تميّز حُكم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بإعادة ترتيب الاولويات الروسية ما بعد زوال الإتحاد السوفييتي، وتحديداً في وضع استراتيجية واضحة لتنمية الاقتصاد اعتماداً على موارد الطاقة، وإعادة تموضع روسيا كقوة عالمية في الساحة الدولية، والنظام الدولي.
وتجسّد كل ذلك بالتدخل الروسي في سوريا، ومساندة الحكومة في إعادة السيطرة على قسم كبير من المساحات التي خسرتها لصالح المعارضة، ثم التدخل الروسي في أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم، ثم التدخل مؤخراً في الصراع الليبي، عسكرياً وسياسياً، إذ يندرج هذا التدخل تحت بند اعتبار ليبيا منطقة نفوذ روسي قديم منذ حقبة الإتحاد السوفيتي؛ بالتالي، من البديهي أن يحقق هذا التدخل للروس مكاسب متعددة، سياسية وجيو – سياسية واقتصادية.
نحاول في هذه المقالة توضيح المقاربة الروسية لتدخلها العسكري في ليبيا والمكاسب التي حققها، في زمن التردد الأمريكي وتداخل أهداف سياسات الدول الأوروبية.
تدخل عسكري “مموه”
بعد تمكين الحكومة من السيطرة على مساحات واسعة من سوريا، أصبحت أعين موسكو على ليبيا، وبدأت بإرسال الأسلحة والمعدات العسكرية، والمرتزقة – المعروفين بمجموعة “فاغنر” – لمساندة قائد الجيش الليبي، المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق ليبيا.
شكلت مجموعة “فاغنر” حضوراً واسعاً في تصريحات لقادة العديد من الدول كأداة من أدوات التدخل الروسي “المموّه” في ليبيا. وقد قال الجنرال توماس فالدهاوزر، قائد القيادة الإفريقية – أفريكوم، “إن روسيا تستخدم فاغنر من خلال توظيف مستشارين عسكريين مرتزقة، وخاصة في البلدان التي يسعى فيها القادة إلى حكم استبدادي، من أجل تحقيق المصالح الروسية بشروط مواتية”.
ومجموعة فاغنر الروسية مملوكة ليفغيني بريغوجين، وهو رجل أعمال له صلات وثيقة بالرئيس بوتين؛ وبحسب موقع “يورو نيوز”، فإن أولئك المرتزقة، والذين يقاتلون الآن على خط المواجهة في ليبيا، لديهم “خبرة ميدانية سابقة في أوكرانيا”.
وفي بداية العام الجاري (2021)، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن أكثر من 2000 من مرتزقة “فاغنر” يقاتلون حالياً في ليبيا، بينما حدّدت الأمم المتحدة عديدهم بما لا يقل عن 1200 عنصراً.
ووفقاً لبيان قيادة أفريكوم “يوجد طائرات عسكرية روسية قادمة من سوريا، أعيد طلاؤها بهدف التمويه، لدعم المرتزقة الروس الذين يقاتلون إلى جانب قوات المشير خليفة حفتر. ومن المرجح أن تلك الطائرات سوف تقدم دعماً جوياً قريباً”، كما توجد قاعدتان عسكريتان روسيتان تعملان بالفعل في كل من طبرق وبنغازي. ويعتقد الآن أن صواريخ الدفاع الجوي “إس – 300” الحديثة باتت موجودة على الأرض في ليبيا، كما صرّح دبلوماسيون غربيون، لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، بأنه من أجل إصلاح المعدات العسكرية وحل المشكلات اللوجستية أنشأت روسيا قاعدة عسكرية في غرب مصر.
من ليبيا إلى أوروبا
إن موقع ليبيا الرئيسي يضعها على مفترق طرق الساحل بين جنوب أوروبا وشمال إفريقيا؛ فهي تقع في الجزء الأوسط من شمال إفريقيا، تبعد حوالي 390 ميلاً بحرياً من مالطا، و486 ميلاً بحرياً عن جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا، وهي دولة صحراوية يسكنها 6.5 مليون نسمة ولها آلاف الكيلومترات من الحدود المشتركة، يسهل عبورها مع الدول الإفريقية المجاورة (الجزائر – مصر – تشاد – النيجر – السودان – تونس)؛ لذا، فإن تأثير ليبيا الجيو – سياسي على التطورات خارج حدودها وداخلها مهم جداً.
