د. رائد المصري*
بهدوء.. من الذي أعطى لنفسه آلة قياس وفحص الوطنية ومختبر الدم ليلاحق الثوار والثائرين في لبنان لحفظ كرامتهم بالعيش الكريم وفي كل زاوية ومفرق وشارع؟ بعيداً عن الحسابات السياسية في الربح والخسارة، صار هناك مشروعان سياسيان في لبنان لا ثالث لهما؛ المشروع الأول، بناء دولة خالية من الفساد والمفسدين وسماسرة المال والنهب. والمشروع الثاني، بقاء ميلشيا الطوائف ومحازبيها وأزلامها، التي لا زالت تنازع اليوم للحصول على الثقة علّها تستطيع إكمال مشروعها القاتل للشعب اللبناني والذي بات على حافة القبور.
لا نريد هنا الإكتفاء بجلد الذات بعد إنطلاق ثورة “17 تشرين” وما وصلت إليه البلاد بفعل تعنت السلطة السياسية وأحزابها وخوفها من الإقدام على البدء بالإصلاحات لأن رؤوساً كبيرة ستسقط وسيسقط معها كبار السماسرة الدوليين، في أوروبا وأميركا وغيرها من بلدان المافيات المالية والإقتصادية. هنا تكمن حقيقة موقف حزب الله وعجزه عن السير بمشروعه، الذي طرحه قبيل الإنتخابات النيابية الأخيرة التي وعد فيها ناخبيه والشعب اللبناني بالإستدارة صوب مكافحة الفساد. فتثبتت صحة رواية “ثورة تشرين” وطروحاتها التي أشّرت مبكراً لعدم إئتمان هذه السلطة الفاسدة والتي جربت على مدى ثلاثين عاماً وكذبت.
لا دخل لنا بحكومة الرئيس حسان دياب، ولا بكل الوزراء المنضوين تحت لواء حكومته غير القادرة أصلاً على إجتراح أي حل يتعلّق بالمال العام المنهوب أو بوضع أصغر سارق داخل قضبان السجن. فهي حكومة تمرير الوقت ومعبر سياسي للطبقة الحاكمة، التي أهانت وأذلت الناس كي تتهرب من المساءلة والمسؤولية أمام كل من الشعب اللبناني والمجتمع الدولي، إذا بقي فيها من عدالة بحدها الأدنى لتأخذ بحق الفقراء من أبناء الوطن الذين يتمتهم أيادي السلطة الطائفية التحاصصية، ونهشت من لحمهم “ضباع” البنك الدولي وأدواته المحليين. وها هو حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أوضح ترجمة لمدرسة الإفقار والقتل حيث لم يكتف بسياساته وهندساته المالية، منذ العام 1993 إلى اليوم، فهو يريد تدفيع الشعب اللبناني فوائد سندات “اليورو بوند”، التي بلغت مقدرات أرباح الفوائد للمصارف اللبنانية ما يفوق 84 مليار دولار أميركي.
لا زال التآمر جارياً ما بين المصارف وجمعيتها، وحاكم المركزي في لبنان وبين الطبقة السياسية على نهب لبنان وإيداعات المواطنين، التي بلغت 186 مليار دولار دون حسيب أو رقيب، وعليه نقول “إننا أمام نظام إقتصادي حر ومفرط في حريته وتعولمه وعدم إنضباطه متزاوج ومتواطىء مع نظام برلماني طائفي مفرط في عنصريته ومبالغ في تحاصصيته، أعطى هذا الإقطاع السياسي المتوارث وأصحاب المصالح المالية الكبرى فرص السيطرة الدائمة على الحكم وتسخيره لمصالحهم.”
لقد تآمرت سلطة الطوائف وأحزاب الميليشيا والمذاهب مع حاكم المصرف المركزي وجمعية المصارف وإتفقوا على نهب أموال المودعين من المواطنين اللبنانيين التي بلغت ما قيمته 88 مليار دولار أميركي. فهذه السلطة وحاكمها المالي رفعت وتلاعبت بالدولار صعوداً وهبوطاً حيث إشترى خلالها “حيتان المال” كل العملات الأجنبية الموجودة في المصرف المركزي، وبعد إرتفاع الدولار عادوا لشراء الليرة اللبنانية حيث وصلت أرباحهم إلى حدود الـ 1200%. بعدها، أصدر الحاكم رياض سلامة سندات خزينة بالليرة اللبنانية بفائدة 45% ولا زالت إلى اليوم، فيتم على أساسها إستنزاف خزينة الدولة بما نسبته 90% إلى 95% من موجوداتها.
إن هذه السلطة فاقدة الشرعية إلاَّ من قِبل البؤر المذهبية ودكاكينها، التي أبرمت الصفقات بالتراضي وتضخيم المصاريف والمدفوعات العامة وعجوزات الكهرباء المنظمة والمقصودة بحرفية متناهية، فجمعت ضرائب بقيمة 150 مليار دولار، وإستدانت من الخارج بحدود الـ 90 مليار دولار، ضمن فوائد عالية، في وقت تقع عليها أعباء ديون على الخزينة، كالضمان الإجتماعي والمدارس والمهجرين والصناديق المالية، كمجلسي الجنوب والإنماء والإعمار، ما بلغ قيمته الـ 15 مليار دولار أي ما يفوق بالنهاية 250 مليار دولار، وكل ذلك من دون قيود وبلا حسابات. إذن، ليس روئيس الورزاء الأسبق، فؤاد السنيورة، هو وحده المسؤول عن هدر المال العام والعبث به، فلديه شركاء صاروا معروفين كمافيات دولية.
لقد أنفقت “سلطة الطوائف والمذاهب” 25 مليار دولار على الكهرباء ولا تزال أقل من 12 ساعة/يوم، بالإضافة إلى جباية 13 مليار دولار، أي ما مجموعه حوالي 40 مليار دولار وليس هناك من كهرباء، بينما كلفة إنشاء معامل ومطابخ لها تبلغ مليار دولار أو مليارين بشكل دائم. كذلك، أنتفقت هذه السلطة وأحزابها بدل فوائد ما قيمته 85 مليار دولار بعد أن قام حاكم البنك المركزي، عبر هندساته المالية، بتقديم قروض طويلة الأجل للمصارف بقيمة 2%، فتعود هذه المصارف لتودعها في المصرف المركزي بفائدة 6% و8% و10% و12%، ضمن سلسلة السرقات المقوننة بأسلوب هندسي والتي أفقدت خزينة الدولة حوالي 80 مليار دولار.
أعود وأقول، ليس لدينا مع حكومة الرئيس حسان دياب شيئاً سوى أنها طبعة منقحة تختفي خلفها الوجوه الكالحة للطبقة السياسية وأحزابها التي نهبت البلد ولا تزال. فها هم يهددوننا بدفع الفوائد على سندات “اليورو بوند”، في مارس/آذار المقبل (2020)، وهي ذاتها الفوائد التي تسبب لنا بها حكم المصرف المركزي جراء هندساته المالية ولا يريد أن يوقفها أو إعاة جدولتها على الأقل.
اليوم، إن حقيقة الإنتفاضة أو ثورة الشعب اللبناني تكمن بحضوره في الساحات والميادين، وإثبات قوته وجماهريته؛ فحتى لو تمكنت حكومة الرئيس دياب نيل الثقة من برلمان فقد شرعيته علمياً وعملياً خصوصاً وأن أعضاءه يتسللون إلى الجلسة خلسة أو بحماية الأطواق الأمنية والعسكرية أو عبر إقامة الجدران والمتاريس التي عرفناها من جدران الفصل العنصري في فلسطين المحتلة، تبقى الثقة الحقيقية والشرعية المفقودة من الشعب وفي الساحات وغير ذلك عبثاً تحاولون الإستمرار في الحكم، فهو ليس إلاّ تمريراً للوقت، وهذه الحكومة ليست إلا ممراً أو معبراً إجبارياً لهم كي يهربوا من المحاسبة عن الأموال التي نهبوها وأودعوها المصارف في الخارج.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مصدر الصور: موقع حزب الكتائب – جريدة الجمهورية.
موضوع ذا صلة: ماجد: لبنان أمام إصلاح شامل أو إنهيار وشيك