سمعت تحليلات من بعض الأوساط تصل إلى مرتبة الخرافات، وقد اخترت أهمها.
الخرافة الأولى: أن المياه لن تنقطع عن مصر بسبب “سد النهضة”، وهذا ما تزعمه الحبشة ويردده قطاع واسع من الشعب خاصة في البيئات الشعبية؛ وبعيداً عن “الشعوذة”، فإن حصة مصر من المياه ستتأثر قطعاً، وقد اقترحت ترك المياه التي يتم استخدامها في توليد الكهرباء تسير إليها لكن إثيوبيا رفضت ذلك، وهذا الأمر هو من الأدلة – التي رصدتها القاهرة – على أن الحبشة تريد حرمانها من حصتها وإبادة الشعب المصري تحت ستار توليد الكهرباء. ومعنى ذلك أن حصة مصر ستتأثر بقدر حجب الحبشة لمياه النيل الأزرق، الذي يمد مصر بمعظم حصتها من المياه، حيث بادرت بتحويل مجرى النيل الأزرق وقطعه عن مصر.
وتشمل هذه الخرافة من يرددون أن الشعب المصري مؤمن، ولن يضيعه الله، وأن الماء يسقط على الحبشة ولكن للشعب المصري رزقه المضمون من الله. وهذه دعوة إلى التواكل بدلاً من التوكّل والأخذ بالأسباب.
الخرافة الثانية: أن الحبشة تريد أن تبيع حصة مصر من المياه لمن يشتري، مصر أو إسرائيل أو غيرهما. هذه خرافة – ليس لأن الحبشة لم تفكر فيها خصوصاً عندما عبّر المتحدث بإسم الخارجية الإثيوبية عن الفكرة ليعود ويسارع إلى نفيها – لأن النيل الأزرق ليس ملكاً لها، وأن النهر الدولي ليس كآبار البترول والغاز الموجودين في إقليمها تحت الأرض.
على سبيل المثال، سبق لتركيا – العام 1993 – أن حجبت مياه نهري دجلة والفرات لأكثر من شهر لملء “سد أتاتورك”، فتضررت كل من سوريا والعراق وكان رد أنقرة بأن المياه مياهها، وهي ثروة لها تماثل ثروة العرب النفطية، لكنها خرافة لأن التشبيه مختل؛ فحجة تركيا والحبشة كدول منابع، حجة داحضة.
الخرافة الثالثة: أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، أوصى بالتفاوض بصبر ولا يأس من التفاوض رغم علمه بالتعنت الحبشي وفرضهم الأمر الواقع، واستدلوا من ذلك بأن الرئيس السيسي لا يمكن أن يفكر في تدمير السد، أي التوجه نحو الخيار العسكري.
الحق أن تدمير السد – إزاء فرض الحبشة لواقع مدمر على مصر – صار ضرورياً، ولكن دعوة الرئيس المصري إلى الصبر قد تعني أنه يريد استنفاذ كل الطرق السلمية حتى يشهد العالم كله على جريمة الحبشة؛ أما القول أنه بذلك يسلّم بهزيمته أمام الحبشة وأنه يعتبر فناء مصر “قدر مقدور”، فهذا أمر مستحيل وليس ملكاً له كرئيس مكلّف بالمحافظة على وجود مصر وازدهارها.
هذه الخرافة قرأتها في تصريح لأحد أساتذة الإعلام المصريين، كما رأيتها في موقع “إثيوبيا بالعربي” الذي “يدق أسافين” بين الرئيس والشعب.
الخرافة الرابعة: عن دور إسرائيل في مسألة السد حيث أنه من الطبيعي الخلط بين الافتراضات والحقائق الموثقة. فالمفترض أن إسرائيل زُرعت من أجل القضاء على مصر، التي قادت العرب ضدها، وقد أدركت إسرائيل ذلك. من هنا، ركّزت على استدراجها بعيداً عن الحاضنة العربية، وسبّبت لها مختلف المشاكل (الإرهاب في سيناء – تراجع مركز مصر العربي – القيود على أي دور اقليمي لها مدعومة من واشنطن – تحييد المنطقة العربية حتى “تلتهم” كل فلسطين وتكون أكثر قدرة على القضاء على مصر – “سد النهضة”).
هذا افتراض تسنده المشاهدة، فكل قوة لإسرائيل هو خصْم من قوة مصر، التي كان يتعين عليها أن تفهم ذلك فتضع خطة للتعامل مع إسرائيل بحيث يظل الصراع في صور مختلفة تحت ستار السلام. فالسلام ينهي الحرب لكنه لا ينهي الصراع، والحرب هي إحدى تجليات الصراع في معظم الأحيان.
وبناء على هذا الافتراض والمعلومات المتداولة حول دور إسرائيل في بناء السد وحمايته والتخطيط مع إثيوبيا لإبادة مصر أو إبقائها رهينة في يديهما من باب المياه، انتشرت تكهنات تصل إلى حد اليقين أن إسرائيل تهدف بهذا الدور إلى اقتسام المياه التي تجود بها الحبشة لمصر بوساطة أمريكية، فيكون لإسرائيل – التي تستولي على المياه العربية في نهر الأردن والليطاني والجولان – نصيباً معلوماً مقابل توسطها لدى إثيوبيا كي تفرج عن بعض المياه لمصر.
هذه هي الحالة الوحيدة التي يوافق فيها معظم الشعب على إمداد إسرائيل بمياه مصر – على مضض – مع ادراكه بامكانية توقّع هذه النتيجة لو أدارت مصر الملف بشكل مختلف، خاصة وأن الرئيس الراحل أنور السادات كان قد وعدها بذلك إذ يقال بأن ترعة السلام في سيناء شقّت خصيصاً لهذا الغرض ولكن المشروع توقف؛ بالتالي، تكون عملية مد إسرائيل بالمياه في كفة وجفاف نيل مصر وزوالها في كفة أخرى. وإذا حدث ذلك، فإن علينا تقدير ذكاء إسرائيل ونعي مصر على سوء إدارتها لهذا الملف بالذات. لكن المشكلة أن إسرائيل لا تكتفي بالمشاطرة في حصتنا وإنما ترهن حصتنا كلها بمواقفها، وهذا فيما يبدو هو السبب وراء استدعاء الدور الأمريكي وتحمّس واشنطن لذلك، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، تصوِّر إسرائيل دورها على أنها “منقذ” مصر من الهلاك، وأن هذا الدور مقدّر رغم مرارته بسبب فقدان القاهرة لقدرتها على تأمين مياه النيل مع الحبشة. وفي ضوء ذلك، فإن شح المياه في مصر سيصيبها بأضرار جسيمة، ويدخلها ضمن أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة يمكن أن تقضي عليها، ما يعني أن الحل العسكري سيكون وقاية لمصر ضد المخاطر المؤكدة، وقد أتيح لي أن أرصد 10 أسباب تبرر لمصر استخدام هذا الحل الذي لا يزال وارداً وإن كانت المؤشرات الظاهرة تجعل احتماله محدوداً، لكن ليس مستبعداً.
الخرافة الخامسة: أن الحبشة تحرص على خطط التنمية دون الإضرار بمصر والسودان، وهذه الخرافة تناقض أدلة سوء نيتها إذ أن دراسات الخبراء الدوليين أكدت بيقين أضرار السد بمواصفاته الحالية خصوصاً بعد عملية الملء الثاني التي قررتها الحبشة من طرف واحد.
الخرافة السادسة: أن مصر فوضت الحبشة تفويضاً مطلقاً – ضمن إعلان المبادئ – بناء السد وإدارته وتشغيله. هذا على الأقل ما تزعمه الحبشة رسمياً ويضيف موقعها “إثيوبيا بالعربي” ما ينال من ثقة الشعب بقيادته. ولو صح ذلك، فإن أي رئيس لا يملك قانونياً وأخلاقياً وسياسياً أن يعرّض مصر للفناء، وأغلب الظن أن الموقع يُحدث وقيعة بين الشعب وقيادته كما حاول أن يوقع بين مصر والسودان لإضعاف الموقف المصري.
لقد سبق أن قلنا في تحليل إعلان المبادئ أنه مجموعة من القواعد الاسترشادية للمفاوضين من أجل التوصل إلى اتفاق ملزم، وأن الإعلان يركّز على مبدأ حُسن النوايا الذي أخلت به الحبشة، ودللنا على ذلك بعشرات القرائن، وقلنا أن هذا الإعلان ليس معاهدة دولية في نظر القانون الدولي أو الدستور المصري، وبوسع مصر أن تظل طرفاً فيه وتصر على تنفيذه أو أن تفسخه استناداً إلى أن سوء نية الحبشة، التي ضربت صلب الإعلان.
أيضاً، قلنا أن مصر تستطيع أن مقاضاة الحبشة أمام محكمة العدل الدولية، ضمن مدى احترامها لاتفاقية الأمم المتحدة والقانون الدولي للمجاري المائية والدولية، حتى توقف التصرفات الانفرادية التي كان يجب أن تتوقف مع بدء المفاوضات بأمر تحفظي، حيث أنه بوسع القاهرة الطلب من المحكمة – وفقاً للمادة 41 من نظامها الأساسي – أن تصدر أمراً لأديس أبابا بوقف الملء الثاني للسد المقرر دون اتفاق ورغماً عن كل من مصر والسودان؛ فإذا لم تنفذ الحبشة الأمر، لجأت مصر إلى مجلس الأمن وفق المادتين 39 و94 من ميثاق الأمم المتحدة، كما أنها تستطيع أن تدمر السد دون أن تنتهك القانون الدولي على أساس أن ذلك “هو الوسيلة السريعة الوحيدة” لوقف جريمة الحبشة لإبادة مصر، ولا تزال الفرصة مفتوحة أمامها إن أرادت.
وعلى الجانب المصري، لقد سبق وأن قدمت استراتيجية شاملة للأمن المائي المصري الدائم، وبوسع الحكومة أن تدرس هذه الاستراتيجية وتستفيد من مقترحاتها.
الخرافة السابعة: أن الشعب المصري قلق على وجود مصر بشكل مبالغ فيه، وأن هذا القلق ينال من ثقة الشعب بقيادته. هذه الخرافة أساسها أن الشعب راقب سياسة الحبشة ومواقف مصر ووعود القيادة وسلوكها في الملف من الأمل المطلق في الحل إلى اليأس المطلق من أية تسوية. ولكن الشعب يرفض أن يجر إلى حافة الهاوية حتى يوافق على اقتسام إسرائيل في حصتنا، لأن من ثوابتته أن الحكومة ملتزمة دستورياً بتأمين مياه النيل والشعب ملتزم وجودياً بعدم التطبيع مع إسرائيل.
مصدر الصور: أرشيف سيتا – روسيا اليوم.
موضوع ذا صلة: القيمة القانونية لإعلان المبادئ في الخرطوم حول “سد النهضة”
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر