أدى جنوح سفينة الحاويات “إيفر غيفن” في قناة السويس، من 23 مارس/آذار 2021 حتى 29 منه،  وتعطيل الملاحة فيها لمدة 6 ايام إلى تكّبد الاقتصاد العالمي خسائر فادحة بسبب مرور 30% من حاويات الشحن ونحو الـ 12% من إجمالي التجارة العالمية عبر القناة، التي تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط وتمثل شرياناً حيوياً لمرور التجارة العالمية بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا.

تلك الحادثة، كلّفت التجارة العالمية خسارة بلغت حدود الـ 400 مليون دولار/ساعة، وقدرت الخسائر العالمية لإغلاق القناة ما بين 6 إلى 10 مليارات دولار/أسبوعياً، بحسب تقرير لشركة التأمين الألمانية – أليانز، حيث ذكرت الشركة – في تقرير نُشر بعد أسبوع من تعطّل السفينة – أن هذا التوقف يضاعف أسعار النقل والتأمين وتكاليف الإنتاج والوقود، مشيرة إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة 6% بعد يومين من الحادثة.

من جهتها، قالت وكالة “فيتش” المالية في مذكرة بحثية، أن إغلاق قناة السويس سبّب خسارة كبيرة حتى بالنسبة إلى شركات إعادة التأمين العالمية، وقُدِّرت بأكثر من 3 مليارات دولار؛ بالتالي، ستتعرض شركات النقل البحري لخسائر ضخمة بسبب رسوم مئات السفن، ناهيك عن عملية التأخر تسليم البضائع وتحمّل غرامات ضخمة بدل ذلك، إضافة إلى التكاليف الإضافية لتعديل المسار وسلوك طريق رأس الرجاء الصالح الذي يضيف 10 آلاف كلم للرحلة الواحدة.

أربع بدائل

طرح هذا التوقف القسري للملاحة في قناة السويس إلى التفتيش عن بدائل كي يتجنب الاقتصاد العالمي تبعات مثل هذه الحوادث، وبدأ الحديث عن مقترحات ملاحية بديلة، أبرزها:

البديل الأول: البدء بشق “قناة بن غوريون” – التي تصل ميناء ايلات (على خليج العقبة) بميناء حيفا (على المتوسط). هذا المشروع، اقترحه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، ويعود لعشرات الأعوام من أجل تنفيذ مخطط أمريكي لفتح ممر بحري بديل لقناة السويس في الصحراء الفلسطينية عبر ربط البحر المتوسط بخليج العقبة. ولقد اشار إلى الموضوع نفسه الرئيس الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، الصادر عام 1993.

وفيما يخص موضوعنا وبعد التطبيع الإماراتي – الإسرائيلي، تحاول أبو ظبي – من خلال شركة “موانئ دبي” العالمية – عبر ربط ميناء حيفا بالعراق، حيث تشير العديد من المعلومات إلى قرب استحواذ الشركة على مناقصة خصخصة المرفأ اذ اشترت الشركة 30% من المشروع، إذ تعتبر الشركة أن حيفا تتمتع بموقع لوجستي مثالي لنقل البضائع إلى العراق؛ فخلال فترة الحكم البريطاني لهذه المنطقة، كان خط كركوك – حيفا هو الأساسي والمعتد لنقل النفط من الشرق الأوسط إلى أوروبا؛ وإذا ما أمعنّا النظر في المسافة، نرى بأنها تبلغ حوالي 900 كلم بين حيفا وبغداد، في حين أن المسافة بين البصرة وبغداد 600 كلم.

البديل الثاني: يكمن في “ممر شمال – جنوب”، وهو خط ملاحي يبدأ من ميناء بومباي في الهند وصولاً إلى ميناء جابهار الواقع جنوبي إيران على المحيط الهندي، ثم تشحن البضائع براً وصولاً إلى ميناء بندر إنزلي شمالي إيران على ساحل بحر قزوين. يتبع ذلك، نقل السلع بحراً إلى أستراخان جنوب غربي روسيا، ومنها إلى شمالها أو إلى دول أوروبا عبر خطوط السكك الحديدية. ولقد سبق وأن إقترح السفير الإيراني لدى موسكو، كاظم جلالي، تفعيل هذا الخط الملاحي ليكون بديلاً عن قناة السويس؛ وحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية – إرنا، كتب جلالي في تغريدة له عبر “تويتر” يقول “إن الإسراع في إكمال البنى التحتية وتفعيل ممر شمال – جنوب كبديل عن ممر قناة السويس يحظى بالأهمية أكثر مما مضى”، مضيفاً أن الممر – الذي يختصر الزمن حتى 20 يوماً والتكاليف حتى 30% – يعد “خياراً أفضل كبديل عن قناة السويس في مجال الترانزيت”، كما رأى جلالي أن “الحادث الأخير مؤشر إلى ضرورة البحث عن بديل أقل خطورة من قناة السويس الذي يعبر منه أكثر من مليار طن من السلع سنوياً”.

