إن تمسك كل من مصر والسودان، من جهة، وإثيوبيا، من جهة أخرى، بمواقفها بشأن “سد النهضة” يشكّل مكمن الأزمة القائمة، خاصة وأن أديس أبابا أكدت أن موعد الملء الثاني سيكون في شهر يوليو/تموز القادم (2021)، وأن الاستعدادات لتحقيق هذه الغاية قد اكتملت.

جاء الموقف الإثيوبي هذا بعد تصعيدٍ من قِبل الخرطوم، التي رأت أن تنصّل الأولى من الاتفاقيات التاريخية يعني المساس بسيادتها على إقليم بني شنقول الذي بُني عليه السد؛ بالتالي، إن إكمال عملية ملء السد مع اقتراب الموعد الثاني يعني أن الحدث سيصبح أمراً واقعاً وعلى كلا الدولتين – أي السودان ومصر – التعامل مع هذا الواقع الجديد. يأتي ذلك في وقت تعيش فيه القاهرة “على أعصابها” وتدرس الخيارات جميعها بعد أن اقترب الموعد وبات النقاش غير مجدٍ.

في ظل هذا كله، يُطرح سؤال مهم جداً: كيف ستكون ردود الفعل المرتقبة لكل من مصر والسودان، مع دخول الولايات المتحدة على خط الأزمة، وتعيين جيفري فيلتمان مسؤولاً عن متابعة هذا الملف؟

القاعدة بالمرصاد

إن المتابع لتطورات أزمة “سد النهضة”، يجد أنه من الممكن والوارد جداً – ما لم يوجد حل دبلوماسي يوافق عليه الأطراف الثلاثة – أن يتطور الأمر إلى إعلان حرب أو على أقل تقدير ضربة عسكرية، خاصة وأن الحروب الحالية في غالبيتها حروب طاقة ومياه، ومصر – بثقلها ووزنها العربي والإقليمي – تعي تماماً خطورة هذا الأمر، إذ يبدو أنها قد أعدت العدّة لكل السيناريوهات المحتملة، ليس آخرها إشعال فتيل حربٍ مائية.

إن إنشاء قاعدة برنيس جاء لغايات مصرية عديدة، تزامن مع توترات إقليمية متصاعدة، فكان لا بد من إنشاء أكبر قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، على الحدود الجنوبية الشرقية، بالقرب من الحدود السودانية. هذه القاعدة ترى فيها القاهرة قوة عسكرية ضاربة في البر والبحر والجو معاً، وهي إحدى القلاع العسكرية على الجهة الجنوبية الإستراتيجية، حيث تعتبر الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وقارة أفريقيا على الإطلاق.

يقع ضمن أهداف القاعدة حماية وتأمين السواحل الجنوبية، وحماية الاستثمارات الاقتصادية والثروات الطبيعية، ومواجهة التحديات الأمنية في نطاق البحر الأحمر، إضافة إلى تأمين حركة الملاحة العالمية عبر محور الحركة من البحر الأحمر، وحتى قناة السويس والمناطق الاقتصادية المرتبطة بها، وكما هو معلوم أن التهديدات الاستراتيجية التي كانت تطال مصر من الشمال، أي من إسرائيل، ولم يكن هناك أية تهديدات من الشمال أو الغرب أو حتى من الجنوب؛ أما اليوم، إن هذه الاتجاهات جميعها تشكل نوعاً من التهديد للأمن القومي المصري، لكن ما يعنينا اليوم هو التهديد المائي من الاتجاه الجنوبي على وجه الخصوص.

التهديد الجنوبي

إن التهديد الاستراتيجي لمصر في المرحلة الحالية يعتبر الأهم من بين كل التهديدات الأخرى، فهو ذو طبيعة إستراتيجية للقاهرة لا يمكن التغاضي عنه بسهولة، أي السد تأثيراته على أمنها القومي المائي. ومع إنشاء قاعدة برنيس العسكرية – التي كانت الغاية منها إرسال رسالة طمأنة للشعب المصري على المستوى الداخلي – يمكن القول بأنها أيضاً تمثّل رسالة تهديد وردع لكل من تسوّل له نفسه العبث بمقدرات مصر الاقتصادية أو الاقتراب من حدودها البحرية أو البرية، أو المس بأمنها القومي على كافة الصُعد – لا سيما الجنوبية – حيث تعتبر رسالة واضحة إلى أديس أبابا خاصة مع تعثر المفاوضات حول السد في العديد من النواحي ما يشكل تهديداً حقيقياً لحصص القاهرة من مياه نهر النيل، حيث تعتمد على ما نسبته تقريباً 85% على مياه نهر النيل الأزرق، الذي يأتي من بحيرة تانا في إثيوبيا.

عند النظر بدقة، نرى بأن المسافة الفاصلة ما بين القاعدة و”سد النهضة” هي بحدود الـ 1407 كلم؛ بالتالي، فهي مسافة قليلة لا تمثل شيء يذكر في حسابات العلوم العسكرية والاستراتيجية، ما يعني أن الخيار العسكري من بين الخيارات الموضوعة على الطاولة بشكل قوي.

اتفاق عسكري

لم تدخّر القاهرة أي جهد للحفاظ على حقوقها المائية دون استبعاد – كما أشرنا آنفاً – السيناريو العسكري الذي لا يرغب به أحد، لا سيما إثيوبيا التي تجتاحها مشاكل أمنية داخلية كبيرة خاصة أزمتها في إقليم تيغراي الأخيرة والمعارك الحدودية مع الخرطوم.

بالرغم من كل ذلك ولتأمين نجاح مهمتها العسكرية، يرى العديد من المحللين بأن توقيع مصر على اتفاق عسكري مع السودان – يغطي مجالات التدريب وتأمين الحدود والذي أتى في ظل أجواء متوترة من ناحية البلدين مع إثيوبيا بسبب الإخفاق في التوصل إلى اتفاق بشأن السد فضلاً عن الحشود العسكرية على الحدود السودانية – الإثيوبية على إثر خلافهما على ترسيم الحدود وغيرها من التحديات – يصب في هذا المجال خصوصاً عند الحديث عن مدى امكانية قيام الطيران الحربي المصري بإستعمال المطارات العسكرية السودانية في حال تنفيذ أي هجوم جوي محتمل يستهدف السد لا سيما وأن القاهرة لا تمتلك حدوداً مباشرة مع أديس أبابا.

ما يعزز ذلك، أن المشكلة مع إثيوبيا تؤثر على السودان أيضاً، سواء لجهة ملء السد – بحيث ستقل نسبة المياة القادمة إليه كما مصر – أم حصول أي أمر كارثي – على غرار انهيار السد الذي سيكون هو المتضرر الأول منه خصوصاً مع عدم اطمئنان كل من القاهرة والخرطوم لعملية بنائه يعزز ذلك رفض أديس أبابا تقديم خرائط وتصاميم البناء. وهذا كله يعني أن السودان يحتاج إلى بناء تحالفات قوية، فكانت هذه الاتفاقية العسكرية مع الجانب المصري.

أيضاً وعلى صعيد مشابه، إن هذه الاتفاقيات العسكرية السودانية مع مصر ستكون بمثابة إشارة لكل من إثيوبيا وليبيا وإريتريا بأن السودان خط أحمر، وأنه يمثّل العمق والأمن القومي المصري؛ لذلك لن تسمح القاهرة بأي تهديد للخرطوم يؤثر على أمنها القومي لا سيما وأنها ستستطع من خلال هذا التحالف أن تزرع لها “عين” تراقب وتتابع منها التطورات السياسية والتحركات العسكرية الجارية في تلك المنطقة ككل.

تنسيق مع جنوب السودان

إن ملف “سد النهضة” يفتح المجال أمام كافة خيارات مصر، ومن بين هذه الخيارات التنسيق الأمني مع جنوب السودان التي تعتبر عنصراً مهماً في الأمن القومي المصري. فعندما زار الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، جوبا للمرة الأولى، والتقى رئيسها سلفا كير ميارديت، عُدَّت تلك الزيارة امتداداً للأمن القومي المصري، خاصة بعد هيمنة إثيوبيا على النيل الأزرق – شريان حياة نهر النيل – من خلال “سد النهضة”، الأمر الذي دفع بالقاهرة إلى بناء علاقات إستراتيجية مع دول حوض النيل، لا سيما أن نجاح “سد النهضة” في تحقيق النهضة لإثيوبيا سيشجع دولاً كثيرة على إنشاء سدود – مثل “سد كاروما” في أوغندا – الأمر الذي سيكون كارثة حقيقية لمصر.

لذا، كان لا بد لمصر من تعزيز العلاقات مع جنوب السودان والسودان نفسه، خاصة وأن علاقة رئيس جنوب السودان مع أديس أبابا ليست على ما يرام منذ تولي آبي أحمد مقاليد السلطة، لتكون خطة مصر تطويق إثيوبيا من ناحية دولة جنوب السودان بوجود عسكري من خلال قاعدة برنيس العسكرية.

تاريخياً، اللافت في موقف مصر أنها احترمت الإرادة الشعبية لشعب جنوب السودان، وسارعت إلى إعلان دعمها لحق شعب جنوب السودان، في تقرير مصيره، والاعتراف بدولة جنوب السودان كدولة مستقلة، وأقامت علاقات دبلوماسية كاملة معها، الأمر الذي قابله حفاوة بالغة من شعب جنوب السودان، إذ أن السودان بشماله وجنوبه هو العمق الأمني القومي التاريخي لمصر، إذ أن هناك جالية كبيرة من أبناء جنوب السودان تتعلم وتعمل وتعيش في مصر مثلهم في ذلك مثل أبناء الشمال دون تفرقة بين دولة السودان، ودولة جنوب السودان

من هنا، إن اتفاق السودان وجنوب السودان مع الرؤية المصرية في معالجة أزمة السد – وهو الأمر الذي تحقق مؤخراً – يعتبر إنجازاً هائلاً، ونقطة قوة إضافية للسياسة المصرية – بحسب بعض المراقبين – “لتعرية” الموقف الإثيوبي في المحافل الدولية والإقليمية خلال المرحلة المقبلة.

دور أمريكي

شهدت الأسابيع القليلة الماضية عودة الولايات المتحدة بشكل عملي من جديد إلى ملف “سد النهضة” الأثيوبي، وبدت سياسات الإدارة الجديدة – بقيادة الرئيس جو بايدن – تتضح بصورة مباشرة إزاء الملف الأخطر الذي يواجه منطقة القرن الأفريقي، تترجمت عبر تعيين مبعوث أميركي خاص للقرن الأفريقي. ثم توالت بعد ذلك المواقف الأميركية التي تصب في إطار “دعم الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وأثيوبيا) للتوصل لاتفاق” وذلك مع بدء العد التنازلي للملء الثاني للسد، مع الإصرار الإثيوبي على موعده المحدد سلفاً.

وضمن المساعي الأميركية للانخراط بشكل واسع في ملف الأزمة، جاءت لقاءات المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي مع المسؤولين في القاهرة ثم في السودان ثم في أديس أبابا، بشكل متتابع، لتعكس تلك المساعي، وتنبئ بدور أميركي أوسع في الفترة المقبلة، تحيطه عدة تحديات، من بينها الرفض الإثيوبي لوساطات خارج الاتحاد الأفريقي؛ فقد سبق لأديس أبابا أن رفضت مقترحاً سودانياً – أيدته مصر – بإشراك رباعية دولية (من الاتحادين الأفريقي والأوروبي، والولايات المتحدة والأمم المتحدة) للوساطة في ملف المفاوضات.

من جهتها، غيرت إدارة بايدن طريقة تعاملها مع الملف وعيّنت مبعوثاً أميركياً للقرن الأفريقي، وهو ما يشير بوضوح إلى مدى جدية واشنطن في علاج هذا الملف، وتغيير طريقة التعامل مع ملف السد، خاصة مع إصرار إثيوبيا على عدم تدويل القضية والاكتفاء بالدور الأفريقي الذي كان يقف عقبة أمام أية وساطة أميركية.

أخيراً، من الضروري أن يكون الحل بيد الدول الثلاث؛ وإن رفضت أديس أبابا الخيار السلمي، فإن سيناريو الحل العسكري سيكون مطروحاً وبقوة لدى كل من القاهرة والخرطوم، ما يعني أنه ممن “الغباء” السياسي والعسكري أن تتحدى إثيوبيا قوة ضاربة على البحر الأحمر لها ثقلها مثل مصر. وإن كانت ترى أن الدعم الإسرائيلي لها – بمكانٍ ما – سيجعلها تربح معركتها سواء سياسياً أو عسكرياً، فهي مخطئة كلياً خاصة مع الخسائر الكبيرة التي منيت بها تل أبيب في حربها الحالية المفتوحة مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة.

مصدر الصور: العربي الجديد – أرشيف سيتا.

موضوع ذا صلة: مصر بين فكي “كاروما” و “النهضة”

سمر رضوان

المدير التنفيذي في “مركز سيتا” – سوريا.