بات واضحاً أن النوايا التصعيدية لدى طهران تزامنت مع تحررها من قبضة الإدارة الأميركية السابقة، فتصريحات القادة العسكريين الإيرانيين المتتالية بأنهم يتحكمون في مضيقي هرمز وباب المندب، استفزت كل القيمين على طرق التجارة الدولية.
لقد استهدفت الهجمات الإسرائيلية السابقة سفناً، زعمت أنها كانت تهرّب – في ظل العقوبات الأميركية – النفط من إيران إلى سوريا، وكذلك سفنٌ هرّبت أسلحة إلى حزب الله؛ فالهدف الحالي من العملية الأخيرة في استهداف سفينة إيرانية غير مألوف بأهميته وعلاقته المباشرة بالحرس الثوري الإيراني، ويصنف في خانة التصعيد المتعمد. والسؤال هنا: من سيتحمل مخاطر هذا العبث المتبادل في البحار والمضائق الدولية؟ هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، كنتيجة أولية لمحادثات فيينا حول إعادة العمل بالإتفاق النووي بين الدول الخمس والجمهورية الإسلامية في إيران “يبدو أن تفاهماً جديدا آخذ في الظهور، وثمة تفاهم بين الطرفين بشأن الهدف النهائي، لكن الطريق ليس سهلاً وهناك بعض الخلافات الشديدة”، هذا وفق ما أعلنه عباس عراقتشي، كبير المفاوضين الإيرانيين في فيينا السبت 17 أبريل/نيسان 2021. كما أكد مبعوث الصين الى المفاوضات إنها ستستمر وإن بقية الأطراف الموقعة على الاتفاق وافقت على تسريع العمل بشأن قضايا تشمل العقوبات التي سترفعها الولايات المتحدة. وبدوره، أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان “أن محادثات فيينا النووية مع إيران كانت مثمرة”.
هل تعمّد عراقتشي إشاعة جو من التفاؤل في سبيل توظيفه داخلياً في الإنتخابات الرئاسية المرتقبة في إيران؟ في المقابل ومن خارج أبواب فيينا، تم تسريب أخبار لقاءات مباشرة بين السعودية وإيران، عقدت وما زالت في بغداد. فهل أن غموض الموقف الأميركي أربك حلفاءها الإقليميين فاختارت الرياض الحوار المباشر مع طهران؟ وهل أن “إدارة الظهر” المتعمدة من إسرائيل لتلك المباحثات وتفعيل أعمالها العدائية بحق طهران في الداخل أو في البحار والردود الإيرانية العسكرية، هما ترجمة لعدم الثقة بنتائج ما هو مطروح على طاولة فيينا؟
نحاول، في هذه المقالة معالجة مصير هذا العبث المتبادل الإسرائيلي – الإيراني في مياه الخليج على أمن تلك المنطقة.
رسائل أمنية عسكرية بين ايران وإسرائيل
لم تتجاوز أوجه الإستنفار في منطقة الشرق الأوسط الإستعدادات والحشد البحري والجوي من الجهتين الأمريكية والإيرانية، فإذا كانت نية الفريقين تدارك إحتمالات المواجهة، فهذا الوضع لا ينطبق على العامل الإيراني – الإسرائيلي. فالصراع المتفجر الذي تخوضه إسرائيل جويا أو بالمدفعية فوق وعلى الأراضي السورية هو – في معظمه – يستهدف “الأذرع” الإيرانية العاملة تحت قيادة الحرس الثوري. ولكن الجهوزية العسكرية الإسرائيلية ترجمت في خوض غمار الحرب السيبرانية ضد طهران، واستدعت رداً إيرانياً مماثلاً على بعض ادارات مصالح المياه وبعض المصارف الإسرائيلية، العام 2020، ليتطور الوضع الى محاولات إسرائيل في ضرب السفن التجارية الإيرانية القادمة الى سوريا – وقد تجاوزت العشر عمليات.