يشار إلى أن مشروع “ممر شمال – جنوب” يهدف إلى اتخاذ طريق جديد للتجارة بين آسيا الوسطى وشرق أوروبا، تكون بدايته الهند مروراً بإيران وأذربيجان وينتهي في روسيا. ففي العام 2002، وقّعت الدول الثلاث على اتفاقية المشروع، الذي يضم شبكة متنوعة من الطرق ووسائل النقل، وذلك بطول 7200 كلم، وكان قد اقترح – عند البدء بالدراسة – فتح قناة من بحر قزوين الى الخليج العربي بتكلفة 54 مليار دولار، بالاضافة إلى الاهمية الاقتصادية لهذه القناة، توازيها الاهمية الجيو – استراتيجية بحيث يصبح بحر قزوين بحراً متصلاً بمياه الخليج العربي وليس بحراً مغلقاً، وتصبح روسيا ودول وسط آسيا متشاطئة على مياه الخليج العربي الدافئة خارج سيطرة حلف شمال الأطلسي – الناتو.

من الجدير ذكره هنا أن الهند وقعتً، مؤخراً، اتفاقاً مع إيران للاستثمار في ميناء جابهار، حيث يتم العمل على إنجاز المشروع من خلال سكك حديد تربط الميناء مع روسيا شمالاً مروراً بباكو – أذربيجان.

البديل الثالث: ممر يصل آسيا بأوروبا عبر القطب الشمالي، يُعرف بإسم “الدرب الشمالي”، حيث يتم الحديث عن البدء في استخدامه خصوصاً بعد ذوبان نسبة الثلوج بشكل كبير في تلك المنطقة بسبب الإحتباس الحراري.

ففي 12 سبتمبر/أيلول 2018، دعا الرئيس فلاديمير بوتين شركاء روسيا إلى استخدام طريق الملاحة الشمالي في تجارتهم بين آسيا وأوروبا، والذي تستغرق الرحلة عبره وقتاً أقل مقارنة بمسارات تقليدية، مضيفاً أن إبحار أول سفينة نقل حاويات عبر الدرب الشمالي يعد مؤشراً على وجود طلب لهذا المسار، الذي يختصر فترة الشحن من آسيا وأوروبا إذا ما قورن بفترة الشحن عبر قناة السويس، كما تعمل موسكو على إعداد خطة استراتيجية تهدف إلى تطوير منطقة القطب الشمالي.

البديل الرابع: مشروع قناة البصرة – اللاذقية التي تنقل الحاويات من ميناء الفاو الكبير في العراق إلى الساحل السوري في اللاذقية. بات هذا المشروع قابل للتحقيق بعد أن وضع رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، حجر الأساس لمشروع ميناء الفاو الكبير – الذي يقع في منطقة رأس البيشة على نهاية الجرف القاري للعراق – بتاريخ 11 أبريل/نيسان 2021، معلناً أن التمويل مخصص من ميزانية العام نفسه، ومشيراً إلى فشل مراهنات البعض على تعطيل انجازه وأنه سيكون مشروعاً واعداً لأهالي البصرة، وللعراق ككل.

يأتي ذلك في وقت أثار فيه بناء الميناء الكثير من الجدل والتساؤلات، كما عملت العديد من التدخلات الخارجية على تعطيل انجازه وذلك بتواطؤ من بعض الشخصيات السياسية في الحكومات العراقية المتعاقبة، خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق العام 2003.

مشروع ضخم

في حال البدء بالمشروع، سيُحدِث ميناء الفاو الكبير نقلة نوعية في عمليات النقل والشحن البحري، وهو مرشح ليكون أحد أكبر الموانئ الدولية في منطقة الخليج. أيضاً، سيوفر الميناء فرصاً كبيرة للعراق ويعزز من مكانته الجيو – سياسية في المنطقة والعالم، كما سيخلق فرص عمل كثيرة لأهل البصرة وباقي المحافظات، ويساهم في تطوير هذه المحافظة التي تشهد بانتظام إحتجاجات غضب واسعة بسبب تردي الخدمات ووجود عدد كبير من العاطلين عن العمل.

بالتفاصيل، تبلغ كلفة إنجاز الميناء حوالي 4.6 مليارات يورو، وتقدر طاقة الميناء المخطط إنشاؤه 99 مليون طن سنوياً ليكون واحداً من أكبر الموانئ المطلة على الخليج العربي والعاشر على مستوى العالم. سيحتوي الميناء الجديد على 35 رصيفاً، منها 22 للحاويات و13 للبضائع العامة؛ وعليه، ستكون طاقة الميناء الاستيعابية بحدود 66 مليون طن/سنوياً من الحاويات و33 مليون طن/سنوياً من الحمولات المتنوعة ليصل المجموع بذلك إلى 99 مليون طن/سنوياً.

إلى جانب الميناء، يتضمن المشروع حفر وتأسيس القناة ملاحية خارجية لا يقل عمقها عن 17.5 متراً والتي تسمح باستقبال البواخر العملاقة ذات حمولة 120 ألف طن، ما سيؤدي إلى انخفاض في كلف النقل بحدود الـ 100 دولار لكل طن، وتوفير مالي قد يصل إلى 5.3 مليار دولار نتيجة انخفاض تكاليف النقل. بجانب القناة، سيكون هناك “نفق الحرير” الذي يصل إلى خور الزبير، وطريق سريع يربط بين ميناء الفاو وأم قصر؛ وعند اكتماله، سيربط هذا المشروع الاستراتيجي الشرق بأوروبا عبر العراق وسوريا وتركيا بما يسمى بـ “القناة الجافة” التي ستربط البصرة بكل من وسوريا وتركيا من خلال شبكة سكة حديد وطرق مرورية.

بحسب بعض الدراسات، سيساهم المشروع في اختصار الوقت، بالإضافة إلى توفير مليارات الدولارات على قطاع النقل البحري العالمي، فضلاً عن تخفيض تكاليف النقل والشحن والتأمين والتي تقدر بـ 15% من قيمة البضائع، وذلك بسبب انخفاض المسافة البحرية التي تقطعها السفن التجارية؛ بالتالي، انخفاض أسعار البضائع والسلع نتيجة لتقليص المسافة.

من المتوقع أن يغير هذا المشروع خارطة النقل البحرية العالمية؛ ونظراً إلى أهميته، صدرت بعض الدعوات لجعله ممراً بديلاً عن قناة السويس. ولكون البصرة تمثل مركزاً استراتيجياً مهماً يربط العالم العربي مع كل من إيران وتركيا والخليج وأوروبا. من هنا، يمكن القول بأن العراق – والبصرة بالتحديد – بات يمثل حاجة صينية ملحة لمشروع “طريق الحرير” البري والبحري، إذ يمكن أن تشكل البصرة منفذاً مهماً – من خلال القناة الجافة – لنقل جزء من تجارة الصين مع الاتحاد الأوروبي والتي تزيد عن 680 مليار يورو/سنوياً، وهو ما تدركه بكين جيداً وتستعد تماماً لدعم مشاريع في العراق ضمن هذه المبادرة.

في هذا الإطار أيضاً، ذكرت بعض المعلومات أن تقريراً صادراً عن وزارة النقل السورية كشف عن مناقشة مشروع ربط ميناء الإمام الخميني، الواقع على الساحل الإيراني، مع ميناء اللاذقية، على البحر الأبيض المتوسط، وذلك من خلال ربط مدينتي شلامجة الإيرانية مع البصرة العراقية بطريق يصل طوله إلى 32 كلم بتنفيذ وتمويل إيرانيين.

كما أشار التقرير إلى أن الخط الحديدي، الواصل بين دير الزور والبوكمال بطول 142.8 كلم، هو قيد الإنشاء بمواصفات فنية عالمية حديثة جهة السرعة والبنى التحتية، ويعتبر جزءاً من محور النقل الدولي غرب وشرق الموانئ السورية – عبر حلب إلى العراق وإيران ودول شرق آسيا – ويشكّل ممراً استراتيجياً بالنسبة لسوريا والعراق فيما يخص عمليات الترانزيت.

وفي سياق متصل، أنجز فرع المؤسسة العامة للخطوط الحديدية باللاذقية السورية مشروع التفريعة السككية للخط الحديدي الذي يربط مثلث محطة شربيت، الواقع على محور طرطوس – اللاذقية إلى المنطقة الحرة الداخلية باللاذقية – بطول 765 متراً وبتكلفة 195 مليون ليرة.

ورغم أهمية النقل عبر سكك الحديد المقترحة – سواء من إيران إلى الساحل السوري أم من البصرة الى اللاذقية – لإكمال “طريق الحرير” إلى البحر المتوسط، الا أنها ليست بديلاً كافياً لخطوط النقل البحري. فميناء “مانتشولي” الصيني على الحدود الصينية – الروسية الذي يعتبر أكبر ميناء للنقل البري في العالم قد عالج، العام 2020، 3548 قطاراً محملاً بـ 324310 حاويات فقط من حجم 20 قدم.

أما بالنسبة إلى الموانىء البحرية التي تديرها الصين على ساحل المتوسط، يمكن القول بأن عدد الحاويات ضخم جداً؛ على سبيل المثال، تعالج تلك الموانىء ما بين 6 مليون حاوية – كميناءي بيرايوس اليوناني والحمدانية الجزائري – إلى 9 ملايين حاوية، كميناء طنجة ميد المغربي، سنوياً.

قناة مائية

بعد كل ما سبق، نقول أننا مع شق قناة مائية – وليس برية – من البصرة إلى اللاذقية، حيث نعتبر أن ذلك أصبح أكثر من ضرورة استراتيجية لكونه سيحدث “ثورة” في عالم النقل البحري، بحيث سيقلل من المسافات ويوفر الكلفة عبر وصل الخليج العربي بالبحر المتوسط، حيث ستستطيع البواخر قطع هذه المسافة خلال يومين فقط في حين أنها تحتاج إلى 10 أيام للمرور بالبحر الأحمر وقناة السويس.

وفي مثال على ذلك، قامت الصين بدراسة مقترح جدي لشق قناة نيكارغوا، بعمق 20 متراً وتتسع لباخرتين عملاقتين ذهاباً واياباً، وذلك بهدف وصل المحيطين الأطلسي مع الهادئ – كبديل لقناة بنما – ما يقلل كلفة الشحن لا سيما ضمن المنافسة التي تشهدها العلاقات الصينية – الأمريكية، وأبرزها الحرب التجارية.

بالعودة إلى موضوعنا، يشكل كل من العراق وسوريا بوابة اساسية لـ “طريق الحرير” على المتوسط، وكذلك المنطقة الوسطى المهمة جداً من “أوراسيا”. أيضاً، بات الساحل السوري حاجة استراتيجية لايران لكونه أقصر طريق إلى اوروبا إذا ما أرادت القيام بتصدير نفطها وغازها.

إن “هلالنا الخصيب”، وبحكم موقعه الجيو – بوليتيكي كملتقى لاهم ثلاثة قارات في العالم، يعد أقرب طرق لمد أنابيب الغاز إلى أوروبا، التي تعتبر ثاني أكبر سوق استهلاكية للطاقة في العالم؛ بالتالي، إن مشروع شق قناة البصرة – اللاذقية سيكون أحد أهم مشاريع القرن الـ 21 بما يخص جيو – بوليتيك المواصلات التجارية، وخصوصاً البحرية منها، كما أنها ستقضي تماماً على مشروع ربط الإمارات بإسرائيل، عبر سكك حديدية؛ وهذا يعني القضاء على “حلم” رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بأن تكون إسرائيل “قلب” الناتو الإقتصادي الشرق أوسطي.

أخيراً وعلى المستوى القومي، سيشكّل هذا المشروع مقدمة لبناء السوق المشرقية الاقتصادية المشتركة؛ وبالتالي، وضع حجر الأساس في تكامل ووحدة “سوريانا” – بتكامل قطبيها دمشق وبغداد – والتي باتت حاجة جيو – استراتيجية ملحة لآسيا وأوراسيا، بالإضافة إلى أننا نعتبرها “مشروعاً عقائدياً” يخلص أمتنا من هيمنة الولايات المتحدة ومعها الناتو ويعيد لها دورها كـ “قطب الرحى” في صياغة التوازنات الدولية، عموماً، والشرق أوسطية، خصوصاً.

مصدر الصور: إيلاف – Strait Times – المنار.

موضوع ذا صلة: “قناة اسطنبول”.. هل تكون مقدمة لـ “قناة ساروس”؟!

رياض عيد

كاتب وباحث في العلاقات الدولية في “مركز سيتا” – لبنان