قبل البدء في الموضوع وحتى يصل الأمر إلى غايته، لا بد أن تتضمن هذه القراءة إجابات على الأسئلة التالية:
1. ما هي الأُسس التي استندت عليها وثيقة محاكمة رئيس الجمهورية؟ّ
2. هل يعتبر استخدام الرئيس لصلاحياته توجب مساءلته؟
3. هل إذا استغل رئيس الجمهورية النقص الحاصل في التشريع – لصالح رئاسة الجمهورية – أمر يستدعي محاسبته؟
4. ما هي الاسباب الكامنة وراء محاكمة رئيس الجمهورية؟
5. ما هو أثر رسالة رئيس الجمهورية إلى المجلس النيابي واجتماعه من أجلها واتخاذه قراراً بشأنها على محاكمة الرئيس بتهمة التقصير في تشكيل الحكومة؟
بالتفاصيل، وضع بعض رجال القانون وثيقة سميت بـ “وثيقة محاكمة رئيس الجمهورية عن خروقاته للدستور”. وكان لا بد من أن تُقرأ هذه الوثيقة من جميع جوانبها حتى نتمكن من الرد عليها، سلباً أم إيجاباً. وهذا ما فعلناه ولكن نشير للقارئ العزيز، حيث أننا توخينا الموضوعية والدقة والالتزام بالدستور. وعلى هذا نبني ملاحظاتنا التالية:
ـ الصفحة 2 من الوثيقة رقم (5): لاحظنا أن الوثيقة تشير إلى عدم وجود تعريف للخيانة العظمى أو خرق الدستور في المنظومة القانونية اللبناينة. لذلك لجأت إلى الدستور الفرنسي، المعدل بهذا الشأن العام 2004 فأسندت اتهام رئيس الجمهورية اللبنانية، بموجب نص المادة 58 الفرنسية في خرق للأوضاع الدستورية المستقرة والمتعارف عليها في لبنان، وهذا يؤدي إلى بطلان ما تدعيه الوثيقة بهذا الشأن.
ـ الصفحة 4: من الوثيقة تابعت الحديث عن المادة 58 في الدستور الفرنسي، لاسناد الاتهام للرئيس اللبناني من خلالها كونها تشير إلى “إخلال الرئيس بواجباته”، على شكل لا يتلاءم مع ممارسة صلاحياته؛ “وبناء على ذلك، أُشير في الصفحة 4 منها على أن “خرق الدستور والخيانة العظمى أقرب إلى المفهوم السياسي”، وهذا ما يعد “اقتباساً” عن فرنسا يُراد اسقاطه على الدستور اللبناني، وكأن واضعي الوثيقة عدلوا الدستور من تلقاء أنفسهم دون العودة إلى البرلمان، ليحاكموا الرئيس اللبناني بحسب أحكان نصوص الدستور الفرنسي.
ـ الصفحة 5: ولجهة المساواة بين الرئيس وأي مواطن بالنسبة إلى خضوعه للقوانين ومحاكمته: ألم يلاحظ واضعو الوثيقة بأنهم يناقضون أنفسهم لجهة اعتبار خرق الدستور والخيانة العظمى أقرب إلى المفهوم السياسي؛ وبالتالي لا يحاكم عليه الرئيس؟ فكيف يحاكم الرئيس بهاتين التهمتين؟
ـ الصفحة 6: وقع أيضاً واضعو الوثيقة في خطأ عند المقارنة بين الرئيسين الفرنسي واللبناني وكأنهم لم يتعظوا مما سبق وأوردوه من المقارنات.
ـ الصفحة 7: بلغ التناقض قمّته، حيث قررت الوثيقة أن الرئيس ليس مسؤولاً سياسياً على الرغم من أنها كانت تصر على إقرار مثل هذه المسؤولية السياسية.
ـ الصفحة 8: أوردت الوثيقة تاريخ ميشال عون مع الدستور؛ هنا، نذكِّر موقعي الوثيقة أن كل هذه الأفعال التي وقعت قبل توقيع “اتفاق الطائف”، سقطت بالعفو العام سواء كان الأمر متصلاً بما وردته لجهة التشكيك بالدستور، أو لجهة رسائل ميشال عون من فرنسا إلى مناصريه في لبنان.
ـ الصفحة 9: وتحت عنوان المقاربة السياسية، استندت الوثيقة على رأي لمستشار رئيس الجمهورية في محاضرة، وتريد من خلال هذا الرأي أن تثبت مسؤولية الرئيس، ما أضعف حجتها. فليس بالحالات الاحتشادية والجماهرية تُخرق نصوص دستور، انما حماسة يراد بها مسلك سياسي معين وهذا مسموح في بلد ديمقراطي مثل لبنان.
ـ الصفحة 11: حاول واضعوا الوثيقة تصوير المشهد السياسي في أبهى مظاهر التشويه، بأن الصحف والمنظّرين “الطارئين” على الدستور سمموا الأجواء وأثاروا العصبيات والغرائز، وهذا الأمر لا يمكن أن يصل – بنظرنا – إلى محاكمة الرئيس، بل استمراره ويوصل إلى قناعة معينة وهي عدم رضى جماعة واسعة من الناس على الدستور، ما قد يرتب ذلك ضرورة تعديله، وكل ذلك لا يخدم إلا براءة الرئيس من تهمة تعديل الدستور. إذ ذلك يعد أعلى درجات التناقض بين المكتوب بالوثيقة والمراد منها، وهو اتهام الرئيس ثم محاكمته بتهمة تعديل الدستور.
وهنا نسأل: أين الطُرق غير المشروعة التي استعمله الرئيس عون وهو استخدام الفراغ في الصيغ الدستورية، لصالح مقام رئاسة الجمهورية؟ فعندما لم يحدد الدستور موعد لاطلاق الاستشارات، كان “الاحجام في مقام الاقدام”، وهذا فراغ في النص لا يلام عليه الرئيس. أيضاً، يمكن القول بأننا وجدناه مكتوف اليدين، لأن النصوص لا تسعفه في انهاء التكليف عندما تمادى الرئيس المكلّف في تقديم تشكليته الحكومية.
ـ الصفحة 12: هناك إشارة إلى مسألتي الميثاقية والمساواة. الرد على ذلك: هل الميثاقية الّا يمثّل حلفاء الرئيس عون من الطوائف الاخرى لأن “أمراء الحرب” يريدون حصر التمثيل بهم؟
ـ الصفحة 15: والتي أثارت الفقرة (ي) من مقدمة الدستور أن التمسّك بها قَسّم اللبناني إلى ميثاقي وغير ميثاقي. نسأل: أين الخطأ في تحصيل حق كل الطوائف من خلالها؟ هذا ما فعلته الرئاسة إذ لا مكان لأية حكومة لا تراعي هذه الميثاقية وبنص ضريح يقول “لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”( فقرة “ي” من مقدمة الدستور)
– الصفحة 17: أشارت الوثيقة إلى كلام البطريرك بشارة الراعي الموجّه تحديداً إلى “الجماعة الحاكمة”، حيث حرَّفت كلامه عن الجماعة الحاكمة. ومن هنا، أشارت إلى الرئيس عون وحلفاؤه في حين قصد البطريرك “كل” الطبقة الحاكمة بعد الطائف. فكيف يحاسب الرئيس عون وحده عن الجميع؟
ـ الصفحة 18: وجِّه الاتهام إلى رئيس الجمهورية على أنه يعرقل عمل القضاء من خلال عدم توقيعه لمرسوم التشكيلات القضائية، في حين أنه يستخدم صلاحية أعطاه اياها الدستور في المادة 56 والتي تنص على أنه “يصدر المراسيم ويطلب نشرها وله حق الطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر في أي قرار من القرارات التي يتخذها المجلس خلال 15 يوماً من تاريخ ايداعه رئاسة الجمهورية واذا أصر مجلس الوزراء على القرار المتخذ أو انقضت المهلة دون اصدار المرسوم أو اعادته يعتبر القرار أو المرسوم نافذ حكماً ووجب نشره”. وهنا نسأل واضعي الوثيقة: كيف يحاكم الرئيس لاستخدامه صلاحياته الدستورية؟
تابعت الوثيقة بالقول أن سلطة الرئيس مقيّدة وليست استنسابية، في حين نص المادة 56 يفسّر سلطة الرئيس وكيف يعترض ومتى ينشر المرسوم؛ وبالتالي، هناك خطأ فيما ذهبت إليه الوثيقة لجهة تعطيل التوقيع من قبل الرئيس. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مرسوم التجنيس، الذي عدّته الوثيقة بأنه خارج الميثاقية. وعند الاطلاع عليه، وجدنا أنه يحوي على خطأ بنسبة 8% لصالح كل اللبنانيين، فالخطأ ليس عند الطائفة المسيحية فقط بل عند الطوائف ولصالحها.