لكن حصول اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، على الأراضي الإيرانية، الذي اتهمت إيران تل أبيب بالوقوف ورائه، فاقم الوضع العسكري، وشهدت المنطقة تحركاً عسكرياً ناشطاً للبحرية الإسرائيلية، فعبرت الغواصة الإسرائيلية من نوع دولفين قناة السويس، 20 ديسمبر/كانون الأول 2020، قاصدة مياه الخليج بعد موافقة السلطات المصرية. وتجول في تلك المياه سفن خفية إسرائيلية غير مأهولة تقوم بمهام الرصد والإستعلام وتتدخل في التشويش على الإتصالات.
بعد رصد مكثف، لاحت لطهران امكانية اقتناص فرصة عبور سفينة شحن مملوكة لرجل الأعمال إسرائيلي بحر العرب، نهاية آذار/مارس 2021، فهاجمتها وتمكنت من اعطابها. ولم يتأخر الرد الإسرائيلي على العملية؛ ففي 6 نيسان /أبريل 2021، أكدت وكالة “تسنيم” المقربة من الحكومة الإيرانية، تعرض سفينة “سافيز” لهجوم في مياه البحر الأحمر، ناقلةً عن مصادر لم تحددها أن استهداف السفينة كان بألغام بحرية ألصقت بهيكلها.
وهذا كشفت إيران، مؤخراً، كذلك عن تفجير في مفاعل نطنز تسبب في انقطاع التيار الكهربائي، وأن “عدداً كبيراً” من أجهزة الطرد المركزي المخصصة لتخصيب اليورانيوم والتي تعطلت بسبب الانفجار عادت إلى العمل بشكل طبيعي. وكانت وسائل إعلام إسرائيلية نسبت لجهاز المخابرات – الموساد ضلوعه في عملية تخريب نطنز. وكالعادة لم يصدر أي تعليق رسمي من إسرائيل.
نقل الحرب بين الفريقين إلى خطوط معلنة ومباشرة
لقد درجت إسرائيل على اعتماد سياسة عدم الإعتراف بمهام أمنية وعسكرية خارج حدودها، وهي لا تقوم بإبلاغ جهات أجنبية حول تلك العمليات التي تنفذها قواتها الخاصة، والسرية هنا هي أداة عمل، ففي ظنها أن سرّية هذه العمليات تسمح لإسرائيل نفي علاقتها بها، والنشر عن عملية إسرائيلية خاصة تلحق ضرراً مزدوجاً؛ وفق أحد المحللين العسكريين، فهي “تكشف أسلوب العمل، الأمر الذي يمنع تكراره في المستقبل، وكذلك يستدعي رد فعل من الجانب المستهدف وحرج دولي”.
واعتبر مسؤولون في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن “نجاح الإيرانيين بمهاجمة سفينتين مدنيتين إسرائيليتين يشير إلى فشل قادة المعركة، ولا توجد كلمة أخرى”، مشددين على أن “المعركة يجب أن تكون سرية وغامضة وغير مباشرة. ولا يمكنها أن تعرّض المصالح المدنية الإسرائيلية للخطر”.
وفي قراءة استراتيجية للحدث، فقد تمكنت إسرائيل من نقل التركيز من الحملة الرامية إلى القضاء على جسر إيران البري الذي يعبر سوريا – أي الطريق البري الذي يصل طهران بالمتوسط ويمر عبر لبنان – إلى جهود تهدف إلى تعطيل جسرها البحري عبر البحر الحمر.
تخوف إسرائيلي من اتجاهات محتملة للرد
اذا كانت “غاية الهجوم هذه المرة هي التوضيح لإيران أن الهجمات الأخيرة ضد سفن مدنية بملكية رجال أعمال إسرائيليين كانت خارج قواعد اللعبة، فبالإمكان التقدير أن إيران لن تتغاضى عن الهجوم الأخير. وإحدى الإمكانيات هي إطلاق وسائل قتالية من الأراضي الإيرانية باتجاه الأراضي الإسرائيلية. وبإمكان الإيرانيين مهاجمة إسرائيل بصواريخ، والأرجح بطائرة مسلحة من دون طيار وذات مدى 2000 كلم أو أكثر.”
وقد يكتب النجاح في تحقيق الهدف من هكذا هجوم، فملامح التحليق لوسيلة قتالية كهذه، بسرعة بطيئة وقريباً من الأرض، خلافاً لمقذوفات وصواريخ عادية، يضع تحدياً أمام اعتراضها بالنسبة لسلاح الجو الإسرائيلي. ويتوقع محللون عسكريون في تل أبيب أنه “إذا عملت إيران بشكل مباشر من أراضيها، فإنها ستنقل بذلك لأول مرة الحرب مع إسرائيل إلى خطوط معلنة ومباشرة. وحتى الآن دارت هذه الحرب في الظلال وبسرية أو في أرض أجنبية وبواسطة أذرع، خاصة الميليشيات الموالية لها في سوريا.”
قلق إسرائيلي من مباحثات فيينا
يعتقد مسؤولون إسرائيليون أن الإيرانيين لا يسعون للوصول إلى سلاح نووي خلال الفترة القريبة، وإنما يعمل قادة طهران على أن تصبح إيران دولة “شبه نووية”، وأن المحادثات في فيينا، والتي قد ستستمر لعدة أشهر، ستسمح لهم بإحراز تقدم كبير في هذا الاتجاه، وتسعى إسرائيل الى محاولة عرقلة هذه العملية، وإحدى الطرق المتاحة أمامها للتأثير على إدارة الرئيس جو بايدن، تكمن في ما وصفه أحد المحللين بـ “الدبلوماسية الحركية السرية”، والتي تتمثل بمهاجمة أهداف بحرية إيرانية، ومتابعة رصد الأنشطة النووية ومحاولة تأخيرها بالوسائل المتاحة، وهذا يتوافق مع ما أعلنه وزير خارجيتها، بعد إعلان طهران بدء تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% في مفاعل نطنز، إنها ستفعل “كل ما يلزم” لضمان عدم امتلاك إيران أسلحة نووية.
ويتمثل القلق الإسرائيلي، من جهة أخرى، في إن إدارة “مواجهة بحرية محدودة” هي إحدى وسائل الضغط المتاحة لإيران لتحقيق مكاسب في المحادثات مع واشنطن، وتوظفها طهران لتذكير الأميركيين أن مصالح حلفائها العرب في المنطقة ما زالت تحت التهديد الإيراني ومهددة بالتعرض للضرر كذلك.
في الخلاصة
كل المعاناة الخليجية والعربية ناتجة عن الإستراتيجية الإيرانية بتصدير الثورة والتدخل المباشر في الدول الإسلامية ومد الأذرع التابعة في أية بقعة من الوطن العربي بالدعم المادي وبالأسلحة، ورغم الدعوات الخليجية الصادقة في الكف عن هكذا عبث غير مرغوب فيه، ما زالت توجهات النظام في طهران على ذات المنوال، حتى لو أدى ذلك الى العيش في ظل العقوبات وإفقار الشعب.
وليس الحل ولن يكون بتواجد إسرائيلي عسكري على تخوم الجزيرة العربية، فما يعني دولة الكيان الصهيوني يعنيها وحدها، فالإمكانات العسكرية الخليجية قادرة على القيام بالدفاع عن المضائق والممرات والبحار. وقد أثبتت قوة التحالف العربي في اليمن إفشال مخططات إيران، لكننا نتوسم خيراً من المحاولة الأخيرة بانعقاد المباحثات المباشرة بين الرياض وطهران، للمرة الأولى، في سلوك مبادئ عقلانية في تأمين أمن الخليج من دون أي نفوذ إسرائيلي.
وفي الوقت الذي أنشأت الدول الكبرى بالتعاون مع دول الخليج العربي قوة حماية دولية من أعمال القرصنة على سواحل الصومال، وتأمين حرية الملاحة وحركة التجارة الدولية عبر البحار، قد يكون الحل الأجدى توسيع مهام تلك القوة لتشمل المناطق التي تحاول ايران بسط نفوذها عليها، من ممرات ومضائق وبحار، وهذا يمنع توسيع دائرة التواجد الإسرائيلي أو غيره، ويحمي أمن الخليج من العبث الأمني في تلك البحار.
مصدر الصور: الحرة – الميادين.
موضوع ذا صلة: “سافيز”: نقلة نوعية في “حرب السفن” الإسرائيلية – الإيرانية
العميد م. ناجي ملاعب
عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية / باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري – لبنان