بدأ الصراع مع إسرائيل جامعاً للدول العربية كافة، وكان إعلان الحاكم العربي دعمه تحرير فلسطين شرطاً لشرعيته؛ ولذلك، تعلّق الحكّام العرب جميعاً بقضية فلسطين، وكانت تسمى “قضية العرب الأولى”، ثم توالت طرق التسوية التي فرّقت الدول العربية.
لقد وحّدت القضية الحكّام لأن شعارات القومية العربية كانت مرفوعة؛ لذا، ذهب بعضهم بعيداً في آمالهم، على غرار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي سُئل عن تصوره لحل المشكلة في فلسطين فقال إن الحل بسيط وهو رحيل كل اليهود إلى البلاد التي جاؤوا منها وتخلص فلسطين لأهلها.
أما عن مسوّغ التأييد العربي لفلسطين، فلقد تعددت أسباب ودوافع هذا التأييد وأبرزها:
السبب الأول: إنها قضية عادلة ظلم فيها الفلسطينيون.
السبب الثاني: أن فلسطين أرض عربية وتعرضت لغزو عصابة صهيونية مسلحة ومعها ترسانة من الأكاذيب حول أحقية اليهود في فيها.
السبب الثالث: الاختلاف حول طبيعة الصراع. فقد استقر أنه صراع عربي في مجمله ضد الحركة الصهيونية، التي تجسدها إسرائيل؛ لكن المثقفين العرب اضاعوا وقتهم وجهدهم في التعرّف على طبيعة الصراع إذا ما كان صراعاً عسكرياً أو حضارياً أو سياسياً أو دينياً، ولم يدركوا في البداية أنه صراع على فلسطين والمنطقة.
أيضاً، لم يدرك هؤلاء المثقفين أن الصراع سببه المشروع الصهيوني الإحلالي الاستيطاني الاستعماري؛ لذلك، يجب أن يتضامن العرب كلهم مع فلسطين، وأنه من الظلم تركها وحدها تدافع عن الأمة، خاصة وأن الحركة الصهيونية هي حركة عالمية لديها مشروع استعماري يستهدف هوية المنطقة والأمة ككل.
السبب الرابع: إن فلسطين جزء من الأمة العربية، ومن حقها أن تنقذها هذه الأمة من براثن “الذئب” الصهيوني؛ من هنا، تمسّك الفلسطينيون بالشعارات القومية وصمدوا ومنعوا إسرائيل من الاستيلاء على كامل فلسطين بعد هزْمها كلاً من مصر والأردن وسوريا في وقت واحد العام 1967، وبدء تهويد القدس، وتمددها بالاستيطان، وتحوّل خطابها وعدم اعترافه بأن إسرائيل احتلت أراضي عربية، لتتضح نظرية “الاسترداد” الإسرائيلية بما ينسجم مع تفسيرها لـ “قرار التقسيم” منذ صدوره.
ترتب على كل ذلك تنفيذ إسرائيل لمخطط تفريغ فلسطين من سكانها حتى تقع كلها في يدها. وكان التزام الدول العربية نابعاً من أن فلسطين عضو في الأمة العربية، التي تضم كل الدول العربية، فيما نأمل بأن تتماهى الأمة، والتي تضم عدداً من الدول العربية، لتصبح الأمة دولة عن طريق الوحدة.
لذلك، تذكّرت نصائح القادة الأوروبيين لمصر في سبعينيات القرن الماضي القائلة بتحديد مساهمتها في القضية بقدر طاقتها، وأنها – في نظرهم – قد تحملت أكثر مما تطيق.
هذه النظرية تبناها الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، لكنه لم يدرك أن هناك معياراً أكثر أهمية لمساهمة مصر في القضية وهو أن المشروع الصهيوني صُمم للانقضاض على مصر، وأنه اتخذ من فلسطين محلاً مختاراً له لينطلق إليها، وأن شبه جزيرة سيناء تعتبر جزءاً من كتاب الدولة اليهودية الذي وضعه ثيودور هرتزل نهاية القرن التاسع عشر.
معنى ذلك أن فلسطين تدافع عن مصر حين تتصدى لإسرائيل، وأن صراع مصر معها أمر حتمي لأن مصر تعتبر دولة مركزية؛ ولهذا السبب، عنيت إسرائيل بمصر وتعقبتها حتى ورّطت الرئيس السادات في صفقة “كامب ديفيد” تحت عنوان “أسطورة السلام”.
وهكذا، كانت فلسطين الخط المتقدم للهجمات على مصر. فإذا عدنا إلى التاريخ، نرى بأن مصر صدّت التتار في جنين بالضفة الغربية، وطرد صلاح الدين الأيوبي، بجيش مصري – سوري، الصليبيين من بيت المقدس في القرن الثاني عشر الميلادي. من هنا، يمكن القول بأن مصر قد امتلكت أسباب ودوافع تحرير فلسطين من سطوة الصهيونية حتى لو تخلى كل العرب عنها؛ ولذلك، كانت “كامب ديفيد” ذات أثر استراتيجي للإضرار بمصر وتجاهل هذا الاعتبار.
من خلال ما سبق، عمدت إسرائيل إلى إخراج مصر من المعادلة، واستدارت للمنطقة بدون مصر، وكانت المحطة الثانية في دمار المنطقة هي العراق ثم سوريا وهكذا. أيضاً، نجحت إسرائيل في “فصم” الحاضنة العربية عن فلسطين، وبلغ المخطط ذروته بتعاون مصر مع إسرائيل عامي 2008 و2009 فيما تردد خلال عدوانها على غزة، ثم بإدانة الجامعة العربية للمقاومة لصالح إسرائيل ووصمها بالإرهاب، وأخيراً تفلّت العرب من الصراع مع إسرائيل في حملة الغزو السياسي الإسرائيلي للعرب تحت ستار معاهدات السلام وعملية السلام.
لقد أصبح مألوفاً تسمية الصراع العربي – الإسرائيلي بالسلام العربي – الإسرائيلي، أي سلام إسرائيل وحدها خصوصاً بعدما رأى العرب أن السلام مع إسرائيل “قرار استراتيجي”، لتتوالى المبادرات العربية – منذ العام 1981 وحتى العام 2002 – التي عكست واقع تراجع العرب عن عملية الصراع، وليحل مصطلح “النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي” محل “الصراع العربي – الإسرائيلي”، حيث كان للرئيس السادات الفضل بهذا التحول.
فاليوم وحتى بعد عملية “سيف القدس”، نستطيع القول أن الصراع العربي – الإسرائيلي لن يعود إلى سابق عهده مرة أخرى، فلقد بات صراعاً أقل من شمول العرب وأكبر من مجرد نزاع؛ ففي علم المصطلحات، يعتبر الصراع الحالة التي يسعى فيها طرف إلى تحقيق أهداف معينة، وهو طويل ويفرز الحرب أو الاحتكاك ولا تنهيه معاهدات السلام. أما النزاع، فهو ذو طابع قانوني.
لقد تم خفض الصراع إلى منزلة النزاع، ومن كونه عربياً إلى كونه مجرد فلسطيني – إسرائيلي. لكن عملية “سيف القدس” وارتباط الشعب بالقدس، حفّز الشعوب العربية والإسلامية نحو القدس مجدداً.
مصدر الصور: ميدل إيست أونلاين – سبوتنيك.
موضوع ذا صلة: “هبة القدس”: الصراع على معادلة ردع جديدة
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر