السفير د. عبدالله الأشعل*

قدم “التلفزيون العربي” لقائين هامين أحدهما مع جاك سترو، وزير خارجية بريطانيا الأسبق، والآخر مع باحث ألف كتاباً حديثاً عن الموضوع وفي نفس الإتجاه، إسمه جيمس بوند، وقد اتفقت المقابلتان على إنشاء خط جديد يبرئ بريطانيا من تمكين إسرائيل بفلسطين.

لقد ركز المتحدثان في لقاءات منفصلة على أن بريطانيا كانت “حسنة النية” فتعاطفت مع ضحايا الهولوكوست، كما زعما أنها مكنت، ولإعتبارات إنسانية، المهاجرين اليهود إلى فلسطين، في فترات مختلفة، بما لا ينتقص من وجود الفلسطينيين. وأكمل المتحدثان بأن بريطانيا دفعت نتيجة هذه السياسة ثمناً باهظاً من أرواح جنودها الذين استهدفتهم العصابات الصهيونية، فاضطرت إلى اللجوء للأمم المتحدة لفصل الأطراف المتصارعة في فلسطين من خلال “قرار التقسيم”. لكنها اضطرت، في نهاية المطاف، للرحيل عن فلسطين بسبب الإرهاب الصهيوني.

هذه الرواية التي تعترف بالإرهاب الصهيوني مليئة بالمتناقضات، كما أنها لا تتسق مع ما حدث في فلسطين. الحقيقة هي أن بريطانيا تعهدت، من خلال “وعد بلفور” في العام 1917، بإقامة وطن لليهود في فلسطين وذلك قبل الهولوكوست بثلاثين عاماً. كما أنها ابتدعت “صك الإنتداب”، في عصبة الأمم، واختارت فلسطين حتى تهيئها لسكن المهاجرين اليهود.

كما أنه ليس صحيحاً، كما تقول الرواية، بأن بريطانيا حدَّت من الهجرة اليهودية عبر إصدار “الكتاب الأبيض”، في العام 1939، وإنما حددت مستويات للهجرة أعلى مما كان قائماً، وتعهدت بحمايتهم أيضاً؛ والغريب أن الممثلين العرب في “مؤتمر لندن”، والذين كانوا يشكون من تدفق الهجرة اليهودية، اعتبروا الكتاب فوزاً ونجاحاً لجهودهم ولم يدركوا أن بريطانيا بدلاً من أن تهدئ من روعهم اتجاه الإجراءات اليهودية في وجه تقدم المستشار الألماني، أدولف هتلر، وانسياب قواته إلى بولندا، كانت ترفع من مستوى الهجرة وهذا يثير تساؤلاً هاماً حول مدى تواطؤ الزعماء العرب، في “مؤتمر لندن”، مع المشروع الصهيوني، وهو الأمر الثابت بالنسبة للأمير فيصل إبن الشريف الحسين، في “مؤتمر فرساي” العام 1918، كما أن هذا التواطؤ كان ظاهراً من خلال إستعانة بريطانيا بالزعماء العرب لإنهاء الثورة الكبرى لفلسطين، المعروفة بـ “ثورة القسام” في العام 1936.

وما هو معروف أيضاً قيام لندن بتدريب العصابات الصهيونية من ضمن صفوف الجيش البريطاني، وهي التي أوعزت بقرار التقسيم رغم أنها، ذراً للرماد في العيون، إمتنعت عن التصويت على قرار التقسيم. أما الإرهاب الصهيوني ضد الجيش البريطاني وضد مبعوث الأمم المتحدة في القدس، هو حقيقة ولكن تفسيره ليس كما ذهب إليه المتحدثان. فلقد قبلت بريطانيا هذا الإرهاب ضد جنودها على أساس أن هذه العصابات كانت تمارس الإرهاب ضد الفلسطينيين والمذابح من السكان ودفعت هؤلاء إلى إخلاء قراهم ومدنهم طلباً للنجاة. كما أن بريطانيا كان لها دور في المواجهة البائسة بين الجيوش العربية والعصابات الصهيونية، وأبسط دليل على ذلك هو أن المستشار البريطاني العسكري، غلوب باشا، كان هو المحرك الأول للأمير عبدالله، القائد الأعلى للقوات العربية، وهو الذي، كما يروي محمد رفعت باشا في كتاب عن يقظة مصر الحديثة، تسبب في الصراع بين جماعة “الإخوان المسلمين” والحكومة المصرية، وهذه قصة أخرى طويلة تحتاج إلى سياق آخر.

في العام 2017، إعترفت رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي، أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بـ “إعتزاز بريطانيا” بالدور الذي قامت به لإنشاء إسرائيل، وذلك خلال الإحتفال بالذكرى المئوية لـ “وعد بلفور”، مما دعا بالرئيس الفلسطيني، محمود عباس – أبو مازن، للإعلان عن أنه سيقاضي لندن عن هذا الدور أمام القضاء البريطاني.

أخيراً، لا شك أن محاولات طمس الأدوار الرئيسية في المشروع الصهيوني بدأت منذ وقت طويل وانتهزت فرصة نقص الحقائق والوعي عند المواطن العربي. لذلك، أحسنت قناة “التلفزيون العربي” بعرض هذه المواقف، ولكن كان ينقصها أن يتصدى أحد العرب لمناقشة هذا الموضوع مع أصحاب الرواية حتى تكمل أبعاد القضية. من جهتي، أتمنى أن يقوم “مركز الزيتونة”، في بيروت، بتوثيق الدور البريطاني ونشره استكمالاً لدوره الرائع في خدمة القضية الفلسطينية.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصورة: جريدة النهار.

موضوع ذا صلة: أسطورة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وفلسطين