ومن الناحية التاريخية، كان الوصول إلى موانئ المياه الدافئة في شرق البحر الأبيض المتوسط ذات أهمية كبيرة لصانع القرار الروسي، كجزء من تعزيز حضورهم كقوة عظمى في النظام العالمي؛ وخلال مؤتمر بوتسدام لعام 1945، حاول جوزيف ستالين، من دون جدوى، المطالبة بالوصاية على مقاطعة طرابلس في ليبيا. وعلى الرغم من فشل تلك المحاولة، إلا أنه في سبعينات القرن العشرين اختار الرئيس اليبي الراحل، معمّر القذافي، الإنفتاح على موسكو، التي وفرت له آلاف المستشارين العسكريين، وكميات ضخمة من المعدات العسكرية لتعزيز أنشطته بما في ذلك بناء قواعد صاروخية.
من هنا، إن حضورها العسكري في ليبيا سيكسب موسكو نفوذاً كبيراً على أوروبا على المدى الطويل، وسيتحكم الروس بملفين استراتيجيين بالنسبة للأوروبيين؛ الأول ملف الطاقة، والثاني ملف اللاجئين، الذي لا يزال مصدر قلق كبير لكثير من الدول الأوروبية، ما يعني أن أية أزمة أخرى للاجئين تنبثق من ليبيا يمكن أن تعيد التوترات، وتعزّز من تصاعد اليمين المطرف ويزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي الهش بالفعل.
من خلال هذين الملفين، سيكون بإمكان الروس الضغط على دول الاتحاد الأوروبي لتحقيق مكاسب فيما يخص قضايا انتشار الصواريخ في دول أوروبا الشرقية، وملف احتلال جزيرة القرم، والدفع من أجل إنهاء العقوبات المفروضة عليهم، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، ستستغل روسيا إخفاقات الأوروبيين في ليبيا وتباين سياساتهم في الملف الليبي، كون فرنسا تدعم الجيش بقيادة المشير حفتر، بينما تدعم إيطاليا حكومة الوفاق سياسياً، وألمانيا تعنى بتنظيم عملية تسوية سياسية؛ وهكذا، تصبح روسيا أكثر تأثيراً في الملف الليبي بحكم تشتت مواقف الدول الأوروبية المجاورة، في وقت يبدو فيه أن الروس حريصون على إرسال رسالة مزدوجة للأوربيين والأمريكيين – من بعد تدخلهم في ليبيا – مفادها أنهم لن يتوقفوا عند حدود سوريا وأوكرانيا، وأن نجاحهم في سوريا ليس مصادفة.
..ومن ليبيا إلى القارة الإفريقية
في أواخر العام 2018، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جون بولتون، عن استراتيجية أمريكية جديدة تهدف إلى مواجهة كل من الصين وروسيا في إفريقيا، بعدما بات واضحاً أن موسكو تريد زيادة وجودها في القارة لا سيما عقب تصريح الرئيس فلاديمير بوتين الذي قال فيه “إن إفريقيا هي إحدى أولويات السياسة الخارجية لروسيا”، متحدثاً عن عمليات الدعم السياسي والدبلوماسي، ومساعدات الدفاع والأمن، بالإضافة إلى المساعدة الاقتصادية للدول الإفريقية.
وخلال عامي 2014 – 2019، شكّلت القارة الإفريقية، باستثناء مصر، 16% من صادرات الأسلحة الروسية، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام – SIPRI، حيث عقدت روسيا، بين عامي 2017 – 2018، صفقات أسلحة مع كل من أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية، حيث شملت الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر المقاتلة ومعدات النقل والصواريخ المضادة للدبابات ومحركات الطائرات المقاتلة.
من هنا، تبدو دوافع روسيا الاقتصادية واضحة للدخول إلى إفريقيا كونها في حاجة ماسة للمواد الأولية، كالمنغنيز والبوكسيت والكروم، كونها تدخل في الصناعات الروسية الأساسية، بالإضافة غلى خبرة موسكو في قطاع الطاقة وما يمكن أن تقدمه للدول الغنية بالبترول في إفريقيا. على سبيل المثال، تفيد بعض التقارير أن شركة “لوك أويل”، العاملة في قطاع الطاقة، لديها مشاريع في الكاميرون وغانا ونيجيريا وتتطلع إلى الاستحواذ على حصة في جمهورية الكونغو. أيضاً، تعرض روسيا خدماتها في مجال تكنولوجيا الطاقة النووية أمام العديد من البلدان الإفريقية، بما في ذلك بناء أول محطة نووية في مصر بتمويل قرض بقيمة 25 مليار دولار.
لذلك، تسعى روسيا لأن تكون جزءاً من المعادلة في ليبيا، حيث تقوم بتثبيت قواعد عسكرية لها على السواحل لتكون نقطة انطلاق إلى العمق الإفريقي وحجر أساس لحماية مصالحها.
تقارب المواقف في ليبيا انعكس إيجابا مع مصرودول الخليج
أفسح خيار الوقوف إلى جانب الجيش – المدعوم من مصر والسعودية والإمارات المتحدة – المجال أمام موسكو لتأسيس علاقات دبلوماسية ظهرت جلياً في تحسن العلاقات الروسية – السعودية، والتي تطورت من خلال زيارة الرئيس بوتين إلى الرياض، العام 2019، وترأسه مع الملك سلمان بن عبد العزيز مراسم التوقيع على سلسلة من المشاريع بمليارات الدولارات تشمل قطاعات حيوية، مثل الطيران الثقافة الصحة والتكنولوجيا المتقدمة، حسبما أفادت وكالة “فرانس برس”. أيضاً، أشار بيان على موقع الكرملين، خلال اجتماع مع ولي العهد محمد بن سلمان، إلى أن الصندوق السعودي العام خصص 10 مليارات دولار لمشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر المشتركة في روسيا.
وبعد السعودية، انعكست المواقف الروسية على العلاقة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث اتفق الجانبان على مجموعة من الصفقات في مجالات الطاقة، والطاقة النووية والطيران والبيئة. كما وقّعت شركة بترول أبو ظبي الوطنية اتفاقية مع شركة غاز بروم الروسية للتطوير في الإنتاج والذكاء الاصطناعي وتقنيات استخراج النفط من الحقول الحالية، ولقد حصلت شركة “لوك أويل” الروسية على امتياز الاستثمار بنسبة 5% من حقول أبو ظبي للغاز، وهي المرة الأولى التي تشارك فيها شركة روسية في مجال الطاقة في الإمارات. وفي مقارنة لقيمة الصادرات بين البلدين بين عامي 2017 – 2018، فقد قفزت من 2.5 مليار دولار إلى 3.5 مليار، أي بزيادة نسبتها 36%.
بالنسبة إلى مصر، ارتفعت قيمة الاستيراد من روسيا من 1.88، مليار دولار العام 2015، إلى 4.575 مليار دولار العام 2019. ووفقاً لـ SIPRI، كانت روسيا، خلال عامي 2014 – 2018، من أكبر موردي الأسلحة إلى مصر، بحيث وصلت نسبة الأسلحة التي استوردتها القاهرة إلى 30% من مجموع الصفقات المصرية للسلاح.
من خلال ما سبق، أشار أحد المعلّقين الروس إلى أن “ليبيا عرضت قيمة مضافة – مقارنة بسوريا – من حيث أن مشاركة موسكو في شمال إفريقيا جعلتها أقرب إلى دول الخليج، وكذلك مصر.”
المكاسب السياسية الروسية
يروج المسؤولون الروس – بانتظام – إلى أن الفوضى التي تعيشها ليبيا سببها التدخل العسكري لحلف الناتو العام 2011، والذي أدانه الرئيس بوتين بشدة آنذاك معتبراً إياه “المثال الواقعي” على عدم الاستقرار الذي تسببه التدخلات التي تقودها الولايات المتحدة، في حين أن موسكو تريد أن تثبت بأنها تستطيع تشكيل نتائج سياسية إيجابية في الخارج من دون القيام بعمليات عسكرية مُكلفة أو حملات جوية؛ لذا، فموسكو تسعى إلى إثبات إحدى استراتيجياتها المركزية – التي أعلنتها للعالم ولمواطنيها خلال الأعوام الأخيرة – وهي أن “ما تخرّبه الولايات المتحدة، يمكن لروسيا أن تصلحه”، هذا من جانب.
من جانب آخر، فقد انخرطت روسيا بشكل منتظم مع القادة الأوروبيين في عملية السلام الليبية، سعياً منها لتوسيع قيادتها في مبادرات حل النزاعات في منطقة الشرق الأوسط، كما تأمل أيضاً بأن تُرضي مساهماتها في عملية السلام مسؤولي حكومة “الوفاق” الوطني، الذي وصفتها بأنها تقوم بإثارة عدم الاستقرار في ليبيا.
من هنا، استقبلت موسكو رئيس حكومة “الوفاق” الليبية، فايز السرّاج، للمرة الأولى، بداية العام 2020، كما ساعد الضغط الروسي في عقد اجتماع بين كل من حفتر والسراج. كما زارها أيضاً خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، بدعوة من المجلس الاتحادي الروسي، لمناقشة العلاقات الثنائية وسُبل معالجة الأزمة السياسية الجارية في ليبيا، حيث جاءت زيارة المشري بصفته رئيس الهيئة – التي تتخذ من طرابلس مقراً لها والمكلفة بتقديم المشورة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة – ما ينبغي اعتبارها دليلاً على أن روسيا تريد الحفاظ على سياسة متوازنة بشأن لليبيا تحقق لها مكسباً سياسياً. وفي النهاية، لقد استطاعت روسيا الحصول على مقعد على طاولة المفاوضات في برلين.
الخلاصة
في فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما وسياسته المترددة في الشرق الاوسط، واعلانه لعدة مرات عن نيته تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، لوحظ تراجع للدور الأمريكي في كثير من القضايا على الساحة الدولية، مما سمح لدول عديدة، مثل روسيا والصين وتركيا، أخذ دور أوسع في دائرة التأثير على النظام الدولي، وجعلها أقدر على التدخل في الصراعات الإقليمية والدولية، وتحقيق تواجد عسكري في دول، مثل سوريا وليبيا، والتوسع في القارة الإفريقية.
من هنا، أعطى التراجع الأمريكي روسيا دفعة أكبر للتواجد في ليبيا وتحقيق مصالحها؛ بالتالي، تثبيت تواجدها في كل من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتحقيق مناورة أكبر تجاه الدول الأوروبية في ملفات مهمة، كالطاقة واللاجئين. وبسبب عدم التوافق في الرؤى السياسية لدول الاتحاد الأوروبي تجاه الأزمة الليبية، أستغل الروس هذا الاختلاف في التوجهات لصالحهم، ما قوّى موقفهم في ليبيا وأضعف موقف دول الاتحاد.
إن وقوف موسكو إلى جانب قوات حفتر في الأزمة الليبية جعلها أقرب إلى دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات ومصر؛ وهكذا، سوف تعزز روسيا موقفها وتواجدها في الشرق الأوسط، من خلال كسب تأييد 3 دول مهمة في المنطقة، وسوف تحقق مكاسب في كافة المجالات من خلال مشاركتها العسكرية والدبلوماسية النشطة في شؤون المنطقة.
ختاماً، تسعى روسيا من خلال تدخلها في ليبيا إلى تحقيق عدة مصالح اقتصادية، في قطاعات البترول والبُنى التحتية، وإعادة الاعمار مستقبلاً؛ وعليه، فإن تمكّن الروس من تعزيز حضورهم في ليبيا سيمنحهم قدرة أكبر على الوصول إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، وستكون موانئ ليبيا العميقة في طبرق ودرنة مفيدة للبحرية الروسية لوجيستياً وجيو – ستراتيجياً، لا سيما إذا ما تم ربطها مع قاعدتهم في طرطوس السورية.
نشرت في العدد الأخير لـ “مجلة الأمن.
مصدر الصور: العربي الجديد – النهار.
موضوع ذا صلة: سرقة منظومة “بانتسير – سي 1”.. رسالة أمريكية إلى روسيا؟
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة “الدراسات الأمنية” – لبنان.