– الصفحة 22: أشارت الوثيقة إلى تمسّك الرئيس بحصة وزارية، وهنا نقف إلى جانب الوثيقة لأن اتفاق الطائف جعل من رئيس الجمهورية “حكماً” بين السلطات حتى داخل مجلس الوزراء؛ في الدستور، وجدنا أن الرئيس – وفق نص المادة 53/1 – يترأس “مجلس الوزراء عندما يشاء دون أن يشارك في التصويت”، وهذه اشارة واضحة من المشّرع للتأكيد على “سمو” مقام الرئاسة، وأنه الخصم الشريف داخل مجلس الوزراء يراعي مصالح البلاد العامة، فلا ينحاز لأحد فريقي التصويت؛ بالتالي، يعتبر حكماً بكل ما للكلمة من معنى.
أما عندما يطالب الرئيس الجمهورية بحصة وزارية، فهذا يفقده الدور الذي خصّه به الدستور. وفي حالة اليوم، نجد أن الرئيس عون – كان وما زال – يملك أكبر كتلة نيابية، فلما هذا الازدواج بين حصتي التيار والرئيس؟
في المقابل، يمكن الرد على الوثيقة بأن الرئيس لم يوقّع على أية تشكيلة حكومية ليس الهدف منه احتفاظه بحصة وزارية بقدر ما أنه يريد مراعاة المصلحة العامة، وذلك من خلال إيجاد حكومة متوازنة. فهل حرص الرئيس على ولادة حكومة متوازنة يشكل جرماً يستوجب محاكمته؟ّ
– الصفحة 24: تشير الوثيقة إلى امتناع رئيس الجمهورية عن اطلاق الاستشارات النيابية، وحجة الرئيس أنه لم “يتريث” حتى تنجلي الأمور في السياسة، إنما كان العمل على التأليف قبل التكليف. في هذه الجزئية، نقف إلى جانب الوثيقة حيث طُرحت اسماء للوزارة قبل التكليف، وكأن رئيس الجمهورية يحمل التشكيلة الحكومية ويعرضها على كل من يريد أن يتكلّف بالتأليف، وذلك مخالفة واضحة لنص المادة 64/2 التي تشير إلى دور رئيس الحكومة فهو من “يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها”؛ بالتالي، يصح ما تذهب إليه الوثيقة من أن الرئيس لم يطلق الاستشارات إلا بهدف التدخل بنتائجها.
– الصفحة 26: تشير الوثيقة إلى أن الرئيس “يسلب” النواب دورهم في موضوع منح الثقة من عدمه، وذلك عندما يُعد تشكيل الحكومة بنفسه. هذا الأمر مردود عليه. أوليس رئيس الجمهورية – قبل الطائف – كان من يشكّل الحكومة وتنال حكوماته الثقة من مجلس البرلمان؟ اليوم، نرى الحال نفسه، إذ أن للمجلس النيابي الحرية في اعطاء الثقة أو حجبها عن أية حكومة، وهما اجراءان لا يتأثران بعملية التشكيل مطلقاً لكون كل واحد منهم مستقل بذاته عن الآخر.
– تسقط الوثيقة في جدال حول التأمينات التي يجب أن تدفع لمتضرري المرفأ. فيحاول رؤول نعمة، وزير الاقتصاد، صرف التعويضات لهم، بينما تصر الوثيقة على أن مسالة انفجار نترات الاومونيوم، وهذا صحيح، لكن ذلك سيُفقد المتضررين حقهم في التعويض لأن العمل الارهابي لا يدخل ضمن المخاطر التي يتم التأمين عليها بشكل عام. يمكن القول أنها بذلك تدّعي على رئيس الجمهورية وتريد محاكمته عن هذه الكارثة.
– الصفحة 27: تشير الوثيقة إلى خرق مبدأ فصل السلطات، الذي أقرته مقدمة الدستور بالقول “النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.” بل وصل الأمر إلى حد القول بخرق الدستور من خلال الاشارة إلى المادة 20 منه التي تؤكد أن القضاء سلطة مستقلة. وهنا نسأل: أين الضرر عندما يشير وزير مختص إلى قاضٍ في مسألة ينظر فيها إلى موضوع هام ويتصل بالمصلحة العامة العليا للبلاد ولا يتصل البتّة بما سوف يصوره القاضي من أحكام؟
– الصفحة 27 نفسها: تلصق الوثيقة جريمة المرفأ بحزب الله؛ كرجال قانون، يمكن القول بأنه قد تناسوا القاعدة التي تقول “كل متهم برئ حتى تثبت إدانته”؛ بالتالي، إن عملية استباق التحقيقات فيها الكثير من السياسة أكثر من القانون، كما أنها تصب في خانة رمي الإتهامات جزافاً لعدم وجود دليل – أو حتى قرائن – حاسمة.
– الصفحة 29 تتجلى غايات الوثيقة فهي أبعد من محاكمة الرئيس لكونها تريد محاكمة حزب الله، والدليل أنه عددت تحت مسمى “هذه القوى” – يبدو أنها تقصد بها حزب الله – حيث تشير إلى أنها:
• عطلت الانتخابات الرئاسية لأكثر من سنتين ونصف قبل انتخاب العماد عون، وعطلت لفترة أقصر بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود.
• تُعطّل مجلس النواب.
• لا تقيم أي اعتبار للدولة أو قوانينها، فتقتل، وتخطف، وترهب، وتشاغب، وتكسر، وتهدد، وتقيم المربعات وتبرم الصفقات مع قتلة الجيش في عرسال. وللأمانة نجيب، أننا وجدنا حزب الله حزب مقاومة لا حزب ارهاب، وهذا ما يعتبر رداً على ما تقدمت به الوثيقة من اتهامات بحقه بصورة غير مباشرة.
• التدخل في عمل المخافر والمحاكم.
• التلاعب في الانتخابات ونتائجها ـ فرض اسم رئيس مجلس النواب.
• فرض أسماء وزاراتها ـ تحتكر 27 مقعداً نيابياً شيعياً من أصل 27 ـ تقاتل خارج الحدود في سوريا واليمن ـ تدعي حماية لبنان من الارهاب، وغيرها من التهم التي تدل كلها على أن المطلوب محاكمة لحزب الله وليس رئيس الجمهورية، وذلك عبر التوجه إلى المجتمع الدولي، ما سيعد إستهدافاً لحزب الله وأمينه العام، السيد حسن نصرالله، وليس مقام رئاسة الجمهورية والرئيس ميشال عون.
ختاماً، يمكن القول بأن الرد على هذه الوثيقة كان من خلال الرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية، منتصف مايو/أيار 2021، إلى مجلس النيابي طالباً منه النظر في مسألة وحيثيات تأخير الرئيس المكلف، سعد الحريري، في عملية تشكيل حكومته، حيث اتخذ مجلس النواب موقفاً يتمثل في “حث الرئيس المكلف إلى المضي قدماً وفق الدستور لتأليف حكومة.” فهذا الرد – سواء بالنسبة لجريمة المرفأ أو لعملية التأخير في تشكيل الحكومة – حوّل الوثيقة إلى مجرد “أقصوصات من الورق”.
مصدر الصور: يورو نيوز – رويترز.
موضوع ذا صلة: اقتراح تعديلات دستورية لعملية تشكيل الحكومة
د. حكمت مصلح
باحث قانوني ودستوري – لبنان