نبيل المقدم*

يعيش لبنان إرهاصات مرحلة تحولات كبرى يفترض أن تنقله من مناخ النهب والهدر والفساد وإزدواجية المعايير وتغييب سلطة القضاء العادل وتمييع القوانين والدستور ونقلها إلى مناخ آخر تسوده العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ومواطنة تستند إلى دولة مدنية ديمقراطية يرى أغلبية اللبنانيين أن زمن انتظارها قد طال.

ولعل هذا ما دفع رئيس الحكومة، حسان دياب، للمراهنة على قدرة اللبنانيين على خوض معركة إستقلال جديدة للتحرر من عدو يمارس السطو على حاضر اللبنانيين ومستقبلهم بعد أن دفعوا وما زالوا يدفعون ثمن أخطاء مورست عبر سنوات من قبل شبكة حاكمة تسيرها طغمة مالية اختارت الفساد نهجاً، ونهب المال العام وسيلة، والهدر تغطية، في وطن استحق بجدارة أن يصبح على مشارف أكثر البلدان مديونية في العالم بعد أن استنزفت موارده لسنوات طويلة دون أن يتخذ حكامه أية إجراءات للحد من تجفيفها الأمر الذي أغرقه في ديون تجاوزت الـ 90 مليار دولار، والتي سلبت حريته وجعلته اسير جشع تلك الشبكة التي حالت دون تقدمه، وأغرقته في وحول الإقتصاد الريعي الذي استفاد من تكريس تناقضات طائفية ومذهبية فيه وأوصلته إلى محاصصة نالت فيها الحصة الأكبر على حساب لقمة عيش الفقراء والكادحين وذوي الدخل المحدود بعد أن تضاءل حضور الطبقة الوسطى في المجتمع اللبناني. وهكذا، وصلت نسبة الذين تجاوزوا خط الفقر الى أكثر من 40%.

لقد أصبحت الإستدانة دون أفق بعد أن استمرأتها الطبقة الحاكمة والطغمة المالية ووجدت فيها حماية لإستمرار زيادة ثرواتها على حساب لبنان وأبنائه ورهن مستقبل أجياله المقبلة، وهذا أمر طبيعي في إقتصاد ريعي لا يهتم إلا بمصلحته الخاصة الضيقة على حساب أمن وطنه ومستقبله.

لقد أفرز تغييب الإقتصاد المنتج لمصلحة الإقتصاد الريعي، المتحكم بالنظام الإقتصادي والذي أصبح تحت سيطرة حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف الذين هربوا أموالهم إلى الخارج بعد أن غيبوا ضمائرهم وحسهم الوطني والإنساني الذي أعماه الطمع.

وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بدأ حَراك شعبي طرح قضايا مطلبية مشروعة ومحقة وعادلة استقطبت تياراً شعبياً عابراً للطوائف والمذاهب والمناطق، حيث شعرت الشبكة الحاكمة بخطورته وهذا ما دفع جزءاً منها للإنضمام إلى الحَراك في محاولة للتنصل من المسؤولية من جهة، والسعي إلى حرفه عن مساره، من جهة أخرى، خصوصاً بعد أن تم طرح قضايا يمكن أن تؤدي إلى إرهاصات تغيير جاد في مسيرة النظام السياسي في لبنان.

مع استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وتشكيل حكومة جديدة أعلن رئيسها تبنيه للمطالب المحقة للحراك؛ ومع نيل الحكومة الثقة واقتراب موعد استحقاق دفع فوائد استحقاق اليوروبوند، كان على الحكومة الجديدة أن تحدد موقعها وموقفها من هذا الإستحقاق في ضوء زيادة المديونية ونقص موجودات المصرف المركزي.

الواقع أنه بعد دراسة مستفيضة من الحكومة، تم التوافق على أن قرار تعليق الدفع هو اليوم السبيل الوحيد لوقف الإستنزاف المالي وحماية المصلحة العامة للوطن بالتزامن مع إطلاق برنامج شامل للإصلاحات اللازمة من أجل بناء إقتصاد متين ومستدام على أسس صلبة وحديثة وصولاً إلى استعادة قدرة الدولة على حماية اللبنانيين وتأمين الحياة الكريمة لهم.. وتفسير قرار التعليق ومبرراته يحتاج لحديث آخر.

*كاتب وصحفي لبناني.

مصدر الصورة: نهضة نيوز.

موضوع ذا صلة: ثورة 17 تشرين.. ماذا بعد؟