إبادة الفلسطينيين منهج اعتمدته الحركة الصهيونية منذ ظهورها على أساس الزعم بأن الفلسطينيين هم من طرد اليهود من فلسطين، وأنه يجب إبادتهم حتى تخلص الأرض لليهود. هذا هو ملخص نظرية الاسترداد التي تطمس كل القرارات والوثائق والدبلوماسية الدولية.

الغرب – وعلى رأسه واشنطن – يعلم ذلك، ويعينُ إسرائيل عليه؛ ولذلك، أمهل العالم إسرائيل حتى تحقق أهداف هذه الحملة التي لا تقاس بسابقاتها، وإن كانت كلها تهدف إلى إبادة العرق الفلسطيني بالتدريج، مثلما استقرت الحركة الصهيونية خلال مراحل الدجل والتدليس والكذب.

فالغرب نفسه يتحدث عن حقوق الانسان والقيم الديمقراطية ولكن للعرق الأبيض وحده؛ أما بقية الأعراق، فلا تستحق هذه القيم حيث يشارك هذا الغرب في ابادتها أيضاً، كما هو حاصل على البلاد العربية والإسلامية. وقد انكشفت فرنسا، “واحة النور والديمقراطية”، عندما حظرت أية مظاهرات تندد نظرياً بإبادة غزة وفق خطة مُحكمة.

وخلال متابعتي لجلسات مجلس الأمن التي انعقدت ولم تسفر عن بيان أو موقف، يتبين أن موقف الغرب – – وممثليه في المجلس – يتمحور حول استخدام مصطلحات للتعبير عن الموقف السياسي، وسوف نحلل هذه المصطلحات وتداولها في الإعلام الدولي.

لكن الواضح أن كل الغرب مجْمع على أن لإسرائيل الحق فى إبادة الفلسطينيين تحت ستار “الدفاع عن النفس”، ولكن بعض دول الشمال عبّرت عن أملها في أن تتم هذه الإبادة باتباع الرحمة من خلال القول أن على كل أطراف الصراع مراعاة احكام القانون الدولي الإنساني، وبذلك تكون قد سوّت كلها ما بين القاتل والضحية.

والسؤال هنا: هل كانت إسرائيل – ولا تزال – تدافع عن نفسها ضد عدوان المقاومة حين بدأت بإطلاق الصواريخ رداً على سلوك السلطات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في القدس، وكأن الغرب لا يرى إلا صواريخ المقاومة وعمِي أن يرى القسوة في عملية الإبادة وعجز السلطات الطبيّة في غزة المحاصرة والمرهقة عن استيعاب آلاف الجرحى والقتلى؟

الأغرب من ذلك أن مجلس الأمن لم يجرؤ أن يسمّي الأشياء بأسمائها، وأن يصدر بياناً هزيلاً ذراً للرماد في العيون. ولكن يبدو أن الغرب كشف عن وجهه، إذ لا يزال الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يردد تأييده حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها دون أن يرى عدم التناسب بين آثار صواريخ المقاومة وخطة إسرائيل المتعمدة لإبادة غزة، كما أنه لم يرى في اقتحام المسجد الأقصى وأحداث القدس تجاوزاً من جانب إسرائيل، استدرجت به المقاومة حتى تنقذ خطتها الجاهزة لإبادة غزة.

أما المصطلحات المستخدمة فتحتاج منا إلى تحرير، وأبرزها:

أولاً، وقف العنف. هذا المصطلح يتهرب من تحديد المسؤوليات عن الإبادة، ولا يرى فيها إلا عنفاً بين الطرفين.

ثانياً، وقف إطلاق النار. وهو يسوي أيضاً بين القاتل والمقاوم، ولا يرى فرقاً في المقدرات والإمكانيات والخطط بينهما، ويغفل أن للمقاومة – بكل صورها – مركزاً قانونياً ضمن قواعد وأحكام القانون الدولي، وأن المقاومة الفلسطينية ليست فقط رمزاً لرفض الشعب للاحتلال وممارساته، بل هي تعبير عن إرادة شعب خذلته شعوب محيطة وتركته لـ “الذئب الصهيوني” وحده، خصوصاً مع تواتر بعض الأنباء التي تفيد مشاركة بعض دول الخليج في أعمال إبادة غزة، وإعانة القاتل حتى يتمكن تماماً من الضحية.

ثالثاً، الهدنة. جرت العادة بعد كل عدوان إسرائيلي أن تعقد هدنة – طالت أم قصرت وفق احتياج إسرائيل. والحق، إن كلمة هدنة ليست دقيقة لأننا بصدد طرفين؛ طرف معتدي، وطرف يقاوم هذا العدوان. الأصح أن يتوقف المعتدي عن عدوانه كما بدأه بلا قيد أو شرط، فلا يكون للمقاومة بعد ذلك لزوم؛ من هنا، كان اعلان المقاومة بأنها ستتوقف عن القتال إذا توقف العدوان.
والمقاومة لها وظيفتان لكل متشكك، وليس من وظائفها قهر الجيش الإسرائيلي وطرد إسرائيل ولكنها تعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني في التحرر من “السرطان” الصهيوني الذي اختار فلسطين للقفز على القاهرة وعموم المنطقة، وقد مكنه الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، من ذلك عامي 1978 – 1979، عبر الاعتراف بهذا السرطان وبمباركة مسيرته – حتى ضد مصر نفسها – بوعود معسولة كي يسوق بضاعته الفاسدة.

أمّا الوظيفة الأولى للمقاومة فهي مناهضة الإحتلال الصهيوني، ومن باب أولى مناهضة نظرية الاسترداد التي تقضي بإخلاء فلسطين من سكانها لصالح اليهود. فالمقاومة مشروعة ما دامت مخططات إسرائيل ضد الأرض الفلسطينية قائمة. أما الوظيفة الثانية فهي صد العدوان، أي الوقوف ضد مخطط تنفيذ المؤامرة على فلسطين. فلقد مارست المقاومة – خلال الأحداث الأخيرة – الوظيفة الثانية؛ ولكن حيث أن المقاومة طرف غير معترف به من جانب السلطة التي نشأت على “إتفاق أوسلو”، بات على السلطة الإعتراف والإستعانة بها والمدافعة عن شرعيتها لا أن تكون خصماً لها.

رابعاً، الإصرار على أن إسرائيل معتدية وأن المقاومة ترد على العدوان. هذا العدوان الذي بدأ في حي الشيخ جراح في القدس، وليس بصواريخ المقاومة كما يرى الغرب؛ لذلك، يشترط الغرب وقف الصواريخ حتى توقف إسرائيل إبادتها للشعب الفلسطيني من دون أن يذكر أن خطط الإبادة لصيقة بالمشروع الصهيوني. من هنا، فإن شروط وقف العدوان تختلف عن شروط وقف المقاومة، وكلها مسائل مؤقته لأن إسرائيل مصرة على مشروع الإبادة على مراحل.

خامساً: في موازين النصر والهزيمة. قطعاً، ما ظهر خلال المرحلة الأخيرة يُظهر جلياً أن الشعب الفلسطيني قد دافع عن كرامة العرب المهدورة قبل أن يدافع عن نفسه، وأقنع العالم بأنه ليس مستعداً لأن يدخل متحف تاريخ الأمم المنقرضة، وهو الأحق بفلسطين من “لصوص الهيكل”.

سادساً: التهدئة. هذا مصطلح خبيث يدل على نية التضليل، ويتجنب مواجهة الحقائق. يماثله مصطلح خفض التوتر، هذا في الظاهر. لكن المصطلح لا يعكس الواقع، لأن التوتر سيظل قائماً ما دامت إسرائيل تبيد الشعب حتى تظفر بالأرض.

سابعاً: النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. للأسف هذا المصطلح ابتدعه الغرب حتى يحل محل الصراع العربي – الإسرائيلي، ثم أنه مضلل لأن القضية هي صراع بين الأمة التي انفرد “الذئب” بإحدى مكوناتها، وبين هذا “الذئب” وفصائله المؤيده له في الغرب والمنبهرة به عند العرب. لسوء الحظ، إن بعض الفضائيات العربية تردد هذا المصطلح، لكن الصراع سيضل بين الأمة و”الذئب” إلى أن تنتصر الأمة على المعتدي العابر.

مصدر الصور: الجزيرة – سبوتنيك.

موضوع ذا صلة: “هبة القدس”: الصراع على معادلة ردع جديدة

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر