د.رائد المصري*

بهدوء.. ها هي حبال السلطة الطائفية والمذهبية الحاكمة تلتف حول بعضها بعضاً حين أيقنت أن ساعة الحسم والحساب قد حانت، فأرادوها بمنطق الإصطفاف والتكتلات العنفية والعصبوية الإستحكام أكثر، تطبيقاً لما ورد بحسب الفصل الثالث من الباب التاسع في مقدمة إبن خلدون “الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها، والأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أن تسـتحكم فيها دولة، والسـبب في ذلك إختلاف الآراء والأهواء وأن وراء كل رأي فيها وهوى عصبية تمانع دونها فيكثر الإنتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت.”

فمنذ بداية ثورة “17 تشرين” في لبنان، وقوى السلطة وأحزابها الطائفية تتنقل على ضفاف التحالفات فيما بينها وتعجز عن إجتراح أي حل يداوي الناس معيشياً وينقذ البلد من سياسات تحكم المصارف التي تنهش بلحمه منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً حتى توضحت، خلال الأيام الماضية، الصورة عبر التكتلات النيابية وتشريعاتها المشبوهة، وإنقضاضها على ما تبقى من دولة حيث آمن اللبنانيون أخيراً بأن سلطة الفساد الأُولى في وطنهم كامنة في قوانين برلمانية شرعت كل “الموبقات والإستباحات” في تسهيل حكم المصارف وتغطيتها وقوننة عمليات الفساد والهدر بشكل واضح ضمن أرقام ومسجلة في دوائر المجلس ومحاضره.

أما حلقة الفساد الثانية التي آمن بها اللبنانيون ورأوها بالعين المجردة فهي ضمن آلية نهب المصارف وإستحكامهم بكل القرارات السيادية للدولة اللبنانية ومعها جملة من القوى السياسية المتخندقة طائفياً والمتلحفة بعباءات الدين والمذهب كلما إقترب منها حساب الشعب، وإلتف حول رقبتها حبل الإتهامات والإرتكابات. الدليل على ذلك أنه منذ تنفيذ مقررات التعبئة العامة لمواجهة جائحة “كورونا”، صار لكل طائفة وحزب ومذهب ووسيلة إعلامية دولتها الخاصة بها ومساعداتها وهيئاتها الصحية وصندوق تبرعاتها بملايين الدولارات، بعيداً عن منطق الدولة وإدارتها.

في لبنان، نحن اليوم أمام معركتين مصيريتين بعد أن أثقلت قدرات المواطنين وأفرغت جيوبهم. المعركة الأولى، ضد حكم المصرف وحاكميته الخاضعة للإملاءات الأميركية وتنفيذ سياساتها المالية والتي ذبحت اللبنانيين من الوريد الى الوريد. ومن دون الغوص في تفاصيل قانون النقد والتسليف لا سيما المادة 19 منه، فلقد أخل الحاكم بوظيفته وعرَّض الأمن النقدي وسلامة الشعب الللبناني الإجتماعية لمخاطر عديدة ما يستوجب إحالته إلى المحاكمة. فها هي الإجراءات العُنفية بحق المصارف بدأت تأخذ طريقها، وهي مرفوضة طبعاً، لإنتفاء تقديم الحلول البديلة لإعادة أموال الناس، فهي إرتكابات كفيلة بأن تحيله الى المحاسبة وليس فقط إقالته من منصبه.

وحول الحاكم المركزي وأصحاب المصارف، أقيم السياج الطائفي والمذهبي المتنوع والمتعدد الإنتماءات والوجوه، لقوى وأحزاب وميليشيا الحرب وأمراءها التي تريد، ومن الباب السياسي إتهامها للرئيس حسان دياب بتصفية موروثاتها وإرثها وتراكماتها، أن تعيد الإصطفاف المذهبي الحاد. فهي تعتبر أنها أفضل طريقة لحماية مصالحها وإرتكاباتها المزمنة، ومعها كل قوى وزعامات الطوائف التشريعية الحامية لإرتكابات المصارف. بالتالي، فهم يريدون قطع الطريق على الرئيس دياب للمحاسبة من داخل مؤسسات الدولة بنقل الصراع الى الشارع عنفياً، ولقد كانت التعديات الشبوهة على بعض المصارف ليلاً في صيدا وغيرها خير دليل على محاولة إستدراج الخارج المالي الأميركي وأدواته للحؤول دون المحاسبة ومحاسبة المرتكبين.

إنها معركة صعبة وإن بدأها الرئيس دياب لكنها تصب في صحن ثورة “17 تشرين” الإصلاحية، فحذار من الإستدراج نحو العنف لأن مقتلها فيه، إذ أن على الأحرار في لبنان العمل وإستمرار الضغط الشعبي لإحالة المرتكبين والمجرمين الى العدالة. ساعتئذ وبعد شل يد سلطة الطوائف وهيمنتها على البلد، ننتقل الى ضفة الحساب الثانية وهي محاسبة مجلس النواب على تشريعاته “المشبوهة”.

*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

مصدر الصورة: جريدة اللواء.

موضوع ذا صلةخرائط أحزاب السلطة الجديدة في لبنان