على الرغم من الحادثة الأليمة والممتلئة بالعز والشهامة حتى الشهادة، لم تضج بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كما يحصل عند أي حدث مماثل أو أقل تأثيراً منه. لم تُفرد له المساحات الاعلامية أو التقارير الاخبارية الكافية. ربما لأن الحدث المريع حصل في دولة جمهورية النيجر، وهي بلد حبيس أي لا نافذة بحرية له، وهي دولة تقع في وسط أفريقيا وأطلق عليها اسم النيجر نسبة إلى نهر النيجر الذي يخترق أراضيها. وهي تُعدّ أكثر دولة في العالم فقراً، وفقاً لمؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة المؤلّف من 189 دولة.

أما الحادثة المأساوية التي هي محل موضوعنا، فقد حصلت منذ أسبوعين؛ وهي تتمثل في وفاة 20 تلميذاً طفلاً بين عمر 3 إلى 5 أعوام حرقاً مع معلمهم في مدرستهم عندما دمّر الحريق مباني مصنوعة من الخشب والقش في حي “باي باس” الفقير الذي تم بناؤه في مقلع سابق للطين بالقرب من مطار العاصمة نيامي. وساعدت في تأجيج الحريق الرياح القوية في مدرسة حيث كان حوالى ألفا تلميذ يحضرون فصولهم الدراسية. واحترقت الأكواخ المبنية من القش التي ضمت فصول التلاميذ بالكامل، بينما تضرر المبنى نفسه بشكل بالغ.

أزاحت الواقعة الستار عن معلم شهيد وراء المأساة. مدرّس الفصل الذي أنقذ حياة العديد من الأطفال. دخل في آخر فصل لإخراج الأطفال، لكن تعذر الخروج بسبب اللهيب القوي والمرتفع، فالتفَّ الأطفال حوله كي يحميهم، فحماهم بظهره حتى سقط ميتاً معهم كما يقول الباحث الأستاذ ادريس آيات، في إحدى تغريداته. نعم، لم يترك هذا المعلم الكبير تلاميذه الصغار يموتون وحدهم، كان بإمكانه النجاة بنفسه والهروب من لهيب النار المحرق، إلا أنه حضنهم بذراعيه محاولاً حمايتهم بجسده ولكن النيران التهمتهم جميعا. أليس المعلم كاد “أن يكون رسولا”، حسب قول أمير الشعراء أحمد شوقي؟ وها هو أصبح شهيداً أيضاً باذلاً نفسه ذوداً ودفاعاً عن تلاميذه الصغار. فنسأل الله تعالى أن يتقبلهم بلطفه، ويتغمدهم بواسع رحمته.

أخواني وأخواتي. حادثة بهذه المأساة، وبكل ما تختزنه من تضحية وإباء وعنفوان، ودرس في الإنسانية، ألا تستحق الإضاءة عليها بكل أبعادها ومراميها؟ ألا يجب أن تُعَد التقارير الاعلامية والمقالات الصحفية حولها؟ لا بل إنني حاولت جاهداً أن أحصل على اسم ذاك المدرس، فلم أفلح أبداً! وبرأيي، يجب أن يُخلّد اسمه في عالم التربية العالمية، وأن يكون لذكراه يوم خاصّ في كلّ عام يؤدي بها المعلمون والمتعلمون صلاة لروحه وتحيّة لتفانيه وشهادته كما أعظم الشهداء، تخليداً لذكراه في دولته النيجر.

لعل يا زميلي لو حدثت مثل تلك الحادثة في دولة يقال إنها متقدمة أو متطورة لكان الإعلام العالمي صنع منها “حدثاً عالمياً”، وتناقلته مواقع التواصل الاجتماعي وتجند له مئات المحللين والمتكلمين، وكانت صورته طُبعت على الأبراج الكبيرة والمواقع السياحية المشهورة في العديد من دول العالم. ولكن ذنبنا نحن يا أخي، أننا أبناء العالم الثالث أو الرابع حسب تصنيفهم، وهم الذين يتكلمون عن المساواة وحقوق الإنسان وعدم التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين. ونحن نتمنى أن تعم تلك المساواة الحقيقية على البشريّة كلّها.

وصرحت مديرة المدرسة، حبيبة جايا، وهي تمسح دموعها “إن النيجر كلها في حداد تام”، وأضافت “الأطفال الصغار، والأبرياء، احترقوا أحياء في هذه النيران”، موضحة أنه بينما تمكن الأطفال الأكبر سناً من النجاة، فإن الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 5 أعوام وما دون لم يتمكنوا من الفرار. كانوا صغاراً لذا لم يكونوا قادرين على الجري.”

‏‎أما سبب الحريق فما زال غير معروف وقيد التحقيق. وقال الاتحاد الوطني للمعلمين في النيجر في بيان “من المهم من الآن أن تمنع السلطات إقامة الفصول الدراسية في أكواخ القش”، حيث تندلع فيها النيران بشكل متكرر إلا أنها المرة الأولى التي يذهب فيها ضحايا.

نسأل الله سبحانه أن تكون هذه آخر واقعة يذهب ضحيتها الأطفال في مدارس النيجر وكل العالم، وعلى الدولة النيجرية أن تصدر قراراً نهائياً بمنع إقامة تلك الصفوف من الخشب والقش كي لا تُعاد كارثة مشابهة لا قدر الله.

المراجع:

– النيجر: “حداد تام” مع مقتل 20 طفلاً في سن ما قبل المدرسة في حريق. أخبار النيجر. 21/4/2021. على الرابط التالي: NetieNews.com
– النيجر: مقتل 20 طفلاً في حريق اندلع بمدرسة قرب العاصمة نيامي. 14/4/2021. على قناة: France 24.
– ادريس آيات. باحث في الشؤون الدولية والعلوم الاستراتيجية. كاتب متخصص في العلاقات الإفريقية – الخليجية؛ الصفحة الشخصية الخاصة على “تويتر”.

مصدر الصورة: سبوتنيك.

موضوع ذا صلة: مسيرة التعليم في الصين.. من الفقر إلى الإبداع

كامل العريضي

مدير ثانوية الإشراق (المتن) – لبنان.