تنبّه المترجمون – الذين تصدوا لترجمة معاني القرآن الكريم – إلى هذه الحقيقة، فترجموا كملة “خليفة” بأنها من يدير الأرض ويعمرها، ولم نعثر على مترجم واحد يزعم أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض كما زعم بعض الأئمة المحدثين، لأن خليفة الله في الأرض تعني توزيع الأدوار؛ فالله في السماء والإنسان على الأرض.

هذا الأمر يتناقض مع تأكيدات القرآن الكريم بأن الله يهيمن على كل شيء وأن الإنسان هو بعض خلقه، وأن الله دائم وليس كمثله شيء؛ ولذلك، فإن هذا القول خلل في العقيدة ذاتها وليس وجهة نظر أو تفسير واجتهاد، فالله سبحانه وتعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو الملك والديان، وكل أسماء الله الحسنى نشهد أنها متحققة في جلاله، وما الإنسان إلا ساكن الدنيا وله آخره؛ فلا دنيا بلا آخره، ولا آخره بلا دنيا. فالقول بأن الإنسان خليفة الله، لا يستقيم مع أسماء الله الحسنى رغم أن الإنسان خلق الله بصفات سلبية، إلا أن الله زوّده بالأراده لمقاومة هذه الصفات؛ فمن استعلى على هذه الصفات وقاوم الجاذبية نحو السقوط، أصبح ملائكياً وأصبح من طبقة عباد الرحمن، وأمّا أن استكان للصفات السلبية هبط إلى مستوى أكثر تردياً من الحيوانات، وهذا ظاهر في آيات القرآن الكريم.

الخلاصة أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من تراب ونفخ فيه من روحه؛ ولذلك، كرّمه تكريماً يليق بعظمة خلقه، وليس تكريماً لذاته حتى يظل الإنسان شاكراً لنعم الله عليه. ثم أن فكرة إعمار الأرض معناها أن يكون نافعاً للأرض والناس، وألا يكون ضاراً بهم، في التفسير الأوسع للكلمة. ثم أن الإنسان يفنى ويبعث يوم الحساب أمام الديّان، فكيف يسوغ للقائلين في هذا القول أن يسووا بين الخالق والمخلوق وأن يكون الكون قسمة بينهم؟

أما عبارات الاستخلاف والخليفة والخلائف، فلها معانٍ متعددة ومختلفة؛ فعندما قال الله لداود عندما فُتن في قصة الملكين: “يا داود أن جعلناك خليفة في الأرض”، ولم يقل “خليفتي فى الأرض”. فالله لا يستخلف مخلوقاً طارئاً، وهو الباقي والإنسان زائل. ومعنى أن داود خليفة تنصرف إلى أنه إنسان، وأن الله عهد إليه بالخلافة في سورة البقرة، فليس هناك صفة خاصة بداود وإنما يذكره الله بأنه من بنى آدم الذين عهد إليهم الله بالخلافة، ومن خصائص الخلافة العدل؛ لذلك، قال الله سبحانه لداود: “أن جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالعدل ولا تتبع الهوى”، إشارة إلى الفتنة التي وقع فيها داود عندما غلبت عليه بشريته وأراد أن يتخلص من الموقف الذي وضعه فيه الملكان، عندما تسورا عليه المحراب فلم يستمع إلى المدعى عليه وإنما أستمع إلى المدعى وحكم بناءً على ذلك، ونظر داود لم يجد الملكين فخر ساجداً، فغفر الله له ذلك وكلفه تكليفاً جديداً؛ وإذا كان الإنسان خليفة ملزماً بالعدل، فإن هذه الصفة أوْلى بالأنبياء لأن الله يعلم حيث يضع رسالته، فهو أختارهم وتعهّد برعايتهم ونصرتهم لقوله تعالى” “وأن رسولنا لهم الغالبون”.

إقرأ أيضاً: الخلافة السياسية والخلافة القرآنية

لذلك، أهيب بوزراء الأوقاف في جميع الدول الإسلامية بأن يلزموا الخطباء والأئمة بالمعنى الحقيقي للخلافة القرآنية حتى لا يضل العامة أو يفتنوا بالأقوال غير المسؤولة؛ وإذا كان بعض الآئمة السابقين قد درسوا هذه المسألة وفندوها، فلا يليق بالأئمة المحدثين أن يفصلوا هذه المسألة أمام العامة لأن العامة ليس لديها التكوين والعقل الذي يدرك طريقة تفكير الأئمة السابقين وهم يردون حكماً مختصراً واضحاً.

خلاصة القول، إن الإنسان خليفة ويستحيل أن يكون خليفة الله في أى شيء. صحيح أن الله أعلى من قيمة الإنسان وكرامته، وأن دم الإنسان أسمى من الكعبة المشرفة عند الله، ولكن يذكر القرآن في أي موضع أن الإنسان خليفة الله في الأرض، فمن أين جاء بها بعض الأئمة؟ فقد تواترت ولم يلتفت إليها العامة طوال قرون، ولكني ذُهلت عندما سمعت هذه الصيغة من عالم أستاذ تقلّد العديد من المناصب وأصبح علماً في مجال الدين، ثم أنه أستاذ للحديث في جامعة الأزهر، ولا يعل أن يقول الرسول الكريم ما يتناقض مع القرآن الكريم، وأرجو أن تكون تلك “زلة لسان”.

لمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى كتابنا الأول في سلسلة الدراسات القرآنية الصادر في القاهرة العام 2003 بعنوان “المصطلح القانوني في القرآن الكريم”، وقد نوقش الكتاب – قبل طبعه – في لجنة مؤلفة من علماء بالأزهر كان يرأسها المرحوم الدكتور صوفي أبى طالب، رائد الدراسات عن تطبيق الشريعة الإسلامية في الدول العربية.

مصدر الصورة: الحرة.

د عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق – مصر