بالطبع، كان حديث ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية صادماً. فاذا عدنا بالزمن حوالي 4 أعوام، بالتحديد إلى العام 2017، سنجد أن ولي العهد تبنّى خطاباً تحريضياً ضدّ إيران، فقد قال “نعلم أننا هدف رئيس للنظام الإيراني، لن ننتظر حتى تصبح المعركة داخل المملكة، سنعمل على أن تكون المعركة داخل إيران”، وزاد من حدة لهجته متهماً النظام الإيراني بـ “التطرف”، معتبراً أنه لا يوجد بينه وبين بلاده أي نقاط مشتركة للحديث أو التفاوض.
تتبدل العلاقات بين الدول، ومعها تقل أو تزيد التوترات، ولكن هذا التحول الكبير في النبرة السعودية تجاه إيران ملفتٌ للنظر، خاصةً لكون البلدين خصمين إقليميين منذ عقود، فما الدافع وراء هذا التغير؟ وإلى أي حد يمكن أن يصل التعاون والتفاهم بين البلدين؟
محادثات سرية في بغداد
في الآونة الأخيرة نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن مسؤولين عراقيين – لم تسمهم – أنّ العاصمة العراقية بغداد استضافت محادثات سرية بين إيران والسعودية، بالإضافة إلى الإمارات.
ووفقاً لتقرير الصحيفة، فإن مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى من الجانبين السعودي والإيراني اجتمعوا في بغداد بتنسيق من رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، الذي تربطه صلات بكلا الجانبين.
وأشار التقرير إلى أن الاجتماع عُقد في 9 أبريل/نيسان 2021، باعتباره الاجتماع الأول بين البلدين، ولكن كشفت تقارير إخبارية أخرى أن اجتماع شهر أبريل/نيسان لم يكن الأول من نوعه، وسبقه حوالي 5 أو 4 اجتماعات، منذ يناير/كانون الثاني 2021؛ ولكن بعد انتشار هذه الأخبار، نفت المملكة إجراء أية محادثات مع الجارة الإيرانية، واكتفت الخارجية الإيرانية بالترحيب بالحوار مع الرياض، دون التعليق على أخبار المحادثات السرية بين البلدين.
والجدير بالذكر أن المحادثات السرية بين الطرفين تناولت العديد من الملفات في المنطقة، ولكن كان على رأسها الحرب في اليمن.
وفي حديث مع “ساسه بوست”، قالَ مسؤول من المجلس الاعلى للامن القومي الإيراني شارك في الاجتماعات السرية بين الرياض وطهران، وفضّل عدم ذكر اسمه “كانت الاجتماعات جميعها على مستوى المسؤولين الأمنيين ومسؤولي المخابرات من كلا البلدين، بالإضافة إلى مسؤولين أمنيين من دولة الإمارات، وقد حضر الجنرال إسماعيل قاآني قائد قوة القدس أحد هذه الاجتماعات مع رئيس المخابرات السعودية خالد الحميدان.” ويضيف المسؤول الأمني الإيراني قائلاً “تناولنا العديد من الملفات في اليمن، وسوريا، ولبنان، وحتى العراق، وكان السعوديون مهتمين بمطلب واحد أكثر من باقي المطالب، وهو وقف هجمات الحوثيين التي تستهدف بلادهم.”
المطالب المتبادلة
وفي العام 2017، قال ولي العهد السعودي إنه لا يمكن التواصل بين السعودية وإيران؛ لأنه ببساطة وعلى حد تعبيره، النقاط المشتركة بين البلدين شبه معدومة.
رغمَ تصريحات ولي العهد القطعية ضدّ إيران، يبدو أن الظروف الإقليمية تغيّرت اليوم، وكاد يصل الطرفان إلى نقطة يمكن الانطلاق منها للتفاهم والتشاور، ويقول نفس المسؤول في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني في حديثه مع “ساسه بوست” إن “الحرب في اليمن هي بداية المفاوضات بين البلدين… لكن آن الأوان للعمل سوياً لإنهاء الصراع اليمني”.
وزاد الحوثيون، بدعمٍ إيراني، من هجماتهم التي تستهدف المنشآت النفطية وغيرها داخل السعودية، خاصةً في الفترة الماضية مع تكرر الاستهداف بشكل يومي، ونفّذت بعض الهجمات على الأراضي السعودية من داخل العراق، على يد فصائل مسلحة موالية لإيران. وبحسب المسؤول الأمني الإيراني، طلبَ الجانب السعودي من نظيره الإيراني وقفَ كافة الهجمات من اليمن أو العراق.
وفي المقابل، طرحت إيران مطالبها على الوفد السعودي، ويقول المسؤول الأمني الإيراني إن “الجمهورية الإسلامية ترحب بالحوار مع دول الخليج، وفي نفس الوقت هناك العديد من المطالب الإيرانية التي نوقشت في الاجتماعات، على سبيل المثال تقاسم السلطة في اليمن، ووجود تمثيل حكومي قوي للحوثيين، وَوقف السعودية والإمارات للحملة المضادة للاتفاق النووي.”
وبحسب المسؤول الأمني الإيراني، فإن طهران طلبت من الرياض العمل لإيجاد حل للأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، مقابل السماح للسعودية بإقامة العديد من المشروعات الاستثمارية في العراق.
وتعقيباً على هذه المفاوضات يقول حسن عابديني، الخبير الإيراني في الشؤون الدولية، في حديث مع “ساسه بوست” إن “هناك تفاؤل كبير بسبب التقارب بين طهران والرياض، وهناك الكثير من الملفات التي إذا عمل البلدان على حلها، فسنشهد هدوءاً في المنطقة.”
ويرى السيد عابديني أن الصراع بين السعودية وإيران كان واسع النطاق ومكلفاً لكلا البلدين، ويقول “كان من الممكن إنهاء الحرب في اليمن منذ أعوام لو جلس البلدان إلى طاولة المفاوضات، ولم نكن لنشهد هذه الصراعات في لبنان وسوريا، وإهدار الكثير من الوقت، ولكن يجب التفاؤل الآن، صحيح أن المحادثات لم تسفر عن نتائج إيجابية بشكل سريع، لكن مجرد الاتفاق على التفاوض أمر إيجابي.”
وفي محاولة لرسم موقف إيراني أقوى في المفاوضات، يتحدث المسؤول الأمني الإيراني عما وصفه بـ “رغبة سعودية حقيقية في التفاوض”، ويؤكّد “لمسنا رغبة حقيقية في التوصل إلى حلول في أغلب الملفات التي تمت مناقشتها، هذه المرة الرياض منفتحة على المحادثات مع إيران، ونحن نرحب بالتقارب مع جميع الدول العربية.”
هذا التوجه المُتفائل لحل المشاكل بين البلدين يطرح سؤالاً مهماً: ما السر وراء هذا التغير الكبير الآن؟ وما الذي دفع البلدين إلى الجوء للدبلوماسية بدلاً عن المتابعة في الصدامات المستمرة كما حدث طوال العقود الأربعة الماضية؟
البداية من هجوم “أرامكو”
قد تكون الإجابة البديهية على السؤال السابق هي وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، خاصة أنه خلال حملته الانتخابية تعهد بقطع التعاون الأمريكي مع السعودية في حرب اليمن، وتعهد بسحب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط لتنفيذ أجندته في تقليص تواجد بلاده في المنطقة.
وبعد أن وصل إلى السلطة، أمر بايدن بنشر تقرير استخباراتي أمريكي يقول إنّ محمد بن سلمان “وافق على خطة، إما للقبض على أو قتل الصحافي السعودي” المعارض جمال خاشقجي.
ووفقاً للمعطيات السابقة سيكون من المنطقي أن يكون الدافع لتوجّه السعودية إلى الدبلوماسية والحوار مع إيران هو السياسة الأمريكية الجديدة لإنهاء الدعم غير المشروط لحلفائها العرب، مثلما فعلت إدارة دونالد ترامب في الأعوام الأربع الماضية.
ويقول أمير مسعود، الباحث السياسي المقيم في طهران، ومؤيدٌ للمحادثات الإيرانية – السعودية، في حديث لـ “ساسه بوست” إن إدارة بايدن تسعى “للخروج من الشرق الأوسط، وعدم الانجرار إلى مغامرات حلفائها في الخليج مرة ثانية، لكن ليس هذا هو الدافع الأول والأخير وراء التقارب الإيراني – السعودي، أعتقد أن الرياض اتخذت هذا القرار في آخر فترة ولاية دونالد ترامب.”
ففي سبتمبر/أيلول 2019، شنّ الحوثيون هجمات بطائرات بدون طيار على منشآت نفطية لشركة أرامكو، ويقول تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” إن الهجوم كلّف السعودية حوالي ملياري دولار. انتظرت الرياض من إدارة ترامب الحليفة أن ترد نيابةً عنها على الهجوم الذي تمّ برعاية طهران، ولكنه اكتفى باتهام إيران بالوقوف وراء هذا الهجوم.
ويقول الباحث مسعود أيضاً إن “رد فعل واشنطن بعد هجوم أرمكو كان صدمة للرياض وباقي حلفاء أمريكا في الخليج، فقد أظهر ترامب لا مبالاة في الدفاع عن أهم حلفائه في المنطقة، حينها فقط أدركت السعودية والإمارات أن الدعم الأمريكي غير المشروط، وشراء ترسانة الأسلحة الأمريكية لن يجدي نفعاً، ولا بد عن اللجوء إلى حل بديل.”
وقبل 41 عاماً عندما فقدت الولايات المتحدة حليفها الأهم في المنطقة، محمد رضا بهلوي، بعد نجاح الثورة الإيرانية العام 1979، وخوف الدول العربية المجاورة لإيران من الجمهورية الثورية الوليدة، لجأت السعودية إلى الولايات المتحدة لحمايتها باستقبال القواعد العسكرية الأمريكية، وتكديس الأسلحة بكميات هائلة، بمعنى آخر لجأت الرياض إلى شراء أمنها بدلاً عن حل النزاعات وتهدئة الاوضاع في المنطقة عن طريق الدبلوماسية.
توجّه جديد في السعودية
على ما يبدو، إن السعودية بدأت في توجه دبلوماسي جديد بالتفاوض والحوار مع إيران، خاصةً مع وصول الرئيس بايدن ورغبته الواضحة في عدم توريط بلاده أكثرَ في ملفات الشرق الاوسط، وإثبات رغبته الجادة في التفاوض مع طهران للعودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، وهو ما يحدث حالياً في فيينا في مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين، قد دفع الرياض إلى إقامة حوار إقليمي، والتمسك بالمبادرة الدبلوماسية مع الجارة الإيرانية.
ويقول الباحث السياسي الإيراني مسعود إن “إدارة بايدن لا تولي اهتماماً كبيراً بالشرق الأوسط، وتريد الخروج منه بأسرع وقت، فلديها معاركها مع الصين وروسيا، ولا تريد أن تقف خلافات حلفائها في الخليج في طريق هذه المعارك.”
وفي نفس الوقت، تحتاج إيران لتهدئة الأوضاع في المنطقة خاصة مع حاجتها لإنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، ومع رغبتها الجادة في عدم توجّه السعودية للتطبيع مع إسرائيل حتى لا تجد نفسها محاصرةً من جميع الجهات بحلفاء لإسرائيل.
ويرى السيد مسعود، أن لكلا البلدين الكثير من الدوافع لإنجاح هذا التقارب، فيقول “طوال عقود المنافسة على النفوذ في المنطقة بين البلدين لم يحقق أي طرف انتصاراً كبيراً، البلدان لديهما الكثير من المشاكل في الداخل والخارج، ولذا لا بد عن الخروج من هذه الورطة بأسرع وقت، وهذا يعني أنه يجب على الجانبين تقديم تنازلات للتوصل إلى التسوية المرجوة.”
وعلى مدار 41 عاماً لم تقترب الرياض وطهران من بعضهما البعض بشكل كبير، كانت المنافسة على فرض النفوذ والسيطرة، وهي الحالة الدائمة لعلاقاتهما، بدايةً من دعم السعودية للرئيس للعراقي الراحل صدام حسين في الحرب مع إيران، مروراً بالصدام في اليمن، وسوريا، ولبنان، وقطع العلاقات الدبلوماسية تماماً العام 2016، بعد أن اقتحم عدد من المتظاهرين الإيرانيين السفارة السعودية بطهران احتجاجاً على إعدام الرياض لرجل الدين الشيعي السعودي البارز نمر النمر، وانتهاءً بتصعيد الحوثيين بهجومهم على أرامكو العام 2019، وصولاً لنقطة توتّر لم تصل لها العلاقات من قبل.
وبالعودة إلى المحادثات بين طهران والرياض، وبالرغم من أنه إلى الآن لم يتم الإعلان عن أية نتائج لها، إلا أن هذه المرة هناك بعض التفاؤل الحذر، صحيح أنه ليس من السهل تجاوز العداوة السابقة، ولكن مجرد جلوس الطرفين إلى طاولة المفاوضات أكثر من مرة، يعني وجود فرصة تحسن نسبي في العلاقات.
ويرى السيد مسعود، أن التقارب الإيراني – السعودي، سيعود بالنفع على المنطقة بأكملها، ويقول “لن تتحول العداوة إلى صداقة في ليلة وضحاها، ولكن أي تطور إيجابي ولو بسيط من شأنه أن يغير خارطة الصراع في المنطقة.”
المصدر: ساسه بوست.
مصدر الصور: سبوتنيك – أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: العلاقات الإيرانية – السعودية في عهد بايدن: فيلم أميركي طويل؟