سلّطت أغلب وسائل الاعلام الغربية أضوائها التحليلية على الجوانب الشكلية لزيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى كييف المحاصرة عسكرياً (على حدودها الشرقية التي قد تتغير معالمها نهائيا لتصبح خارج سيطرة كييف)، والمنهارة اقتصادياً (في شتى النواحي الحيوية)، والمنهكة سياسياً، لأن هذه الحرب وأطوارها المعقدة قد غطت فعلياً على معارضة سياسية داخلية ترفض توجهات القيادة الأوكرانية الحالية كونها صارت خاضعة لأجندات صراع نهايته ليست في صالح مستقبل أوكرانيا بالمطلق، ولأنها تحوّلت إلى ساحة للمعارك التي لن تخلف إلا الدمار والخسائر.
على عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي ترفض حتى الضرر المعنوي المحقق جراء اختبار غير مباشر مع القوة الروسية، أما نتائجه وانعكساته ستكون حتماً مباشرة وعميقة على مستقبل النظام العالمي بما سيلغي الأحادية القطبية، فشتان بين الحرص الأمريكي على عدم قبولها للأضرار المعنوية والوضع الأوكراني وما يتكبده من خسائر مادية ومعنوية.
مقابل ذلك، يمكن طرح سؤال جوهري: ماذا ستحمل هذه الزيارة للداخل الأوكراني الذي ارهقته الحرب؟ والجواب المؤكد والظاهر – حسب تقارير الاعلام الغربي – مبين في تركيزها على الجوانب السرية المتعلقة بتحضيرات هذه الزيارة وما استغرقته هذه السَفر من مدة كانت طويلة بالقطار، ما يعني أنها ليست مريحة مقارنة بفخامة الطائرات الرئاسية، وكذلك تركيز التقارير الإخبارية الغربية على مشهد خاطف للرئيسي بايدن ونظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وهما يتحركان تحت صافرات انذار دون اصوات انفجارات، وكأنه مشهد هوليودي مدروس لتأكيد ثبات ظاهري في التوجهات التي قد تهتز في أية لحظة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، ما الذي ستوفره هذه الزيارة للعالم الذي توقفت ساعة التعقل فيه لأن رعاة السلام المزعومين اتضح أنهم غير مكترثين إلا بنفوذهم شرقاً وغرباً؟ أم أن هذه الزيارة ليست موجهة للعالم قدر ما هي موجهة للعمق الغربي عموماً وللداخل الأمريكي خصوصاً بغاية أساسها أن الأمور تحت السيطرة ويمكن التجول في كييف ولو لثواني خاطفة؟
أما خطاب الرئيس الأمريكي من كييف فرسائله ليست بجديدة، بل أعادت للأذهان تصريحاته بخصوص صمود الحلف. وعن مزاعم فشل الرئيس الروسي فلادمير بوتين في رهانه على انقسام حلف الناتو وربط كل ذلك بخطأ الأخير في تقدير الأمور، فهل راهن الرئيس بوتين بالفعل على انقسام حلف الناتو؟ أم أن أهداف الحلف نفسه لم تعد منسجمة ولم تعد تضمن الحد الأدنى من التوافق الضروري لمصالح دوله؟ ولفهم مسببات هذا الصراع منذ البداية، هل الرئيس الروسي هو من سعى إلى التموقع على حدود الولايات المتحدة الأمريكية أم أن الأخيرة هي التي حرّكت ترسانة حلفها العسكري بما فرض على موسكو ضرورة الدفاع عن ذاتها وعن اقليمها الحيوي؟ أم أن الولايات المتحدة – وباعتبارها دولة قوية لعقود – فرضت فيها منطقها ورؤيتها للعالم لدرجة أنها لا تسطيع أن تسلم بسهولة؟
هي لن تقر بضرورة انهاء المعارك، خاصة وأن الرئيس بايدن قد خاطب نظيره في كييف معبراً له عن ثقته الكاملة بأنهم “سيواصلون الانتصار”، وفي ذلك رسالة واضحة مفادها أن لا مجال للمفاوضات، وفيها أيضاً تعليمات مباشرة بضرورة الاستمرار في حرب قد تقوّض السلم والأمن في العالم برمته.
إقرأ أيضاً: انتصار روسي ميداني.. يليه حسم انتخابي لصالح انضمام الجمهوريات الأربع
فهل هذه زيارة لرفع معنويات الأوكرانيين المتخوفين بشدة من زيادة روسيا لوتيرة ومستوى هجماتها خاصة مع نجاح القوات الروسية في إرهاق القوات الإوكرانية في باخموت وخاركيف، وفي ظل وجود تقارير تؤكد وجود جاهزية عسكرية روسية عالية وبحشود غير مسبوقة على مختلف الجبهات الشرقية في الذكرى الأولى لاندلاع هذه الحرب؟ أم هي زيارة كانت ضرورية بالنسبة لواشنطن ومن ورائها من الدول الغربية للتأكيد على درب المواجهة بالدعم والتموين والتمويل وحتى ولو بالتواجد الرمزي السياسي، وللعمل على تجديد مخطط استمرارية الحرب بتعليمات مباشرة واستعراضية من كييف؟
وعن أي انتصار يتحدث الرئيس الأمريكي، أم يقصد من وراء ذلك الرفض المسبق لأي تفاوض محتمل مع روسيا، خصوصاً وأن الدمار والخسائر التي تطال أوكرانيا لا تعني شيئاً مقابل أولوية استظهار صمود القوى الغربية أمام التحولات المعاشة على مستوى المنظومة العالمية (ولو على جثث الأوكرانيين كلهم) التي ستتأثر لا محالة بنتائج هذه الحرب التي اثبتت فيها القوات الروسية قدرات عالية في التحرك والتموقع بين مختلف الجبهات بصمود في المواقع، بل وبحثها عن المزيد الانتصارات الاستراتيجية في العمق الأوكراني.
لتواجه اوكرانيا مصيراً مفتوحاً على المجهول، خاصة وأنها تنتظر مساعدات عسكرية ولوجيستية من حلف الناتو ودوله التي أكثرت من “ترسانة التصريحات والوعود”، بالاضافة لاستغراقها لوقت أطول في مناقشة شأن المساعدات أكثر حتى من أدنى التزام بتوفيرها في ظل قطع القوات الروسية لخطوط الإمداد شرقي أوكرانيا.
مصدر الصورة: راديو سوا.
د. عمار براهمية
كاتب وباحث – الجزائر.