كشفت تصريحات المسؤولين وسلوك إسرائيل أنها تريد كل فلسطين؛ ولذلك، عزلتها عن حاضنتها العربية بمساع أمريكية، وهما معاً تمكنتا من وصم المقاومة بالإرهاب، وظن الحكام العرب أن معاهدات السلام تفرض وصاية كلتيهما على دولهم، وقد تصل أحياناً إلى التحالف مع اسرائيل ضد فلسطين مع استمرار رفع “الشعار الخالد” أن القضية الفلسطينية هي “قضية العرب الأولى”، ومع ذلك ملتزمة بمنهج السلام مع إسرائيل كخيار استراتيجي، ولكن تصريحات الحكّام والسلوك الرسمي شجع اسرائيل على الاستمرار في قسوتها تجاه الفلسطينيين.

هذا المقال هدفه الأساسي تبرئة معاهدات السلام من أي التزام على الدول العربية بعدم دعم المقاومة ضد إسرائيل، ولدي ثلاثة أسباب واضحة، وهي:

السبب الأول: أن معاهدات السلام عادة لا تفرض وصاية على الطرف العربي وإنما تفرض بثقل الولايات المتحدة عدم المساس بإسرائيل وسياساتها. وقد هالني أن أسمع تصريحات بعض الحكام العرب – المتعاهدين مع إسرائيل – حول معاهدة السلام وكأنها تتضمن التزامات تفصيلية على دولهم وحتى في المجالين السياسي والإعلامي. وطبقاً لهذه التصريحات، لا يجوز للحاكم العربي أن يختلف مع إسرائيل أو ينتقدها أو يتخذ موقفاً مؤيداً للمقاومة وترتب على ذلك أن بعض الحكام العرب اتخذوا هذا التفسير ذريعة للخضوع لإسرائيل بما يؤدى إلى رضى واشنطن عنهم، وهذا باب لا دخل لي به. بينما أردت فقط أن أبيِّن أن هذا التفسير غير صحيح من الناحية القانونية، وقد يكون صحيحاً من زاوية الحسابات التي تسند نظام الحاكم العربي ورضى واشنطن عنه.

إن دعم المقاومة يمر بدرجات نظرية وعملية يمكن الاختيار بينها حسب ظروف كل دولة أو موقف، ولكن المعاهدة لا تلزم الدول العربية بالتحالف مع إسرائيل. تاريخياً، عقدت أكثر من 4500 معاهدة سلام وشكلت نظرية عامة. ومعاهدات السلام عادة تكون عقب الحروب وأنها تعالج الاضرار التي نجمت عنها، وعادة فإن المنتصر هو من يفرض شروطه على المهزوم تماماً مثلما فعلت “اتفاقية فرساي” التي عالجت المسألة الألمانية بقسوة شديدة لم يحتملها الشعب الألماني الأبي، فتولدت “الظاهرة الهتلرية”.

وقد لاحظت أن معاهدات السلام العربية هي “جائزة” أمريكية لإسرائيل، فكأنما يتحمل العرب هذا الثمن لإسرائيل لحساب علاقتهم بواشنطن. وقد أفصح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نفسه عن هذه الحقيقة عندما أكد بفخر واعتزاز أن الاختراق الاسرائيلي الديبلوماسي للصفوف العربية هو “أكبر إنجاز لإدارته”، كما لاحظت أن البيان المشترك الذي قدم لتطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل كان بياناً أمريكياً – مغربياً، وأن واشنطن أيدت تبعية الصحراء الغربية للرباط مقابل تطبيعها مع إسرائيل علماً بأن الموقف الأمريكي لم يتغير، وأن إعادة إعلانه هدفه الايهام بأنه مكسب كبير للمغرب، لكني أقرأه بعقل الناقد المستريب وهو أن إعادة الإعلان عن هذا الموقف الثابت هدفه تجديد اشتعال الفتنة بين الجزائر والمغرب لعل إسرائيل تتدخل من باب الوساطة بين الطرفين، وليس هذا بدعاً من القول فقد سبق لإسحق بيريز أن عرض الوساطة بين مصر والجزائر عندما ساءت العلاقات بسبب تدخل أبناء الرئيس المصري الراحل، محمد حسني مبارك، عقب مباراة لكرة القدم بين البلدين في السودان ترتب عليها أن إصابة الجزائر بـ “عقدة نفسية” حتى تجاه الثقافة العربية عندما تمت الإساءة إلى عروبتها من قِبل بعض الشخصيات المصرية المأجورة المحسوبة على الإعلام.

السبب الثاني: إن المعاهدات جميعاً، وعددها 6، تتضمن تناقضات صارخة ووعود كثيرة هدفها الظهور بمظهر المساند للفلسطينيين والمعادي لأعدائهم، ولا تتضمن أي التزام تجاه إسرائيل بعدم تأييد بل ودعم ومساندة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل أن ترفع دعاوى أمام المحاكم العربية حتى نختبر مدى فهم القضاة العرب لهذه المعاهدات بشرط أن يكون القضاء العربي مستقلاً عن الحاكم العربي.

السبب الثالث: لهذه النتيجة إن الحاكم العربي واقع بين حق وباطل، ناهيك عن المجاملات والعنتريات والشعارات العربية الطنانة التي لم تعد تجدي نفعاً عند الشعوب. من جهتي، أنصح الحكّام العرب بعدم اعلان فهمهم الساذج للمعاهدات مع إسرائيل ذلك لأن الاساس هو ضغط واشنطن عليهم، لا بل أن تأييدهم لها هو الضمان الوحيد لبقائهم في السلطة رغم أن تأييدها يعتبر ضاراً تماماً بالأوطان العربية. والحاكم العربي عندما يؤيد الشعب الفلسطيني في حقوقه المشروعة، لا يجامل ولا يستند ولا يفترض أن يستند إلى أن فلسطين جزء من الجسد العربي، فقد حرر الرئيس المصري الراحل، محمد أنور السادات، نفسه تحسباً لهذه الحجة، فتبرأ من العروبة وهذا شأنه، ولكنه تجرأ على نفي العروبة عن مصر، وللأسف سانده بعض المثقفين الكبار الذين ظهرت حقائق موقفهم ومدى فهمهم بل وعمق حقدهم على مصر، وكانوا أعلاماً نسير في ركابهم عندما كنا شباباً، مثل توفيق الحكيم وغيره.

والحق أن تأييد الحاكم العربي للقضية الفلسطينية هو تأييد للقانون الدولي وللشرعية الدولية، وأن سكوته على مجازر إسرائيل وجرائمها في فلسطين – بحجة أن المعاهدات تلزمه بالصمت – هو تواطؤ صريح مع الباطل، وإن كانت الحقيقة مرَّة ندر أن ينطق بها الكثيرون ممن تسمع كلمتهم.

خلاصة القول، إن الحكام العرب لا تثريب ولا التزام عليهم إن اختلفوا مع إسرائيل وراجعوا سلوكها البربري، كما يدرك الحكام العرب أنها تنفذ المشروع الصهيوني وتريد كل فلسطين، وأنها ليست صادقة في الادعاء بأنها تريد السلام الحقيقي الذي قررت معاهدات السلام، أي سلام دائم وعاجل وشامل، وهم يدركون تماماً أن تلك المعاهدات لا تهدف إلى ذلك ويعرفون أنهم “يخدرون” المواطن العربي بهذه المصطلحات.

على كل حال، نحن سنفصل ذلك في كتاب نعده عن معاهدات السلام العربية مع إسرائيل والمآخذ عليها، كيف أنها وجدت لصالح النُظم وضد صالح الاوطان ابتداءً من انجذاب الرئيس السادات إلى الحضن الأمريكي – الإسرائيلي حتى قبل “حرب أكتوبر”. برأيي، لا بد من التحقيق من دوره في هذه الحرب، وما أعقبها من مظاهر التقارب مع إسرائيل التي بدت بشكل جلي في تصريحات فخر العسكرية المصرية، أمثال الفريق الشاذلي والمشير الجمسي الذي بكى يوم توقيع اتفاق رفع الحصار عن الجيش الثالث الميداني – مع الإسرائيليين – المعروفة بمحادثات الكيلو 101 عقب انتهاء الحرب مباشرة، على أن يشمل التحقيق دور كل القيادات العسكرية الأخرى وأن يكون التحقيق موضوعياً ونزيهاً حتى تستقيم الأمور في حياتنا لهذه الملحمة الخالدة التي اختلف الرأي فيها بين مصر لدوافع معينة وبين إسرائيل لدوافع أخرى، فكل يحاول أن يدفع الطرف الآخر إلى الزاوية التي يريدها، فلا شك أن “حرب أكتوبر” كانت في أبسط معانيها رد اعتبار للجندي المصري الذي كان ضحية فساد قياداته السياسية والعسكرية، العام 1967.

مجمل القول إن الحاكم العربي إذا أراد أن يتخذ سلوكاً موالياً لإسرائيل وواشنطن فهذا السلوك دافعه مكاسب سياسية شخصية وتعود لنظامه، ولكن المعاهدات بريئة. صحيح أن الذين أبرموها مع إسرائيل حاولوا تسويقها بالتضليل وأن المعاهدة ليست إلا تعبيراً سطحياً عن زخم التقارب الذي فرضته واشنطن على الحاكم العربي، ولذلك شعرت بخطورة الجهل عندما طلب أحد المرشحين بالانتخابات الرئاسية الماضية، العام 2012، أن أرسل له معاهدة السلام الحقيقية السرية. ولما كنت أعرف المعاهدة واطبقها بحكم عملي بوزارة الخارجية وبحكم تخصصي الاكاديمي، أكدت له أنه لا توجد معاهدات سرية بين مصر واسرائيل، وإنما توجد تفاهمات وانكسار الارادة المصرية اتجاه إسرائيل، وذلك رداً على قوله أنه ينوي أن يلغي المعاهدة مع إسرائيل، فشعرت أنه إذا فاز فسوف يكون جهله خطراً على مصر وأنه ينتمي إلى عهد “الشعارات الفارغة” التي قال عنها الشاعر السوري الراحل نزار قباني، ما قتلت ذبابة وأن العرب دخلوا الحروب مع إسرائيل بعقلية المزمار والربابة والعنتريات العربية الفارغة التي رددها زعماء الشعارات القومية.

ختاماً، إن معاهدات السلام لا تمنع الحكّام من الانحياز لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة وصيانة كرامته. أما تقربهم من اسرائيل فليس التزاما في المعاهدة، وإنما له أسباب أخرى لا علاقة للأخيرة بها.

مصدر الصور: روسيا اليوم – AFP.

اقرأ أيضاً: الأشعل: أحد الحلول الأمريكية إيصال مياه النيل إلى إسرائيل

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر