في ظل وطأة الظروف السياسية والاقتصادية الداخلية والعالمية، قام الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بجولة إفريقية شملت كلاً من رواندا وجنوب إفريقيا، في ظل جائحة فيروس “كورونا”، حيث كانت له العديد من المواقف البارزة ذات الدلالات السياسية الكبيرة، خصوصاً زيارته إلى جنوب إفريقيا التي تعتبر شريكاً أساسياً لباريس في القارة، كما أنها عضو مهم في مجموعة العشرين، حيث يطمح الرئيس الفرنسي إلى مزيد من الحضور في السوق الجنوب إفريقية، لا سيما في مجال التحوّل البيئي، ومسألة الأمن في شمال الموزمبيق حيث تقع هجمات “جهادية” منذ أكثر من 3 أعوام، وتطمح هذه الزيارة الرمزية إلى أن تكون مدخلاً إلى أعادة تطبيع العلاقات مع الدول الإفريقية بشكل عام.
اعتذار أم اعتراف؟
في زيارته إلى رواندا، كمُن الهدف الرئيسي منها في إنهاء عملية المصالحة بين البلدين بعد فتور دام أكثر من ربع قرن، تخلله توترات دبلوماسية مرتبطة بالدور الذي لعبته فرنسا خلال فترة الإبادة الجماعية لقبيلة التوتسي، العام 1994.
لذا، توجه الرئيس ماكرون إلى النُصب التذكاري للإبادة الجماعية – الواقع في منطقة جيزوزي بالعاصمة كيغالي – حيث دُفن رفات أكثر من 250 ألف ضحية. بعد وصوله، ألقى خطاباً أمام 150 من الحضور أكد فيه أن بلاده “لم تكن متواطئة”، وأن واجبها تجاه رواندا هو “الاعتراف بمعاناة الشعب الرواندي”.
في المقابل، يشير ترامور كيمينور، المؤرخ والأستاذ في جامعة باريس 8 وجامعة سيرغي، إلى أن “عناصر التواطؤ كانت حاضرة بسبب وجود قوات فرنسية في رواندا خلال تلك الحقبة، وأن مسؤولية فرنسا ثقيلة جداً”؛ وبإلقاء هذا الخطاب الرمزي، يصرّ رئيس الجمهورية على أنه يريد “محو 27 عاماً من المسافة المريرة” التي انقضت.
الاقتصاد أولوية
من المتوقع أن تفتح هذه الزيارة “صفحة جديدة” من التعاون السياسي والثقافي والاقتصادي بين فرنسا وروندا، حيث ستكون بمنزلة “المرحلة الأخيرة لتطبيع العلاقات”، إذ أكد الرئيس ماكرون على أنه سيكون “حريصاً” على كتابة صفحة جديدة بين البلدين؛ وهما دولتان، وفقاً لنظيره بول كاغامي، “لديهما الآن فرصة لبناء علاقة جديدة”.
أيضاً، يُتوقع الإعلان عن إطلاق مشروعات جديدة في رواندا لتعزيز نشاط فرنسا الاقتصادي بعد أعوام من الركود، لكنها ليست بالضخمة لأن رواندا أساساً لا تعد ضمن البلدان الكبيرة على الصعيد الاقتصادي، لكن يمكن القول أن فرنسا بدأت بالتحرك اقتصادياً لمواجهة الصين في إفريقيا من بوابة الاستثمار لتكون هناك “فائدة اقتصادية متبادلة”، في وقت لم تتضح فيه بعد معالم وأسس الإستراتيجية الفرنسية على غرار نظيرتها الصينية.
أما فيما يتعلق بزيارته إلى جنوب إفريقيا، فقد تركز الحديث الفرنسي على أن تكون كايب تاون سوقاً لتصريف لقاحات فيروس “كورونا”، حيث قال الرئيس ماكرون في هذا الصدد “إفريقيا تمثل نحو 20% من حجم الطلب على اللقاحات، لكنها تقدم 1% فقط من حجم الإنتاج”، موضحاً أن هناك بالفعل شراكة بين فرنسا ومعهد “بيوفاك” في جنوب إفريقيا، وأن باريس ستطلق قريباً مشروعاً مع شركة “أسبن” لإنتاج الأدوية في جنوب إفريقيا.
