ملخص عام
تاريخياً، لعب الاتحاد السوفييتي دوراً رئيسياً في إفريقيا، حيث وفّر مظلة إيديولوجية وسنداً عسكرياً ودعماً للحركات الإفريقية المناهضة للاستعمار حينها. ولكن مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانحسار دوره في مختلف القضايا والمناطق، زاد نفوذ الاتحاد الأوروبي – الحليف الأول للولايات المتحدة في أوروبا – وجاء التدخل الفرنسي في البداية مع ترحاب كبير حيث استقبل المئات من السكان المحليين في مدينة تمبكتو الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، في المطار بـ “دفء”، رافعين لافتة كبيرة عليها عبارات شكر لفرنسا وزعيمها، فيما خرج الآلاف إلى الشوارع للترحيب بالرئيس الفرنسي.
وبعد مرور 8 أعوام على التواجد الفرنسي، بدأت تتناقص الشعبية الفرنسية وانحسر نفوذها في إفريقيا شيئاً فشيئاً لصالح قوى اخرى اقليمية على رأسها روسيا، والتي يعتبر التغلغل مالي ضمن استراتيجيتها الشاملة للعودة مجدداً للقارة الإفريقية وحجز موقع مؤثر وفاعل لها في المشهد السياسي الإفريقي بعد أعوام من خروج القارة السمراء عن دائرة الاهتمام الروسي.
مقدمة
تحتل إفريقيا مكانة هامة في أجندة السياسات الخارجية الروسية، ويبرز هذا في مختلف تدخلاتها السياسية المباشرة وغير المباشرة، وأيضاً في تواجدها الاقتصادي الكبير خاصة من خلال أسواق الأسلحة، وينطلق هذا الاهتمام من رغبة موسكو في استرجاع المكانة العالمية التجارية، وطلب الاستقرار الإقليمي بالاضافة إلى إحياء مكانتها كقطب أساسي في المجتمع الدولي. ورد في العديد من المراجع أنه منذ العام 2015، اعتزمت روسيا إقامة قواعد عسكرية في 6 دول إفريقية، هي مصر والسودان وإريتريا وموزمبيق ومدغشقر وإفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى مالي وغينيا حيث يُذكر أن هاتين الدولتين كانتا حليفتين للاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة في غرب إفريقيا. وفي ذلك الوقت، كثف موسكو السابق تعاونه في المجالين العسكري والثقافي.
لكن هذا التواجد الروسي يعتبر مزاحمة لدور فرنسا في القارة خاصة في مالي، التي تواجدت فيها بطلب من الحكومة المالية لمساعدتها في مواجهة المسلحين الإسلاميين، حيث يعتبر العام 2013 عام بداية التدخل العسكري الفرنسي، وبداية الحرب الفعلية فيها. وعلى الرغم من مرور أكثر من 8 أعوام على هذا التدخل، لا تزال فرنسا تعتبر نفسها فاعلاً عسكرياً أساسياً ومحورياً في مالي؛ ولكن مع مرور الوقت، بدأت شعبيتها تتناقص، وزادت نسبة الاحتجاجات الشعبية على هذا التدخل العسكري حيث تشير الكثير من التقارير أن دورها بدأ في التراجع مع ظهور فواعل أخرى، أهمها الصين وروسيا، ناهيك عن المظاهرات والحملات الشعبية شهدتها باماكو – في فترات سابقة- لتوقيع عرائض مطالبة بالتدخل الروسي حيث تقول فاتوماتا كوليبالي، الأستاذة بجامعة باماكو، إنه “عندما خرج الماليون في يناير/كانون الثاني 2019 للمطالبة برحيل القوات الأجنبية، كانوا يقصدون عودة القوات الروسية”.
ولهذا من خلال هذه الدراسة، سنحاول تبيان مظاهر التغلغل الروسي في إفريقيا – بشكل عام – من خلال المؤشرات الاقتصادية والعسكرية، وفي مالي – بشكل خاص – ومنه يمكننا طرح الاشكالية التالية:
في ظل انحسار دور فرنسا في مالي و مع ظهور قوى اقليمية جديدة على رأسهم روسيا هل سنشهد تدخل روسي مباشر في مالي كما حدث مع سوريا ؟
في دراستنا هذه، سننطلق من الفرضيات التالية:
● كلما تراجعت شعبية فرنسا في إفريقيا – خاصة في مالي – زادت فرص روسيا للتدخل السياسي والعسكري في القارة انطلاقاً من تجربتها في حل الازمة السورية.
● يعتبر التدخل الروسي في سوريا جزءاً من سلسلة متواصلة لسياسة موسكو الخارجية الجديدة، والتي ستستمر مستقبلاً عن طريق التدخل في مالي كبوابة مناسبة للتغلغل إفريقيا من جديد.
عند الحديث عن الأزمة في سوريا، يمكن القول بأن التدخل الروسي ساهم في وقف انهيار النظام السياسي السوري، وهو ما لم يستطع إنجازه التدخل الإيراني سواء بشكل مباشر أو من خلال حزب الله؛ فبعد التدخل الروسي، استعاد النظام كامل اللاذقية وتم ربطها بحلب، واستعاد أجزاء من حمص وحماة واستعاد السيطرة على قاعدة كويرس العسكرية ومدينة تدمر.
من هنا، إن نجاح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في التدخل على هذا الصعيد يُظهر الدقة في توقيت قراراته العقلانية، حيث تعتبر موسكو أن تدخلها في سوريا ناجح وقد حقق أهداف ومبادئ السياسة الخارجية الروسية المتمثلة في دعم كل من الهيكليات القائمة للدول والحكومات – بشكل عام – ضد كل تدخل أجنبي خارجي، أو تمرد داخلي حيث تحمّل روسيا الغرب مسؤولية الازمات الحالية في الشرق الأوسط، فهي تدعم التحول لكن شرط أن يكون من قبل مؤسسات الدولة الدستورية، وتؤكد أيضاً على أنها تدعم مبدأ سيادة الدولة بالتوافق مع القانون الدولي، وهذا ما شهدناه في دعمها العقلاني لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، والذي حقق له مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة.
وانطلاقاً من نجاح موسكو في الشرق الأوسط خلال الأعوام القليلة الماضية، بذلت السلطات الروسية جهوداً دؤوبة لزيادة نفوذها السياسي والتعاون الاقتصادي في بعض البلدان الإفريقية، حيث توضح العديد من الوثائق التغلغل الروسي في إفريقيا عن طريق عدة وسائل، أبرزها الوسيلة العسكرية والأسلحة، والوسائل السياسية والدبلوماسية، بالإضافة إلى الوسائل الاقتصادية عن طريق النفط والتعاون النووي.
منذ العام 2018، انتشرت الكثير من الشائعات عن تورط روسيا في مالي، إتُهمت موسكو بدعم الانقلاب الذي حدث في أغسطس/آب 2020، والذي نظمه أعضاء رفيعي المستوى في الجيش المالي. في الواقع وقبل أسبوع على الانقلاب، عاد هؤلاء الضباط من تدريب دام شهرين في روسيا، وكانت المصادفة كافية لربط المحللين الانقلاب بالحكومة الروسية؛ وحتى لو لم تثبت هذه الصلة بعد، فإن الصلة المتزايدة بين روسيا وبلدان جنوب الصحراء الكبرى تهدد توازن القوى في المنطقة، حيث يرجح العديد من المحللين أن روسيا ستستفيد من هذا الانقلاب من أجل تأمين صفقات اقتصادية، وتعزيز مكانتها الجيو – سياسية في غرب إفريقيا.
في التفاصيل، يرى الموقع المحلي المالي aBamako.com أن قادة المجلس العسكري، الذين أجبروا الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا على التنحي، كانوا في روسيا في إطار برنامج تدريبي نظمته القوات المسلحة الروسية قبل الانقلاب. وأشارت الجريدة المحلية إلى كون العقيدين مالك دياو وساديو كامارا، اللذان يُعتقد أنهما “مهندسا” الانقلاب، كانا قد قضيا عاماً في روسيا، في الكلية العسكرية العليا في موسكو وهذا يزيد من نسبة الشك بضلوع روسيا في الانقلاب بشكل غير مباشر.
من هنا، يمكن القول أنه بإمكان مؤسسة الطاقة النووية الروسية “روس آوم”، التي تنافس مباشرة نظيرتها الفرنسية “أريفا”، أن تحصل على عقود في منطقة الساحل، وقد تستفيد روسيا من علاقات مؤاتية مع السلطات السياسية الجديدة في مالي. كما تستطيع شركة “نورد غولد”، وهي شركة روسية للذهب لديها استثمارات في غينيا وبوركينا فاسو، أن توسع من مبادرات استخراجها من احتياطيات مالي من الذهب.
من هنا، تقول البروفيسورة إيرينا فيلاتوفا، الأستاذة البحثية في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو والمتخصصة في السياسة الخارجية الروسية، إنه يجب توخي الحذر بشأن افتراض التدخل الروسي في السياسة الماليّة لأنه لا يوجد ان تصريح رسمي، والواقع يبيّن أنه على الرغم من أن روسيا كانت شريكاً طويل الأجل مع مالي منذ استقلالها عن فرنسا في ستينات القرن الـ 20، لكن لم يتم مؤخراً إبرام أي اتفاق دبلوماسي هام خارج نطاق تجارة الأسلحة؛ فضلاً عن ذلك، إن التحول في تحالف المجلس العسكري من فرنسا إلى روسيا قد يرتبط أيضاً بانعدام الثقة في حلفائها الأكثر تقليدية، ومع عجز فرنسا عن تحقيق الاستقرار في مالي حتى الآن. ولهذا ،وضعت روسيا نفسها كشريك في مكافحة التمرد لبلدان المنطقة لزيادة الاستفادة من الانقلاب في مالي.
وفي تقرير نشره موقع “موند أفريك” الفرنسي يقول إن روسيا تتغلغل على حساب فرنسا في مالي وإفريقيا الوسطى عن طريق عودة لموسكو إلى غرب إفريقيا حيث كان الحضور السوفياتي طاغياً ومتنوعاً. وفي هذا الصدد يقول الرئيس بوتين إن تقوية العلاقات مع البلدان الإفريقية يعد أحد أولويات السياسة الخارجية الروسية. وبحسب تصريحات له خلال حوار مع شبكة أخبار “تاس” الحكومية قبل القمة، إن “العلاقات الروسية – الإفريقية في ازدهار”، وتحدث عن طموحه لتقديم عدة خدمات أبرزها فيما سيلي ذكره.
1. الدعم السياسي والدبلوماسي
تعمل روسيا على تعزيز صلاتها السياسية في المنطقة، إذ زار 12 قائداً روسياً إفريقيا منذ العام 2015، وشهد العام 2018 وحده ست زيارات.
أيضاً، تعمل موسكو على دعم التيارات السياسية المناهضة للدور الفرنسي في منطقة الساحل. فعلى سبيل المثال، ترعى روسيا كيمي سيبا، وهو شخصية إفريقية مشهورة بسبب آرائه المناهضة للدول الغربية وتشكل أفكاره رأياً عاماً مناهضاً للنفوذ الفرنسي في المنطقة.
2. المساعدة الأمنية والدفاعية
بين عامي 2014 و2018، بلغ حجم واردات روسيا من السلاح إلى إفريقيا – باستثناء مصر – 17% من إجمالي الواردات الروسية، بحسب معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي – SIPRI. وفقاً لنفس المصدر، إن التعاون العسكري بين مالي وروسيا “ضعيف جداً”. وتقول الباحثة ألكسندرا كويموفا، التي تعمل ضمن برنامج المعهد للأسلحة والإنفاق العسكر، إن روسيا لم تشارك “في أية صفقات أسلحة كبيرة مع مالي، باستثناء صفقة العام 2016 عندما وقعت الأخيرة عقداً مع روسيا لشراء أربع طائرات هليكوبتر حربية”، مضيفة أن الكرملين سلّم ما لا يقل عن طائرتي هليكوبتر قتاليتين جديدتين من طراز Mi-35M إلى مالي بين عامي 2017 و2019. ووفقاً لمسؤولين روس، كانت الصفقة خطوة نحو مزيد من التعاون بين البلدين.
بالتالي، يمكننا القول أن تواجد روسيا العسكري في مالي كان “متواضعاً” سواء في تجارة الاسلحة أو في التدخل المباشر لحل الأزمة، إلا أن التحركات الروسية الأخيرة تنبؤ ببداية تطور للدور العسكري الروسي، ومن الممكن أن تتحول مالي إلى سوق اسلحة روسية كبقية دول إفريقيا، وأن تمتد العلاقات الأمنية والعسكرية الروسية لأكثر من مبيعات السلاح، حيث يمكن أن تتضمن أحياناً استخدام مجموعات المرتزقة الخاصة.
وعلى سبيل المثال، ينشط الدور الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى، إذ تدعم الحكومة المعترف بها لدى الأمم المتحدة ضد المجموعات المتمردة، وقد أعلن وزير الدفاع المالي السابق الجنرال إبراهيم ضاهرو ديمبيلي، خلال جلسة برلمانية نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عن وصول مرتزقة “فاغنر” الروسية لتقديم دعم تقني للقوات المسلحة المالية.
3. الدعم الاقتصادي
يبلغ حجم التبادل التجاري بين كل من روسيا وقارة إفريقيا بحدود الـ 20 مليار دولار سنوياً، وهو رقم ضئيل مقارنة بحجم التبادل بين الصين وإفريقيا والبالغ 204 مليار دولار، وتهدف موسكو إلى تقليص هذا الفارق الكبير من خلال فتح أسواق جديدة للسلاح والطاقة والمنتجات الزراعية، حيث كانت اعتبرت موسكو أهم مورد للسلاح والمعدات العسكرية إلى إفريقيا إبان فترة الاتحاد السوفييتي، إلا أنها لم تتمكن من إحياء اهتمامها بالقارة الإفريقية مجدداً سوى في بدايات القرن الـ 21.
أيضاً، تعمل موسكو على عرض مساعدتها العسكرية لدول المنطقة مقابل الحصول على الموارد الطبيعية حيث تمتلك مالي وبوركينا فاسو مناجم ذهب، وتخضع العديد منها في تمبكتو لسيطرة التنظيمات الارهابية؛ بالتالي، أن محاربة هذه التنظيمات الارهابية سيؤدي كنتيجة إلى سيطرة روسيا واستفادتها من المناجم وتم توقيع اتفاقيات مختلفة بينها والدول الإفريقية بقيمة 12.5 مليار دولار، كما أن روسيا شطبت ديون بقيمة حوالي 20 مليار دولار، كانت مستحقة على الدول الإفريقية لروسيا، في عهد الاتحاد السوفيتي.
4. التدريبات التعليمية والمنح
تعمل شركة “روس آتوم” الروسية- بحسب صفحة “Russian Africa Journal” على منصة “فايسبوك” – على تقديم منح دراسية في روسيا للطلاب من إفريقيا لدراسة العلوم والهندسة النووية في روسيا. ومنذ شهر يناير/كانون الثاني 2020، بدأ حوالي 300 طالب من أكثر من 15 دولة إفريقية دراسة العلوم النووية في روسيا.
خاتمة
انطلاقاً من أهداف روسيا الأساسية والتي تبني عليها سياستها الخارجية، وفإن اعادة التموضع عالمياً واثبات وجودها كقوة كبرى ومنافس للولايات المتحدة يستلزم التدخّل في إفريقيا، فهي الوجهة القادمة التي تعمل موسكو على تثبيت أقدامها فيها بعد تغلغلها في الشرق الأوسط من بوابة سوريا، ربما تكون مالي هي البوابة الإفريقية.
ففي ظل كل هذه الامتيازات التي توفرها روسيا للإفريقيين من منح وجوائر تعليمية وفكرية ومساعدات اقتصادية للقادة وصنّاع القرار وأيضاً مع تزايد استعمالها لمختلف الوسائل السياسية وحتى العسكرية عن طريق تجارة الأسلحة، يمكننا القول أن التواجد الروسي المباشر في مالي أصبح ممكناً، فقد شهدت العاصمة باماكو، 28 مايو/أيار 2021، احتشاد لعدة مئات من الماليين لدعم الجيش، فضلاً عن روسيا، كما لوّح البعض بالأعلام الروسية ورفعوا لوحات تهاجم فرنسا، و قال أداما ديكو، المحتج في الثلاثينات من عمره، “نريد أن يغادر الفرنسيون وأن تأتي روسيا”.
المراجع
(1) إبراهيم فريحات/ماذا حقق التدخل الروسي في سوريا؟/الجزيرة / تاريخ النشر28/3/2016
(2) موند أفريك: روسيا تقتحم مربع النفوذ الفرنسي في غرب ووسط إفريقيا / الجزيرة نت / 11/7/2019
(3) أنظر:
Theo Locherer /Russia’s Strategy in Africa/global risk insights / October 4, 2020
(4) أنظر:
Mali: Hundreds show support for army and Russia/ Africa news / 29/05 -2021
(5) أنظر:
Kester Kenn Klomegah / Russia, Mali to Strengthen Economic and Military Cooperation / IndepthNews/ 16 JUNE 2019
(6) أنظر:
Jacobsen Russia’s showy and shadowy engagement p 41
(7) واردات روسيا من السلاح إلى إفريقيا / موقع BBC
مصدر الصور: سبوتنيك + الكاتبة.
موضوع ذا صلة: مكاسب روسيا من التدخل العسكري في ليبيا
طالبة ماجستير علاقات دولية تخصص دراسات أمنية و إستراتيجية – الجزائر