إذا كانت التكنولوجيا العليا “هاي تك” هي أكثر ما تفخر به إسرائيل، والقاطرة التي تقود اقتصادها، فقد بان في الأيام الأخيرة الجانب المظلم للتكنولوجيا الإسرائيلية وتصدر حديث العالم اليوم؛ فما كان للفخر أصبح للانتقاد، بعد أن تصدر برنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس” – الذي تملكه شركة NSO – العناوين الرئيسية في الصحف الدولية. حجم التجسس الذي يقوم به “بيغاسوس” أثار موجة جدل داخل إسرائيل وخارجها، فهل يحاسب الكيان الصهيوني على استخدام وبيع برامجه التجسسية؟
بدأت الوقائع تتكون في تلقي المحامي الإماراتي المعارض والناشط في مجال الدفاع عن حقوق الانسان، أحمد منصور، رسلة نصية على هاتفه جاء فيها أن المرسل لديه أدلة على عمليات التعذيب السرية التي تجري في سجون الإمارات العربية. لكن منصور أرتاب في الأمر ولم يفتح الرابط المرفق بالرسالة بل حوّلها إلى الخبراء في مختبر “سيتيزن لاب” في كندا الذي يعمل في هذا المجال.
وأكتشف الخبراء في كندا أن الضغط على الرابط يجعل الهاتف أداة للتجسس على صاحبه عبر كاميرا الهاتف والمايكروفون ويمكن للجهة المرسلة للرابط الوصول إلى كل ملفات الهاتف بما فيها الرسائل النصية والصور والبريد الإلكتروني.
وتبين للمختبر أن برنامج القرصنة المرسل لأحمد منصور هو من أكثر البرامج تطوراً وتعقيداً ولم يسبق أن شاهدوا مثيلاً له وتأكدوا من أن مجموعة إن.إس.أو – NSO الإسرائيلية مالكة برنامج “بيغاسوس” للتجسس هي التي أنتجت هذا “السلاح المتطور”.
وإضافة إلى الدعوى التي رفعها المعارض السعودي عمر عبد العزيز في كندا، هناك دعاوى ضدها في كل من قبرص وإسرائيل رفعها مواطن قطري ومجموعة من الصحفيين والنشطاء المكسيكيين الذين وقعوا ضحايا تنصت ومراقبة عبر برمجيات صدرتها الشركة الاسرائيلية.
“بيغاسوس” … نشوء الشركة وعائديتها
تأسست الشركة عام 2010 ومقرها في مدينة هرتزيليا، ومالكتها “شركاء فرانسيسكو” الأمريكية. وحسب مؤشر المراقبة الدولي، فإن وحدة النخبة في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية – التي تحمل رقم 8200 – هي التي موّلت الشركة لدى انطلاقها. وتقول الشركة إنها تعمل في مجال إنتاج التجهيزات المستخدمة في محاربة الجريمة والإرهاب، لكن خبراء الأمن يقولون إنها تاجر أسلحة الفضاء الافتراضي، السايبر. ومن المفيد الإشارة الى ما كتبنه مجلة “فوربس” من أن الوحدة 8200 لعبت دوراً بارزاً في الهجوم الإلكتروني الذي تعرض له البرنامج النووي الإيراني قبل أعوام باستخدام فيروس Stuxnet وكان الهجوم ثمرة جهد مشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
حققت الشركة – التي أسسها ويديرها الإسرائيليان أومري لافي وشاليف هاليو – أرباحا طائلة، وتقدّر قيمتها السوقية في الوقت الراهن بحوالي مليار دولار.. وارتبط اسمها بحكومات دول تشهد انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. ورغم أن برامج الشركة تستخدم لمواجهة أنشطة الجريمة والإرهاب – كما تدعي، لكن الكثير من الحكومات تستخدمها في التجسس على معارضيها والصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان.
وتعامل الحكومة الاسرائيلية منتجات الشركة مثل أي شركة مصدّرة للسلاح، إذ تشترط عليها الحصول على تصريح من وزارة الدفاع لتصدير أي من منتجاتها إلى الخارج. وكانت الشركة باعت نسخة قديمة من هذا البرنامج لحكومة المكسيك، العام 2012، بهدف التصدي لعصابات تجارة المخدرات في البلاد، لكن صحيفة “نيويورك تايمز” قالت، العام 2016، إن السلطات استخدمت البرنامج للتجسس على صحفيين ومحامين معارضين.
