أعلنت وزارة الدفاع الروسية، أن جزءاً من القوات الروسية المنتشرة قرب الحدود مع أوكرانيا باشرت العودة إلى ثكناتها، في وقت تخشى فيه الدول الغربية من عملية عسكرية وشيكة، وقال الناطق بإسم الوزارة إيغور كلاشينكوف إن “وحدات أقاليم الجنوب والغرب العسكرية أنجزت مهمتها وباشرت عمليات التحميل عبر وسائل النقل البرية والسكك الحديد والعودة إلى ثكناتها”.

وقد عاش العالم خلال الأربعة أشهر الماضية توجساً وقلقاً بالغاً جراء الأخبار الكثيفة حول نية روسيا شن حرب على أوكرانيا وأنها قد تتم في أية لحظة. موسكو نفت هذه الأخبار، لا بل أكدت عشرات المرات أن ما من حرب ستشنها على أوكرانيا، لكن يتبادر إلى الذهن – وخاصة المتابع العربي – السؤال التالي: ما هي أسباب هذه الأزمة؟ وما هي نوايا الغرب، من جهة، والنوايا الروسية، من جهة أخرى؟ وهل حقاً كان في نية روسيا اجتياح أوكرانيا؟

من المعروف جغرافياً، أن أوكرانيا هي الدولة الأقرب إلى روسيا من جهة أوروبا، ولكنها تحظى بدعم غربي واسع؛ لكن مع بداية العام 2014، تم ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عبر استفتاء أتاح لأهالي شبه الجزيرة الاختيار، واختاروا روسيا بطريقة قانونية وشرعية، إلا أن الساسة في أوكرانيا لطالما قالوا – ولا زالوا يقولون – إنه يجب على الجيش الأوكراني استعادة القرم، لكن هذا الموضوع تم حسمه. الآن هناك جمهوريتان شرق أوكرانيا وهما مستقلتان، وهما دونيتسك ولوهانسك (في إقليم الدونباس) اللتان انفصلتا عن أوكرانيا، ويحدث من وقت لآخر معارك هناك حيث تقول أوكرانيا إنها تحارب الانفصاليين فيهما، وطبعاً هؤلاء يوالون الاتحاد الروسي وهم مواطنون روس، وموسكو لن تسمح بأن يتم المساس بمواطنيها.

هنا نقوم بتفنيد المشكلة لكنها ليست مفجّر الأزمة، لأن هذه الأحداث قديمة – جديدة ومستمرة، اللافت أنه في الدستور الأوكراني مادة أو بند يشرعن انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي – الناتو، لكن روسيا ترفض رفضاً قاطعاً هذا الأمر؛ بالتالي، هذه هي الشرارة التي فجرت هذه الأزمة.

لا تريد روسيا تواجداً للجيوش الأطلسية على مقربة من حدودها، لكن الأزمة التي تفجرت هي في واقع الحال “صيد ثمين” للمعسكر الغربي، فمن المعروف أنه وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ورث الاتحاد الروسي تعاليم الاتحاد المنحل. ومع دخول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قصر الكرملين في العام 2000، نهضت روسيا خلال العشرين عاماً الأخيرة، وأعادت بناء دولة قوية ووصلت إلى العالمية في كل المجالات، وشكلت موسكو تحالفات قوية سواء الحلف الأوراسي أو مع مجموعة دول البريكس، لكن التحالف الأقوى كان مع الصين، العدو اللدود لواشنطن.

وهنا سنبني فرضية، حتى لو انضمت أوكرانيا للناتو، ماذا سيحدث؟ ستحدث حرب مباشرة بين روسيا ودول الناتو، وهذا من شأنه أن يدمر موسكو ودول الناتو – أي أوروبا – لتنتهي المعركة بدمار الجميع، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن فكرة الحرب مستبعدة كلياً، لكن الرئيس الروسي ألمح في أكثر من مرة أن هذا ما سيحدث في حال انضمت كييف للحلف، فماذا سيفعل الغرب في هذه الحالة؟

تعمل الولايات المتحدة اليوم ومعها بريطانيا فقط على الدفع باتجاه الحرب، هنا نستثني بقية الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، لأنهما يحاولان التهدئة لا التصعيد، إذ أنه من المعروف أن روسيا تمد أوروبا بـ 40% من احتياجاتها من الغاز، وآخر المشاريع شروع السيل الشمالي 2 – نورد ستريم 2، وهو خط الغاز الروسي الواصل إلى ألمانيا، ويقف حجر عثرة في هذا الأمر الولايات المتحدة، التي تحاول سحب البساط من تحت أرجل موسكو، للاستفادة هي من هذا الأمر، وليس هناك بيئة أخصب من أوكرانيا لتحقيق تلك الغاية.

لكن ما هو مخططها بالتعاون مع بريطانيا؟ المخطط هو دفع روسيا للقيام بمعركة تستطيع من خلالها واشنطن ولندن النفاذ الكامل إلى حدود روسيا؛ وبالطبع إذا انضمت أوكرانيا للناتو، فأية معركة بحسب معاهدة الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء ستشرعن محاربة الجميع لروسيا تحت ذريعة الدفاع عن كييف. لكن روسيا تنبهت جيداً لهذا الفخ ولم تقع فيه، فقامت بسحب قطعاتها العسكرية وإعادتهم إلى ثكناتهم كي تسحب الذريعة التي يناور الغرب بها، وبذلك توقعنا والعلم عند الله ومنذ اليوم الأول أن فرضية الحرب مستحيلة لأنها لو حدثت ستكون كارثية على العالم أجمع وستتحول إلى حرب عالمية ثالثة.

من هنا، هذه الأزمة اقتصادية تحت عناوين عسكرية. روسيا اليوم قوة لا يُستهان بها، وإن أرادت الحرب فستقوم بها، لكنها تريد لأوكرانيا أن تكون مستقلة لأنها على حدودها، وقرارها من نفسها لا مبني على إملاءات خارجية، ما يعني أن فرضية الحرب مستحيلة طبقاً للمعطيات آنفة الذكر، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الغربي عموماً يعلمون جيداً هذه الحقيقة، لذلك طالبت موسكو بضمانات مكتوبة كي لا يتم الانقلاب في يوم من الأيام كما حدث في تسعينيات القرن الماضي عندما حصلت من الناتو على ضمانات شفهية لعدم التوسع شرقاً لكن انقلب الحلف وتوسع.

الجدير بالذكر هنا في أنه لو حدثت الحرب فعلاً من المستحيل أن تتدخل أي دولة تؤيد تلك الحرب، بل سيجرون أطراف الصراع لمستنقع دموي لا خروج منه، فهذه التصعيدات كارثية وعلى العالم اليوم أن يفككر بعقل وحكمة لأن الحروب العبثية دمار شامل للشعوب، وأساساً كل شعوب الأرض منهكة فليست بحاجة إلى أسباب إضافية تنغص حياتها.

مصدر الصور: رياليست عربي.

موضوع ذا صلة: الغرب – أوكرانيا.. بين “العصا والجزرة” الروسيتين

عبد العزيز بدر القطان

كاتب ومفكر – الكويت