تكررت الخطابات الغربية المنوهة بفشل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في رهانه على تقسيم حلف شمال الأطلسي – الناتو، خاصة على لسان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي صرح بذلك في اغلب اطلالاته الاعلامية منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث تحدث عن وحدة حلفهم العسكري، كما أكد فشل محاولات تقسيمه، والغريب في هذا الطرح أن المتحدث عن تماسك الحلف هو رئيس أقوى دُولهِ؟ فهل سبق وأن عاش الحلف تهديدات بالانقسام؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى، هل توجد دول أخرى اشتكت من مخاطر وتهديدات تقسيم الحلف؟ أو بالأحرى الخوف كان على من داخل الحلف؟ أم أن الأمر كله مرتبط بخطابات تطمين داخلي للحفاظ على وحدة الصف الغربي؟
ولتكون هذه التطمينات المصحوبة بحديث أمريكي عن فشل الرئيس بوتين في تقسيم الحلف بمثابة تعبير غير مباشر عن حالة التخوف من مخاطر وصعوبات قد يعيشها الحلف مستقبلاً، رغم أن روسيا لم تخاطب مباشرة حلف الناتو بخصوص وضعية دوله المتحالفة لمصالح أصبحت مهددة بشكل متفاوت ومتباين، كما أنها لم تقدم اغراءات تحفّز مكوناته على الخروج منه أو لإثارة فتنة داخله، كما ان الحكومة الروسية لم يسبق وأن اعتمدت خططاً مشابهة، ولم تقدم امتيازات اقتصادية ولا خدمات لوجستية تفضيلية لأي من دول الحلف بالرغم من قدرتها على توظيف أوراق كفيلة بالتأثير على التكتلات الداخلية للحلف لصالح هذا التقسيم المزعوم.
على سبيل الثمال، إن الغاز الروسي يمون 40% من احتياجات أوروبا، ما جعل عدداً معتبراً من دول الحلف في وضع اقتصادي مغاير للوضع الأمريكي من حيث الحاجة للطاقة ومدى ضمان مواردها، ناهيك عن ملفات أخرى قد تتسم بالسرية ومجرد اخراجها للعلن لن يخدم انسجام ووحدة مصالح دول حلف الناتو، فهل فرضت روسيا شروطاً لامداد أوروبا بالغاز؟ وهل سبق وأن كشفت موسكو عن معلومات سرية بخصوص أحداث عالمية واقليمية من حروب وحملات القصف الصاروخية والاغتيالات السياسية والأزمات الاقتصادية؟
بل والأكثر من هذا بأن لروسيا نظرة أخرى تجاه حلف الناتو، حيث قال رئيسها في هذا الصدد أنه حين إلتقى بالرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلنتون، سأله عن رأيه بخصوص انضمام روسيا لحلف الناتو، ما يؤكد عدم وجود افكار عدائية روسية ضد الحلف ودوله؛ لكن تطورات الأوضاع السياسية بتوجهاتها المستجدة في الجوار الروسي، عجلت ببروز نزعة عسكرية في المنطقة لم تكن لتحدث – حسب الروس – لولا الاقتراب الغربي الكبير الذي وصل إلى حد التواجد المهدد لبلدهم بشكل مباشر، خاصة على الحدود الاوكرانية.
وبالحديث عن تبعات ما قاله الرئيس بوتين بخصوص امكانية انضمام روسيا لحلف الناتو، يمكن طرح أسئلة مهمة عن مدى جدية الطلب الروسي بالأساس، وعن الاجابة الأمريكية. هل كانت مبنية على دراسة واقعية؟ وهل كان لبقية دول الحلف نفس الموقف تجاه الرغبة الروسية حينها؟ خاصة وأن انضمام روسيا للحلف كان سيقلل من حدة التوترات الحالية وبما يحفظ للغرب حلفه وتوازناته وللعالم امنه وسلمه، أم أن الروس متأكدون من استحالة انضمامهم للحلف، وأرادوا فقط مبررات قوية لخياراتهم المحتومة تجاه الوضع المحيط بهم؟
إقرأ أيضاً: أوكرانيا.. “معزاة البوزكاشي” الأفغانية في الصراع الأوراسي – الأطلسي
أيضاً، هل كان تقسيم الناتو هدفاً روسياً غير معلن؟ أم أن هذه التصريحات ما هي إلا تحديات يعيشها الناتو حتى وإن كانت غير معلنة؟ أم أن الخطابات السياسية المتضمنة لمعطيات مماثلة (كالاعلان عن فشل محاولات تقسيم حلف عسكري مثل الناتو) قد جاءت بالتزامن مع اشتداد وطيس المعارك العسكرية واستخدام روسيا لأسلحة وصواريخ جد متطورة، ليلخص كل ذلك خوفاً حقيقياً من وصول المعارك إلى دول أخرى ابعد من أوكرانيا؟
كما يمكن اعتبار التصريحات الامريكية حول تماسك حلف الناتو بمثابة رسائل تطمين للحكومات المتعاونة مع الغرب في المنطقة، خاصة تلك التي سيتحتم عليها التفكير بجدية بخصوص مراجعة مخاطر خياراتها، لأن درس حالة أوكرانيا سيكون كافياً للبقية؛ وأما بالنسبة للدول التي تطمح للتعاون مع الغرب أو تريد تقديم تسهيلات للناتو، فحالها ليس بعيداً عن نظيراتها في المنطقة، التي قد تشهد تجاذبات سياسية داخلية بتحرك نخبها السياسية والشعبية للمطالبة باعتماد الحياد كنوع من التبرير المصاحب لرفض الاقتراب من سياسات قد تزعج “الدب الروسي”، الأمر الذي جعل من التصريحات الغربية – خصوصاً الامريكية منها – تصب في خانة التأكيد على تماسك الصف داخل حلف الناتو؛ وفي المقابل، هل ستشهد المنطقة مطالباً سياسية مدعومة بتحركات شعبية للمناداة باعتماد احلاف عسكرية قوية تكون نداً لحلف الناتو في العالم؟
لأن المعارك التي تحدث على أرض اوكرانيا ليست الا ساحة لكشف تناقضات القوى العالمية ولاظهار اختلالات الدوافع الغربية، التي بنيت على توافقات كانت أوسع فيما مضى خاصة ما تعلق بمناطق نفوذ أخرى، التي تناغمت فيها خيارات الصراعات والحروب المغايرة للحالة الاوكرانية، لأن هذه الأخيرة تحمل في طياتها مخاطر على أمن واستقرار أوروبا تحديداً.
أما الحروب التي فرضت فيما مضى على بلدان عربية فهي بطبيعتها وأهدافها مختلفة، لأن المكاسب والمصالح الغربية كانت مضمونة إلى حد القبول بتبعات القصف المحرم والتقتيل المجرم، والنتيجة خراب وتخلف زكاه الغرب بمسميات مختلفة كالديمقراطية والأسلحة البيولوجية والدمار الشامل، ليقع هذا الاخير ببشاعة صَورتها النتائج الميدانية ووثقتها الحالة المعاشة ضد حقوق الانسان في دول عربية كانت هدفا لعمليات عسكرية قاد أغلبها الناتو ودوله المتحالفة.
مصدر الصورة: وكالة الصحافة الفرنسية.
د. عمار براهمية
كاتب وباحث – الجزائر