تُعتبر شركة NSO إحدى أشهر الشركات الإسرائيلية، وهي المسؤولة عن تطوير برنامج “بغاسوس”، وبعد أن عرف العالم نشاط شركة NSO وتعرضها للجدل والانتقاد، سمحت وزارة الدفاع الإسرائيلية – في عماية التفاف واضحة – لشركة أُخرى تدعى “كانديرو” بالعمل مع عدد من الدول، وكانت شركة “مايكروسوفت” اتهمت “كانديرو” بتطوير برنامج معلوماتي استخدمته عدة حكومات للتجسس على أكثر من 100 صحفي وسياسي ومعارض ومدافع عن حقوق الإنسان حول العالم، بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وبحسب صحيفة “الواشنطن بوست”، فإن الصفقات بين NSO وعملائها – وفي مزيد من التمويه – تتم أحياناً بواسطة شركة ثانوية للسايبر بإسم “كيو سايبر” التي توجد في لوكسمبرغ.
وحينما يتعلق الأمر بأرباح شركات التكنولوجيا فإن الصورة أبعد ما تكون عن الوضوح، بحسب موقع “ميدل إيست آي”؛ ولأنها شركات خاصة لا يتم تداول أسهمها بأسواق الأوراق المالية، فإن تلك الشركات تحافظ على سرية قوائم زبائنها وحجم العقود المبرمة معهم، وتكاليف كل مشروع حسب فترة التنفيذ والمواد المستخدمة فيه، حتى أنه ليس من السهل الحصول على تقاريرها المالية المتعلقة بإجمالي الإيرادات وتكاليف التشغيل والأرباح.
أكثر من 50 ألف رقم هاتف قيد مراقبة “إن.إس.أو”
تستخدم الشركة الآن النسخة المحدّثة من هذا البرنامج الذي يحمل رقم بيغاسوس 3 – Pegasus 3 وبمجرد الاتصال عبر تطبيق “واتساب” في أي هاتف يتم اختراق الهاتف عبر زرع هذا البرنامج في الهاتف المستهدف ويمكن عبره الوصول إلى كل الملفات واختراق كل لإجراءات الأمنية التي طورتها شركة “آيفون” لحماية هواتفها.
مجموعة من المصادر الإخبارية من جميع أنحاء العالم في الأيام القليلة الماضية، بما في ذلك “الواشنطن بوست” و”الغارديان”، نشرت العديد من القصص التي توضح بالتفصيل الانتهاكات المزعومة الجديدة لبرامج التجسس التابعة لمجموعة “إن.إس.أو” في العديد من البلدان. وتستند هذه القصص إلى قائمة مسربة تضم أكثر من 50 ألف رقم هاتف، يُزعم أنها محط اهتمام عملاء “إن.إس.أو”.
وحلّل مختبر الأمن التابع لمنظمة العفو الدولية 37 هاتفاً ذكياً مدرجاً في القائمة، ووجد دليلاً على أنه تم اختراقها أو استهدافها ببرامج التجسس الخاصة بمجموعة “إن.إس.أو”. وقامت المؤسسات الإخبارية، بمساعدة منظمتا فوربدن ستوريز – Forbidden Stories الفرنسية غير الربحية والعفو الدولية، بتمشيط هذه القائمة وتحديد العديد من الصحفيين والنشطاء والسياسيين.
أكبر قضية تجسس عالمي .. وعبر الواتساب
في 14 مايو/أيار 2019، أعلنت شركة “واتساب” إنها عالجت الخلل الأمني الكبير الذي عثرت عليه في تطبيق الرسائل والاتصالات الذي يحمل اسمها، والذي سمح لقراصنة بتثبيت برنامج تجسس على هواتف “آيفون”، وقالت شركة “فايسبوك”، التي تملك تطبيق “واتساب”، إن الهجوم استهدف عدداً محدداً من الأشخاص.
وأكدت الشركة أنها اكتشفت قبل 10 أيام أن شركة NSO الإسرائيلية زرعت برنامجاً في هواتف عدد من الأفراد عبر خاصية الاتصال في “واتساب”، حتى وإن لم يرد صاحب الهاتف على الاتصال الذي يختفي من سجل الاتصالات في الهاتف المستهدف كي لا يثير انتباه صاحبه. وقد تقدمت “فايسبوك” بشكوى ضد شركة NSO الإسرائيلية بعد أن تعرضت لهجوم من برنامج تجسس يتيح الوصول إلى مضمون المراسلات على الهواتف الذكية.
وتضم القائمة التي حاول زبائن البرنامج ملاحقتها، أرقام هواتف كل من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والعراقي، برهم صالح، ورئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، ورئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، ورئيس الحكومة اللبنانية السابق، سعد الحريري، والعاهل المغربي، الملك محمد السادس، وغيرهم.
كما تظهر في القائمة أرقام هواتف أكثر من 600 مسؤول حكومي وسياسي من 34 دولة في شتى أنحاء العالم. ومن بين هذه الدول أفغانستان، وأذربيجان، والبحرين، وبوتان، والصين، والكونغو، ومصر، والمجر، والهند، وإيران، وكازاخستان، والكويت، ومالي، والمكسيك، ونيبال، وقطر، ورواندا، والسعودية، وتوغو، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة، وبريطانيا، والولايات المتحدة.
أكدت التقارير أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت الهواتف الواردة في القائمة تم اختراقها بالفعل، وما إذا كان أصحاب هذه الأرقام تعرضوا بالفعل إلى التجسس، أم أنها كانت قائمة أهداف محتملة، في الوقت الذي نفى مؤسس شركة NSO أي صلة للشركة بهذه القائمة.
الإنكار سياسة دائمة للتهرب من المسؤولية
أدلة كثيرة تثبت أن قدرات إسرائيل السيبرانية الهجومية – وخاصة التكنولوجيا التي تستخدمها مجموعة “إن.إس.أو”- لعبت دوراً كبيراً في سياسة رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، الخارجية، وفق ما كشفته صحيفة “هآرتس”، فقد أبرمت دول – من بينها المجر والهند ورواندا والإمارات وغيرها – صفقات مع المجموعة عقب زيارة نتنياهو لها. وفي تقرير الشفافية الأخير، وفيما يبدو التهرب من المسؤولية واضحاً، فقد أعلنت الشركة إنها قطعت العلاقات مع 5 عملاء منذ العام 2016 “بعد تحقيق في سوء الاستخدام”، لكن الشركة لم تذكر أسماء العملاء ولا الظروف المحددة التي جعلتها تتخذ مثل هذا القرار.
وجاء تأكيد جون سكوت رايلتون، كبير الباحثين في سيتزن لاب – Citizen Lab، وهي هيئة مراقبة للحقوق الرقمية تابعة لجامعة تورونتو والتي حققت في نشاط مجموعة “إن.إس.أو” لأعوام، على التهرب بقوله إن “المجموعة سقطت في نمط مألوف وهو الإنكار والعودة إلى الظل، كلما ظهرت تقارير تسلط الضوء على ممارسات عملائها واستخدامهم لبرامجها”.
وقامت مجموعة “إن.إس.أو” على مر الأعوام بمهاجمة التقارير عن الشركة، والتي أظهرت مراراً وتكراراً أن عملاءها يشملون الأنظمة الاستبدادية التي تستهدف الصحفيين والنشطاء والمعارضين وغيرهم. وكررت الشركة، في بيان، حديثها المعتاد بأنها لا تدير البنية التحتية للمراقبة، وليست لديها علاقة بما يفعله العملاء أو من يخترقون، وأكدت أن الشركة تحقق بشكل روتيني في مزاعم الانتهاكات.
انتقادات دولية ومطالب بوقف بيع البرنامج
فيما رد المحامي عن الشركة الذي يمثل مجموعة قائلاً “نحن نوفّر منتجاً، الزبون يقدم دلائل على أن استخدام المنتج سيكون حسب القانون في دولته. من الواضح أنه أحياناً تتم إساءة الاستخدام”، والشركة تطور منتجات يتم بيعها فقط لجهات حكومية لها صلاحيات من أجل هدف حصري متمثل في التحقيقات ومنع الجريمة والإرهاب.
لكن البرنامج التجسسي هذا يعتبر “سلاحاً”؛ وبناءاً عليه، فإن كل صفقة بين الشركة وبين أية دولة تستوجب إذن وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الإسرائيلية، فيما تقع مسؤولية استخدامه على الجهة المصدرة وهو الكيان الصهيوني.
من جانبها، دعت منظمة “مراسلون بلا حدود” المدافعة عن حرية الصحافة، في بيان صادر لها، الحكومة الإسرائيلية إلى فرض حظر على تصدير برنامج التجسس “بيغاسوس”، وأضاف البيان أن البرامج مثل “بيغاسوس” تشير بوضوح إلى تورّط دولة إسرائيل، وأكد أنه حتى لو لم يكن للسلطات الإسرائيلية سوى دور غير مباشر فلا يمكنها التهرّب من مسؤوليتها.
فضائح جمة تورط فيها الكيان الصهيوني وتلك التي تم الكشف عنها ولم نشهد أي جهد عالمي للمحاسبة بدءاً بفيضيحة “الكونترا”، وكذلك ما عرف بـ “إيران غيت” وآخرها تزويد الدول بهذا النظام التجسسي فهل تبقى من دون حساب.
مصدر الصور: فرانس 24 – سي.أن.أن عربية.
موضوع ذا صلة: الميكروويف سلاح جديد في المجموعة الكهرو – مغناطيسية … “متلازمة هافانا”
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.