التحكيم أقدم من القضاء حيث مارسته المجتمعات القديمة والعشائرية والقبلية وكان المحكم يتسم بصفات معينة أهمها أن يكون أكبر سناً وأن يكون مشهوداً له بالعقل والعدل والنزاهة وحسن الخلق وعندما نشأت الدول أستبدلت التحكيم بالقضاء الثابت الدائم وأصبحت هناك محاكم ثابتة وقضاة يجلسون في هذه المحاكم وقوانين بالاجراءات خاصة بالمحاكمات أمام هذه الدوائر القضائية وأصبح القضاء علما والتحكيم علما آخر وأصبح الخيار بين الطرفين.

ولكن ليست كل القضايا مؤهلة للعرض على التحكيم بل إن كل القضايا كان يجب أن تعرض على القضاء وعندما ظهر الإسلام وانتشر واقيمت دولة المدينة كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القاضي الأول ولذلك لم يكن هناك فرق بين التحكيم والقضاء مصداقا لقوله تعالى فلاوربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما(المائدة 65) مع ملاحظة انني اميل إلى التفسير الموسع وهو ان سنة الرسول بعد وفاته أولى بالاتباع مصداقا لقول الرسول الكريم في حجة الوداع لقد تركت فيكم ما ان اتبعتموه لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وسنتي.

ثم أصبح التحكيم مفضلا عند العرب مصداقا للقول المشهور القضاء يورث العداوة والبغضاء ولا يزال هذا المثل سائغا في الدول المتخلفة بينما القضاء والاحتكام إلى القانون صار من سمات الدول المتقدمة ثم أصبح التحكيم كعلم من وسائل تسوية المنازعات التى يطلق عليها التسوية الودية بخلاف التسوية القضائية للمشكلات الدولية والتى تشمل أيضا التحكيم فليس كل موضوع للنزاع صالحا للتحكيم فاتسعت دائرة الموضوعات التى تعرض على التحكيم حتى صار التحكيم بديلا للقضاء.

وفي القرآن الكريم ذكر التحكيم أيضا بمعني فريد حرصا علي تماسك الأسرة كوسيلة لتوقى الخلافات والمنازعات والشقاق بين الزوجين فنصت الآية الكريمة (35 من سورة النساء) على أنه إذا خاف أهل الزوجين الشقاق بين الزوجين يلجأن إلى التحكيم الاستباقى وذلك بأن يبعث كل طرف حكما من جانبه وليس هناك محكمة تحكيم أو رئيس لهذه المحكمة وإنما يعتبر المحكم في هذه الحالة ممثلا لوجة نظر الطرف الذي يمثله ولذلك يكون منحازا لهذا الطرف لا يعصمه من هذا الانحياز إلا رغبة الطرفين الزوج والزوجة في تسوية الشقاق وقد أشار القرآن الكريم إلى أن المحكمين وهما ممثلان لطرفي النزاع الذي تتجمع رياحه ونذره قبل أن ينشأ بالفعل والعمل على تبديد كل العوامل التى تؤدى إلى نشأة النزاع وهذه صورة خاصة في القرآن الكريم محصورة فقط في الأمور الزوجية ولا تمتد إلى غيرها والحكم يختلف عن المحكم فالحكم لابد أن يكون مدركا لقضية الطرف الذي يمثله وأن يكون بطبعه منحازا إلى هذا الطرف لكن ان يتوفر لدية النية في التوفيق لقوله تعالي ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما والآية تشير في قسمها الاول الي الزوج والزوجة والحكمين جميعا اما المستفيدان من المسعى الزوج والزوجة ولكن إذا اراد الاثنان الاصلاح وفق الله الحكمين إلى الاصلاح وإن أرادا غير ذلك يكون مسعاهما تسجيلا للمحاولة ولكن هذه المحاولة لا تمنع نشوب النزاع مادامت أسبابه قائمة.

على أن القرآن الكريم لا يمنع امتداد مثل هذه المحاولات الودية إلى الانزعة حتى التجارية لأن توسيط أطراف النزاع لوسطاء يتمتعون بهذه الخصال لابد أن يؤدي إلى تجنب النزاع قبل أن يبدأ وقد اقترحت بالنسبة للمستثمرين في مصر أن تنشأ لجنة يرضى عنها المستثمر والحكومة فتبدد السحب التى تتجمع وتنذر بنشأة النزاع حول الاستثمار أو حول عقد الدولة في الاستثمار ونجنب مصر مشاكل تصعيد هذا النزاع الذي يستقر أمام محكمة تحكيم دولية وتكون مصر هي المخطئة فتدفع تعويضا باهظا أثقل كاهلها وأصبح عبئا على اقتصادها.

مصدر الصورة: attorneys.ua.

اقرأ أيضاً: لماذا اختفى الشارع السياسي العربي؟

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر