لم تكن الرحلة الأولى لي للجزائر، وإنما الثانية بعد زيارتي الأولى لهذا البلد الكبير والجميل في شهر مارس/آذار الماضي (2022) على هامش معرض الكتاب الدولي. في المطار، كانت في استقبالنا شابة جزائرية متحمسة للمهمة التي كُلفت بها من المرصد الوطني لمنظمات المجتمع المدني في الجزائر. بادرتنا الأستاذه كنزا بالسلام والترحاب الحار حيث اصطحبتني أنا و الدكتورة مي البطران، من مصر، إلى مقر الاقامة في فندق الأوراسي ذي الإطلاله الخلابة على ربوع العاصمه الجزائرية، ليستقبلنا شاب اخر لم يقل في ترحابه ومودته عن زميلته، وهو الأستاذ حمروش الذي تولى تقديم كافة المعلومات لنا عن برنامج الزيارة والمنتدى.

من هواري بو مدين إلى أحمد بن بله (مطار الجزائر إلى مطار وهران) ثم إلى مقر الإقامة والمؤتمر، فندق وهران الكبير المفتتح حديثاً، لنجد أن الأستاذه كنزا قد سبقتنا في الوصول واعدت كل شيء للضيوف حرصاً على راحتهم.

إنطلق المؤتمر صباحاً، وكنت متحدثاً رئيسياً في الجلسة الأولى التي كانت تناقش سُبل تدعيم العمل العربي المشترك. توقفت طويلاً أمام العنوان الذي من المفترض أن أتحدث عنه، بحثت في التاريخ عن محطات العمل العربي المشترك فوجدتها مع الأسف لا تذكر. راجعت حاضرنا العربي، فوجدته خاوياً من أي تعاون عربي يُعتمد عليه، بل لمست فيه مدى الخلافات والصراعات التي تمزق علاقاتنا العربية؛ وبالتالي، تأثير ذلك السلبي على مقومات العمل المشترك، لم يبقَ لي في ذلك الوقت إلا التفكير بالمستقبل، فالماضي إنتهى، والحاضر مليئ بالمعاناة، ومن رحم المعاناة يولد الأمل. فالمستقبل، هو الأمل الذي لا بد أن نعمل من أجله.

لا يخفى على أحد أن دولنا العربية تمر بمرحلة هي الأسوأ في التاريخ؛ فبين أزمات سياسية وأخرى اقتصادية وصراعات على السلطة بين المؤسسات المختلفة داخل الدولة الواحدة، يتبين لنا مدى المحنة التي تمر بها منطقتنا؛ وبالتالي، الإحتياج الواضح للتشخيص السليم والرؤية العميقة لأصل المشكلة التي وقعنا فيها كعرب دون مجاملات أو محاولات لتبسيط الأزمات التي تعصف بنا شعوباً وحكومات. ومن هذا المنطلق، إقتبست من أحد اصدقائي المحترمين، وهو من النخب العربية التي أثق في رجاحة رأيها، مصطلح “الادارة الرشيدة والحكيمة للخلافات العربية – العربية”.

فأصل الخلاف موجود بين كل الأمم، ولكن الفرق هو في كيفية إدارته والتحكّم به حتى لا يتجاوز حدود المسموح والمقبول، وهو الأمر الذي فشلنا فيه – مع الأسف – كعرب، فباتت خلافاتنا الداخلية أشد وقعاً وأكثر إيلاماً من ما يهب علينا من محيطنا. وبما أنني ذكرت المحيط، فبلا شك نحن بحاجة إلى تنظيم العلاقه العربية مع المحيط غير العربي، عبر تفاهمات واضحة تضمن مصالح الجميع دون إنتقاص أو تعدٍ على سيادة أية دولة منفردة، ودون فرض الاملاءات والاشتراطات، مع الابتعاد عن سياسة المحاور التي لم تجلب لنا سوى الويلات والدمار.

إقرأ أيضاً: أوروبا على حافة الكارثة.. والجزائر باتت وجهة الساسة الأوروبيين

الأمن القومي العربي والتركيز على قضية العرب الجامعة أي فلسطين كانت حاضرة بصفتها آخر قضايانا التي توحدنا حولها في يوم من الأيام؛ وبالرغم من عتمة المشهد حول هذه القضية، إلا أن ما لمسته من الحضور في وهران كان يبعث على الأمل والتفاؤل على أن قضية فلسطين خالدة في وجدان كل عربي وعربية، فهناك إجماع على قضية فلسطين واستقلالها دون أية نقاشات أو اعتراضات.

المجتمع المدني الذي كنا في ضيافته كان حاضراً بقوة، فهو “الظهير الطبيعي” لكي يشعر الحاكم بالاطمئنان. والمجتمع المدني هو الانعكاس الحقيقي لتطلعات الشعوب ورغباتها، وهو الذي يخالط ويتعايش دون أية حواجز أو معوقات أو محاذير؛ عربياً، علينا أن ندعم ونعوّل على هذا المجتمع المدني الواعي الوطني، مع التشديد على حمايته وتأمينه من الاختراق الموجّه للعبث بثوابت المجتمعات عبر إنتهاج أساليب “حروب الجيل الرابع” وما شابه ذلك.

أيضاً، لم يخلو منتدى وهران من خلافات في وجهات النظر ضمن بعض الملفات، لكن سرعان ما تم تجاوزها بالحوارات الجانبية التي كانت تمتد في باحات فندق وهران الكبير حتى ساعات الفجر الأولى بشكل يومي.

لقد جمعت وهران الباهية العرب، وهيئت لهم المناخ المناسب للحوار والنقاش وتبادل الرأي، فخرج المجتمعون بـ “نداء وهران” الذي صاغ بعض الآراء وثبتها ليرفعها إلى القادة العرب الذين سيلتئم شملهم في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني (2022) في الجزائر العاصمة. “نداء وهران” ليس مجرد بيان، وإنما هو إشارة من شعوب عربية اجتمعت لترسل نداءها إلى قادة دولها بضرورة إدراك الوقت والعمل على اصلاح الواقع العربي ونبذ الخلافات والإنتباه للحظة الحاسمة التي يمر بها العالم، والتي ستنتج بلا شك هيكلاً دولياً جديداً للعلاقات؛ فعلى العرب أن يقتنصوا هذه الفرصة لصالحهم، وأن يعملوا جاهدين على أن يكونوا هم المحور وليسوا جزءاً من محور. إن قوة العرب الاقتصادية والشعبية والثقافية والتاريخية قادرة على أن تشكل رقماً دولياً يصعب تجاوزه إن صدقت النوايا وثبتت العزائم وتوحدت الجهود تجاه هذا الهدف الذي سيضمن للعرب مستقبلاً مزدهراً مستقراً آمناً.

في ختام زيارتي الثانيه للجزائر “الشابة”، ومصطلح الشابة في اللغه العامية الجزائرية يعني الشيء الجميل أو الحلو، لا يمكن إلا أن أرجو العوده ثالثاً ورابعاً لهذا البلد الجميل، فالطبيعة الخلابة الساحرة لهذا البلد بغاباته بجباله بشواطئه بصحاريه تجعل منه مقصداً سياحياً هاماً لو اتيحت الفرصه لذلك. حبى الله الجزائر بطبيعة قل نظيرها، ومعالم أثريه تستحق أن تُزار، وكما إفتتحت كلمتي في وهران اختتم مقالي بهذه الأبيات:

إنّ للجزائر في أحوالها عجب
ولا يدوم بها للناس مكروه
ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع
إلا ويُسر من الرحمن يتلوه

مصدر الصورة: الكاتب.

د. محمد أبو كلل

مسؤول الشؤون العربية في تيار الحكمة – العراق