ضغط عسكري
تعتبر الأوضاع الأمنية في عدد من الدول الإفريقية مقلقة للغاية، إن كان في تشاد – بعد مقتل رئيسها إدريس ديبي – أو الانقلاب العسكري في مالي، أو سيطرة الميليشيات على مفاصل الحياة في طرابلس الليبية وإجبار المجلس الرئاسي فيها للانتقال إلى سرت، وما يحدث بين السودان وإثيوبيا على الحدود، ومشكلات “سد النهضة” بين كل من مصر وإثيوبيا والسودان، وبالطبع مسألة أقلية أمهرة وإقليم تيغراي، بالأضافة إلى معطيات كثيرة تبيّن أن الأوضاع في القارة السمراء باتت محفوفة بمخاطر جمّة، وقد تفتح شهية الاستعمار لاعادة استغلال الظروف والإطباق عليها مجدداً.
وكوسيلة ضغط، أعلن الرئيس ماكرون أن بلاده ستسحب قواتها من مالي في حال سارت باتجاه ما أسماه “الإسلام الراديكالي” – بعد انقلاب ثانٍ حدث في هذا البلد ضمن فترة 9 أشهر وخلال تواجده في رواندا وجنوب إفريقيا – حيث توجه برسالة إلى زعماء دول غرب إفريقيا مفادها أنه “لن يبقى إلى جانب بلد لم تعد فيه شرعية ديمقراطية أو عملية انتقال للسلطة”.
الجدير بالذكر أن فرنسا تشارك بنحو 5100 عنصر في قوّة “برخان” وتقع مهمتها في تقديم الدعم لدولة مالي لمواجهة الهجمات المسلحة منذ العام 2012، والتي أغرقت البلاد في أزمة أمنية ووصلت إلى وسطها، حيث قال ماكرون للرئيس باه نداو إن بقاء “الإسلام الراديكالي” في مالي “مع وجود جنودنا هناك لن يحدث أبداً”، مؤكدا أنه “إذا سارت الأمور في هذا الاتجاه، سأنسحب”.
من خلال ما يجري من أحداث، يمكن القول بأن هذا الإجراء لن يحدث على الإطلاق، لأن باريس تعمل مع دولة عربية على تثبيت أقدامها في تشاد مستغلة الفراغ السياسي الحاصل على الرغم من تعيين محمد إدريس ديبي قائداً للبلاد؛ وبالتالي، إن تحريك جبهة مالي في هذا التوقيت قد يكون الهدف منه الدولة التشادية، خاصة وأن القوات الفرنسية لم تقم بقصف مواقع المتمردين بالقرب من الحدود النيجرية وإنقاذ الرئيس الراحل ديبي كما فعلت في المرات السابقة، هذا أمر لم يتم حسم الجدل حوله بعد.
استنتاجات رئيسية
من خلال متابعة هذه الزيارة وربطها بالعديد من الاحداث المهمة، يمكن استنتاج ما يلي:
• لقد اعتمد الرئيس الفرنسي على مسألة “الاعتذار” من أجل تحسين صورة بلاده خارجياً وصورته الانسانية شخصياً؛ فعلى سبيل المثال، اعتذر للجزائر – دون تحمّل للمسؤولية – عن عمليات التعذيب التي حدثت أبان الاحتلال الفرنسي لها، ولقد أبدى نوعاً من حُسن النوايا عند اعادته لجماجم مواطنين جزائريين، يوليو/تموز 2020، لتدفن في بلادها. أيضاً، نرى اليوم اعتذاره من رواندا على خليفة الاحداث الدامية التي وقعت فيها أوائل تسعينات القرن الماضي، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف.
• الوضع الاقتصادي الضاغط والدقيق الذي تمر به فرنسا، ورغبة الرئيس ماكرون في فتح اسواق جديدة مباشرة بعد الانتهاء من أزمة جائحة “كورونا”.
• الوضع السياسي الدقيق الذي يمر به سياسياً؛ فهو يريد تحقيق أي انجاز مهم لا سيما على الصعيد الاقتصادي – من خلال توفير الأموال وفرص العمل لمواطنيه – بهدف زيادة حظوظه في الفوز بولاية رئاسية ثانية وذلك مع قرب البدء بالحملات الانتخابية، وأيضاً مع تزايد شعبية اليمين المتطرف في فرنسا وعموم أوروبا.
• شخصية الرئيس ماكرون التي يرى هو فيها الرجل الشاب الذي يقف على رأس إمبراطورية تاريخية، وحلمه في إعادة فرنسا – بجهوده – إلى سابق مجدها وعهدها.
• الرغبة في عودة فرنسا مجدداً وبقوة إلى القارة بعد أن بدأت الصين بملء الفراغ اقتصادياً فيها، ناهيك عن الدور الروسي المستجد الذي يأتي على حساب فرنسا، حيث خرج الفرنسيين من جمهورية إفريقيا الوسطى عسكرياً ليحل محلها مستشارون عسكريون روساً، ناهيك عن اتهام موسكو بالوقوف وراء الانقلاب الذي حدث في مالي العام 2020، واتهام مرتزقة “فاعنر” بتدريب المعارضيين التشاديين الذين اطاحوا بحكم الرئيس ديبي وقتله.
• من خلال النقطة السابقة، بدأت الدول الكبرى تفتح عينها على القارة السمراء، الغنية بالموارد الطبيعية، حيث بدأ السباق المحموم إليها بشكل كبير ما يعني أن النفوذ الفرنسي سيقل أكثر فاكثر اذا لم تتخذ باريس خطوات جدّية وأساسية في إعادة القارة على سُلم اولوياتها، وادارتها بطريقة جديدة عبر الاستثمار والمشاركة لا عبر الاستعمار والقهر.
• ينتشر اليوم مصطلح “دبلوماسية اللقاحات”، حيث تتسارع الدول – التي انتجته وتحديداً الصين – لارساله غلى البلدان الفقيرة، ومنها الدول الإفريقية، أولاً بهدف القضاء على الوباء والحد من انتشاره، وثانياً اعطاء صورة انسانية عن سياسات تلك الدول، وثالثاً الدخول إلى الدول للاستثمار فيها بعد أن إكتسبت شعبية لدى مواطني تلك البلدان. وهنا، تهتم فرنسا في هذا الجانب كي لا تفلت الأمور عن السيطرة وتأتي دول أخرى لتأخذ مكانها، لا سيما الصين وروسيا التين انتجتا لقاحات “كوفيد – 19”.
• يبدو العامل الأمني مهم جداً في القارة، خصوصاً ما يحدث اليوم في القرن الإفريقي، الذي يعتبر البوابة الشرقية للقارة؛ إن قيام علاقات أمنية متينة بين فرنسا وتلك الدول، سيمكنها من البقاء على اطلاع تام بالامور ما يجعلها تتصرف بشكل يؤمن مصالحها قبل فوات الأوان.
أخيراً، إن تسوية خلاف عقود من الزمن، لا يمكن أن تُنسي المجازر التي حصلت في إفريقيا بسبب الاستعمار، ولا يمكن أن تُلغي أطماع الدول الغربية فيها، فجولة ماكرون ليست أكثر من “ذر الرماد في العيون”، و”كلمة حق يُراد بها باطل”، لأن غنى إفريقيا بالثروات الطبيعية، مثل مناجم الذهب والألماس وموارد الطاقة وغيرها، سيكون عاملاً مساعداً وأساسياً لعودة الاستعمار المقنّع، أي أنه ليس على دبابة عسكرية بقدر ما هو إقامة مشاريع اقتصادية تعوّض الغرب خسائره الاقتصادية، هذا من جهة، وإذكاء نيران الحروب الداخلية أو البينية بطرق كثيرة، من جهة أخرى، ما يجعل الدخول إليها سلس لا وبل قد يتم ذلك بطلب من زعماء هذه الدول ذاتها، ما يعني تشكّل حقبة استعمار حديثة تواكب التطورات العالمية.
مصدر الأخبار: مركز سيتا + وكالات.
مصدر الصور: Reddit – فرانس 24.
موضوع ذا صلة: إفريقيا ما بين العسكرة الأمريكية والمديونية الصينية