا الأمر يوحي بأن الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل على تصعيد الأوضاع لا إلى التخفيف من حدتها، رغم أن البُنية والأرضية – كانت في مرحلة ما – مستعدة للحل، فقد تكون للظروف المرافقة أيضاً – كاشتداد أزمة جائحة “كورونا” – سبباً إضافياً لتفاقم أعباء لبنان، زد على ذلك مسألة رفض صندوق البنك الدولي تقديم مساعدات مالية على شكل قروض؛ كل هذه العوامل، كشفت الدور الأوروبي، ومن ضمنها المبادرة الفرنسية التي لم تحقق شيئاً، حيث بدأ الحديث عن توقيع عقوبات على العديد من الشخصيات السياسية اللبنانية من قبل الاتحاد الأوروبي.
بين موسكو وبيروت
على ما يبدو، إن زيارة رئيس الحكومة المكلف، سعد الحريري، إلى العاصمة الروسية مؤخراً ولقائه عدداً من المسؤولين الروس، جاء لنفس الأسباب التي دفعت فرنسا لإرسال مسؤوليها وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي ماكرون إلى لبنان، هي أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، لكن الفارق بينهما أن موسكو تبدو جادة في تقديم المساعدة إذ أن لها مصلحة مباشرة بـ “التطبيع الاقتصادي” مع بيروت، لعل أبرزها الاستحواذ – قدر الإمكان – على عقود التنقيب عن الغاز على طول السواحل اللبنانية، وهو ما يعد صفعة مباشرة لواشنطن.
الدليل على ذلك أن زيارة الرئيس الحريري إلى موسكو تزامنت مع زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية، ديفيد هيل، إلى لبنان ولقائه عدداً من المسؤولين اللبنانيين، ولكن لماذا؟ بحسب المعلومات، أن العنوان العريض لهذه الزيارة جاءت لإقفال ملفّ تعديل مرسوم ترسيم الحدود البحرية؛ وإذا ما تم هذا الإقفال، فسيليه حكماً العودة إلى طاولة المفاوضات على الأسس السابقة، أي وفق ما أعلنت عنه إدارة هيل سابقاً. لكن في المقابل، استطاع رئيس الجمهورية، العماد ميشيل عون، انتزاع موافقة الوسيط الأميركي على الاستعانة بخبراء دوليين لترسيم الحدود، وهو ما كان يرفضه الجانب الإسرائيلي.
إن دل ذلك على شيء، فهو يدل على أن واشنطن تريد الاستحواذ على لبنان، ومن جهة، وقطع الطريق على موسكو، من جهة أخرى، من خلال عرقلة مساعيها والتي من الممكن أنه تكون قد بُحثّت مع الرئيس الحريري في زيارته الأخيرة، لينتقل التوتر الأمريكي – الروسي اليوم إلى ساحة صراع جديدة، وهي لبنان.
ما يؤشر على ذلك أيضاً، ما أشار إليه نائب رئيس وفد حزب الله إلى موسكو ومسؤول العلاقات الخارجية في الحزب، السيد عمار الموسوي، ضمن مقابلة مع “مركز سيتا” حيث قال “ناقشنا أهمية المساهمة الروسية أسوة بالمساعي الأخرى من قبل العديد من الدول في الاستثمار في مشاريع البنى التحتية، وكذلك مشاريع الطاقة ومنها استخراج الغاز في الحقول البحرية، خصوصاً أن روسيا كبلد صديق للبنان لديها كل الخبرة والموارد التي تمكنها من المساهمة في هذه المجالات، الأمر الذي يحقق فوائد مشتركة للطرفين.”
تغيير في الخيارات؟!
في أكثر من مناسبة، أعلن الرئيس عون عن رغبة في “التوجه شرقاً” من أجل إنقاذ لبنان من مصير مأساوي؛ قابله في ذلك اشتداد محاولات الغرب لتعطيل هذا الخيار ومنعه بأية طريقة ممكنة خصوصاً وأن كلاً من الصين وروسيا باتتا اليوم أقوى من أي وقت مضى، فقد استطاعت الأخيرة أن تحتضن الملف اللبناني بطريقة أو بأخرى، لا سيما بوابة حزب الله.
من هنا، يكمن الخوف لدى الغرب بقيام أغلبية الساسة اللبنانيين – على إختلاف ولاءاتهم – من اتخاذ مثل هذا الخيار مستقبلاً تحت عنوان عريض وهو “إنقاذ لبنان أولاً”؛ وبالتالي، إن التشديد الغربي – وبأقصى طاقة ممكنة – قد يخلق حلاً عكسياً لم تكن واشنطن وحلفائها على استعداد له. ما يدعم هذا الرأي ورود بعض المعلومات عن طلب الرئيس الحريري من روسيا المساهمة في إعادة إعمار مرفأ بيروت، إذ أنه لم يتوجه بمثل هذا الطلب إلى الدول الغربية في وقت أبدت فيه ألمانيا رغبتها بذلك، وتحديداً شركة تابعة لميناء هامبورغ.
من هنا، إن وضع الرئيس الحريري خطوط لبنان العريضة في موسكو، وقبله زيارة وفد من حزب الله، يوحي بأن لبنان بدأ التفكير جدياً في مسألة “التوجه شرقاً”، لا سيما في ظل الضغوط الأمريكية الكبيرة – غير المباشرة – وعدم تقديم واشنطن للحلول، ومحاصرة لبنان من خلال منعه من التواصل مع سوريا – وكل ذلك عكس تصريحات الدبلوماسيين الأمريكيين سواء في بيروت أو في واشنطن.
أخيراً، تبدو الأزمة اللبنانية معقدة جداً لكن حلها غير مستحيل، لا سيما إذا ما توافق الأفرقاء المحليون أنفسهم على اعلاء مصلحة لبنان أولاً، من خلال وضع مصالح البلاد على سلّم الأولويات، خصوصاً وأن حل مسألة الغاز – إن حدث – سيكون حلاً لأزمة من مشكلتين؛ المشكلة الأولى هي الغاز كما ذكرنا. أما المشكلة الثانية، تكمن في سلاح حزب الله الإستراتيجي – أي الصواريخ الدقيقة – والتي ستكون حكماً على طاولة البحث ضمن الملف النووي الإيراني، حيث أن واشنطن لا تزال مصرّة على بحث موضوع النفوذ الإيراني في المنطقة – بحانب النووي – خصوصاً ذاك الذي يؤثر على إسرائيل ويهدد أمنها.
يبقى السؤال المُلح هنا: هل سيدخل لبنان حقاً في النفق الأمريكي – الإيراني بالكامل أم سيستطيع الأفرقاء تحييد أنفسهم وإنتاج سياسة محلية حقيقية تنقذ البلد من مصير شبه محتوم؟
مصدر الصور: إيلاف – روسيا اليوم.
موضوع ذا صلة: لبنان بين مرسوم الترسيم الحدودي وأزمة التدقيق الجنائي