بعد توقيع مصر وإثيوبيا والسودان على “إعلان الخرطوم” في 23 مارس/آذار 2021، تعثرت المفاوضات بين مصر والسودان، من ناحية، وبين إثيوبيا، من ناحية أخرى، بسبب اعتناق الأخيرة عدداً من “الخرافات” القانونية كي تبرر سلوكها العدواني ضد مصر بالذات، بدليل أنها فرضت أمراً واقعاً على القاهرة وأكملت المرحلة الأولى من ملء السد والتي استهلكت 5 مليارات متر مكعب من المياه مما أثّر على تدفق مياه النيل الأزرق، ما اضطر مصر إلى سد النقص من مخزون بحيرة السد العالي، وفق المتحدث بإسم وزارة الري المصرية.

شخصياً، سبق لي أن قلت كلمتي في هذا الموضوع على مدى 8 أعوام، لكن ما إستفزني وأعادني إليه مرة أخرى هو عدم وجود رد حكومي على الجدل الذي أُثير حول إعلان المبادئ الموقّع في الخرطوم، ما دفعني إلى تفنيد وتوضيح بعض الوقائع، أبرزها:

أولاً، اعتبرت الحكومة الإثيوبية الإعلان أساساً قانونياً لتسليم مصر بحريتها في بناء السد، والانفراد بادارته بمطلق إرادتها، والزعم أن مجرد توقيع مصر على الإعلان يعد رفعاً للفيتو عن المشروع، وهو ما أتاح للدول المانحة تقديم التمويل الموقوف إلى أديس أبابا لإستكمال بنائه وفق التفسير والسلوك الإثيوبين. في المقابل، إن الفيتو المصري – على عملية التمويل – لا يُرفع بمجرد التوقيع، وإنما بما يسفر عن عملية المفاوضات، في اطار هذه المبادىء، من اتفاق أو نتائج ملزمة ومُرضية. وكوني لم أجد رداً من جانب الحكومة على هذا التفسير، قدّرت أن ردي يمكن أن يكون مفيداً لمن كان له قلب أو ألقى السمع، وهو شهيد حب في مصر وإشفاقاً عليها مما هي مقدمة عليه.

ثانياً، اعتبر نقّاذ الحكومة المصرية أن هذا الإعلان هو بمثابة “شيك على بياض” وتنازل عن حقوق مصر في نهر النيل. ومما زاد الطين بله أن موقع إثيوبيا بالعربي تجاسر ونشر أن الحكومة المصرية هي التي باعت حصة مصر من المياه لإسرائيل من المنبع بمبلغ 20 مليار دولار.

من جهتنا، نرى أن كلا التفسيرين غير صحيحين لأن إعلان المبادئ هو القاعدة التي يجب أن تسترشد بها المفاوضات، فهي أطر نظرية ترشد المتفاوضين وهم يبحثون عن حلول للمشكلة؛ بالتالي، لم تعطِ مصر لإثيوبيا شيكاً على بياض ولم تعترف بالسد دون ربط هذا الاعتراف باحترام أديس ابابا لحقوقها المائية وفقاً لقواعد القانون الدولي المتعلقة بالأنهار الدولية.

من هنا، إن إعلان المبادئ لم يرفع “فيتو” مصرعلى بناء السد، كما أنه لم يسوّغ للدول المانحة أن تقدّم التمويل لإثيوبيا إلا بعد الاتفاق وبناء على المفاوضات التي تجري وفق هذا الإعلان، فالأخير ليس معاهدة دولية واجبة العرض على البرلمان، إذ تملك مصر الحق بالإنسحاب منه على أساس أن أثيوبيا – خلال المفاوضات – لم تحترم تلك المبادئ التي لا ولم ترتب لها حقوقاً، على غرار ما تزعم.

لذلك، يمكن القول بأن ليس في الإعلان ما يدعم مزاعم إثيوبيا من أن مصر وافقت على تفرّدها ببناء السد وإدارته، فهو قد وضع قواعد ومبادئ للتفاوض سعياً للاتفاق على ذلك؛ فلا الحكومة فرّطت، ولا هي أعطت لإثيوبيا شيكاً على بياض.

فخلال مقال سابق وعندما أقترحت في البرنامج على الحكومة الانسحاب من الإعلان، كان الهدف من ذلك الاحتجاج على أن إثيوبيا لم تحترم مبادئ الإعلان، وانتهجت مساراً انفرادياً مدعية لنفسها سلطات وحقوق تناقض الالتزامات القانونية، كما وأثبت أنها استغلت حسن النية للتآمر على مصر والكيد لها والإساءة إليها.

وفي مقارنة بسيطة، نرى بأن إعلان الخرطوم يشبه تماماً “إعلان أوسلو” الذي فسرته إسرائيل على أنه معاهدة سلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ حيث أنها لم تحترم أياً من مبادئه، وحولت المفاوضات – مثل إثيوبيا تماماً – لكسب الوقت والتدليس حتى تفرغ من إحكام خطتها في إضعاف الفلسطينيين، واستكمال حلقات مشروع الاستيلاء على كل فلسطين، خصوصاً عندما أعلنت بأن المفاوضات هي من أجل الإقرار الفلسطيني بما تريده. الأمر نفسه حدث عندما ضربت إثيوبيا عرض الحائط بالوساطة الأمريكية والبنك الدولي والوساطة الإفريقية.

ومع ذلك، فما دامت إثيوبيا لم تحترم مبادئ الإعلان وأفشلت جميع دورات المفاوضات، فإن وجود الإعلان أو الانسحاب منه سواتين لأن قضية مصر هي كيف تمنع “جريمة إبادتها” والنيل من بقائها، وعدم الانصراف إلى الإجراءات والاستغراق فيها دون مواصلة برنامج شامل لانقاذها من مؤامرة إثيوبيا.

ختاماً، في مقال لاحق سوف أعالج كيف يمكن للجهود الأهلية أن تتصدى في ظل تراخي الحكومة للمؤامرة الإثيوبية على وجود مصر.

مصدر الصورة: روسيا اليوم.

موضوع ذا صلة: المزاعم والأكاذيب الإثيوبية في قضية “سد النهضة”

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر