أتمنى أن لا ينتهي هذا العام، 2023، قبل أن تكون علاقات مصر المقطوعة مع كل من سوريا وإيران وتركيا قد استعيدت لمصلحة مصر مع هذه الدول، فقطع العلاقات – في الماضي – كان له تأثير كبير؛ ولكن العمل الدولي، أظهر أن قطع العلاقات لا يفيد، وأن الحرب – إذا قامت بين دولتين – يمكن أن تبقى العلاقات الدبلوماسية لمصلحة البلدين والتواصل بينهما، كما حدث بين ايران والعراق.

أما قطع العلاقات مع سوريا فهي الوحيدة التي قطعت مصر معها هذه العلاقات، وقد أتخذ هذا القرار في ظروف معينة لا علاقة لها بالمصلحة المصرية؛ ولذلك، وجب اعادة العلاقات مع دمشق تصحيحاً لهذا الوضع وانسجاماً مع المعطيات التي كشف التاريخ عنها، ذلك أن علاقة مصر بسوريا كانت دائماً علاقة استراتيجية خاصة، أن حكّام مصر من المماليك كانوا يتناوبون الحكم في البلدين وبين العاصمتين، منذ القرن الـ 12 الميلادي، وتوثقت العلاقات بين البلدين لدرجة أن مصر وسوريا كانتا “قلب العروبة”، ولا ننسَ الضابط السوري جول جمال الذي قام من تلقاء نفسه وبوازع عربي خالص بمهاجمة القوة البحرية الفرنسية التي اشتركت في العدوان الثلاثى على مصر، العام 1956.

أيضاً، كانت سوريا الأقرب إلى مصر عندما أقام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الوحدة بين البلدين، حيث ظلت “الجمهورية العربية المتحدة” تجربة عملية للوحدة العربية التي يجب البحث في ظروف قيامها وظروف فشلها وأسباب الانفصال السوري عن مصر، إذ يتردد أن الرئيس عبد الناصر – عندما قامت حركة انفصال سوريا عن مصر – شَعَر بالحرج، وكان سبباً بإندفاعه نحو اليمن. وفي العام 1967، تم تضليله حيث أبلغه السفير الروسي حينها بأن إسرائيل تحشد قواتها على حدود سوريا، وهذا ما أدى – في بعض التفسيرات – إلى تورطه بهذا الصراع. لكن هذا التفسير ليس كافياً، وإنما تشير الوثائق الأمريكية إلى أن عدوان إسرائيل على الجبهات الثلاثة كان مدبراً وشاركت فيه الولايات المتحدة تدبيراً وتنفيذاً.

في العام 1973، نسّق البلدان اطار قيادة مشتركة ضد إسرائيل؛ وبينما كانت سوريا في الميدان، اتجه الرئيس الراحل أنور السادات إلى المعسكر الغربي الموالي لإسرائيل. وفي العام 1979، انتهت رحلته في التقارب مع إسرائيل إلى ابرام اتفاقية السلام، أي “كامب ديفيد”، التي عارضتها سوريا، إذ شعرت أنها قد فقدت حليفها العربي.

في تلك الأثناء، قامت الثورة الإسلامية في إيران. وفي ذلك الوقت، بدأ التحالف السوري – الإيراني، وليس ذلك معناه أن دمشق استبدلت طهران بالقاهرة، فكلاهما له مكانه خاصة لدى سوريا. فتقاربها لم يتم التأثير عليه سوى تقارب مصر مع إسرائيل، فكانت سوريا في معسكر الرفض وضمن الدول التي ساهمت في تجميد عضوية مصر لدى كل من جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي، وظلت تحارب ما أطلقت عليه “سلام مصر المنفرد مع إسرائيل”.

لكن مصر، في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، تدخلت بقوة وتوسطت لإنهاء التوتر السوري – التركي، العام 1999، وبددت نذر الحرب بين البلدين. وفي هذه الصفقة، سلّمت سوريا عبدالله أوجلان، زعيم الكرد الأتراك، إلى تركيا فتحسنت العلاقات السورية – التركية بشكل متزايد.

ثم قامت الثورة في مصر وسوريا (2011)، فأتخذت تركيا موقفاً مسانداً للثورتين، مما جعلها الطرف الآخر في الأزمة السورية. فإذا كانت مصر الحالية تساعد سوريا وأن العلاقات قد قطعت لهذا السبب وحده وليس لسبب يتعلق بالمصالح القومية لمصر، فإن قرار اعادة العلاقات مع سوريا هو تصحيح لخطأ. ولكن يبدو أن التوازنات الاقليمية تعوق مثل هذا القرار، لكن تطور الأوضاع في المنطقة سمح بأن يتجه وفد البرلمانات العربية المجتمع في بغداد إلى دمشق، وتردد أن هناك اتجاهاً قوياً لاعادة سوريا إلى الجامعة العربية، ويعتقد أن مصر لم تتحمس لتجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية. ورغم أن مصر تدعم الحكومة السورية، إلا إنها لا تنسق مع حليفي دمشق الأساسيين، روسيا وإيران.

أما إيران وتركيا فهما من قطع العلاقات مع مصر، ذلك أن الأولى – عندما قامت الثورة الإسلامية فيها العام 1979 – كانت مصر قد وثقت علاقاتها بإسرائيل وواشنطن؛ وبما أن الثورة قد أعلنت عداءها لإسرائيل وواشنطن منذ اليوم الأول، فقد بادرت إلى قطع العلاقات مع مصر بعد أن وقّعت اتفاقية السلام.

كانت إيران تعتقد أن قطع العلاقات يمكن أن يؤثر في تقارب القاهرة مع إسرائيل، ولكن ثبت أن الخط السياسي الذي بدأه الرئيس السادات مع إسرائيل هو خط إستراتيجى سار عليه خلفاؤه حتى اليوم؛ وعندما ادركت إيران أنها معزولة وأن التقارب من مصر جزء من تحدي العزلة، اقترب البلدان في عهد مبارك – (محمد) خاتمي من اعادة العلاقات الدبلوماسية، ولكن يبدو أن واشنطن تدخلت ولا تزال هي العقبة الاساسية فى اعادة العلاقات.

إقرأ أيضاً: لماذا تصر واشنطن على تطويع القانون الدولي المعاصر في العراق وأفغانستان؟

والحق أن علاقات مصر بإيران ساءت منذ حركة “الضباط الأحرار” العام 1952. فبعد انتهاء العصر الملكي الذي شهدت العلاقات خلاله قمة التطور لأن شاه إيراه كان متزوجاً من شقيقة الملك فاروق وأيدت مصر حركة مصّدق العام 1953 وأطلقت أسمه على أحدى شوارع القاهرة قبل أن يستعيد الشاه السلطة وتدخل بريطانيا لاسقاط حكومة مصدق، فتوترت العلاقات المصرية – الإيرانية العام 1957 أي بعد اعتراف الشاه بإسرائيل، حيث قطعت العلاقات بسببها لكنها استعيدت العام 1969 لأسباب لا تزال مجهولة.

وعندما تولى الرئيس السادات مقاليد الحكم، بدأ بالتقارب مع إسرائيل وكانت علاقاته ممتازة مع الشاه لأنهما معاً في الحظيرة الأمريكية – الإسرائيلية. وعندما قامت الثورة الإسلامية في 12 فبراير/شباط 1979، سارعت واشنطن إلى تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل خوفاً من تراجع هذا التقارب، وخوفاً من تأثر الشعب المصري بالثورة الإيرانية المعادية لكل من إسرائيل وأمريكا. أما عندما أبرمت مصر اتفاقية السلام، كان الرئيس السادات سائراً بالاتجاه المعاكس للثورة الإيرانية. ثم تفاقم الوضع باستقبال الرئيس السادات للشاه وأسرته، وكان ذلك اعلاناً بالعداء للثورة الإيرانية، ولكنه أسعد إسرائيل وأمريكا.

وعندما تولى الرئيس مبارك الحكم العام 1981، بدأت إيران تدرك أن اعادة العلاقات مع مصر – الموالية لواشنطن وإسرائيل – يمكن أن يخفف من عزلتها ويكسرها، وكادت العلاقات أن تستعاد في لقاء مبارك – خاتمي؟ ولكن يبدو أن الضغوط الأمريكية منعت ذلك، خاصة أن واشنطن كانت تتوسط في نزاع طابا، إذ لا تزال واشنطن تشكل “العقبة الكبرى” في سبيل اعادة العلاقات بين مصر وإيران.
بعد قيام “ثورة يناير” وتولي “الإخوان المسلمين” مقاليد الحكم، زار الدكتور محمد مرسى طهران، ثم دعا رئيسها، أحمدي نجاد، لزيارة مصر. وعندما تغير نظام الحكم في مصر العام 2013، قبلت إيران النظام الجديد. فهل إعادة العلاقات مع إيران مصلحة لمصر أم ضرر لها؟ هي مصلحة محققة للطرفين، ويجب عليهما – إذا كانت اعادة العلاقات الرسمية صعبة بسبب التوازنات الإقليمية – أن يفتحا طاقات التعاون غير السياسية.

أما تركيا فقد أعلنت عداءها للنظام الجديد، وآوت المعارضين له. لكن تطور السياسة الأمريكية وتطور المصالح بين البلدين، فرض عليهما الدخول في حوار لاستكشاف فرص التعاون أو وقف العداء. أيضاً، تتجه الظروف حالياً إلى مزيد من التقارب، حيث زار وزير خارجية مصر، سامح شكري، كل من سوريا وتركيا، واعتقد أنه حمل معه رسالة سياسية، بالاضافة إلى رسالة التضامن مع البلدين في آثار الزلزال.

والخلاصة، من مصلحة مصر أن تعيد العلاقات مع الدول الثلاثة، وألا تقف المعادلات الاقليمية دون تحقيق هذا الهدف؛ فالعلاقات مع الدول الثلاثة ليست مقطوعة مع دول الخليج، بل مزدهرة. من هنا، آن الآوان أن تفرض مصر مصالحها الاستراتيجية، وأن تتخذ القرار المناسب المحقق لهذه المصالح.

مصدر الصورة: المدن.

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر