هاني الظليفي*

مرةً أخرى يتعرض الأردن لطعنة ظهر قاتلة بخنجر قوى التطرف الظلامي، والوباء العقدي، الديني  السياسي، المسمى الإرهاب، الذي تعشش عناصره التكفيرية وتقيم بين الناس البسطاء كالفيروسات الخبيثة، وتنمو شبكاته الإجرامية، وخلاياه الخبيثة كالسرطان المدمر لجسد الامة، في أحياء المدن وحاراتها الفقيرة، أو المخيمات المهمشة، فتعتاش على شيء من فساد ثقافي يغذيه التطرف الجامح،  بوقود التكفير  للآخر  المخالف، والعداء  لقيم الحداثة والاعتدال والوسطية التي تسم المجتمع الأردني ونظامه السياسي، لتحاول تشويهه، ويساهم في تناميه بعض تلوث فكري، ومقدار ما من  اهتراء منظومة قيمية اجتماعية، سببها تردٍ ملموس للأحوال المعيشية للناس في العقود الأخيرة، وسياسات لا تلقى الكثير من النجاح في مكافحة التشدد والتكفير، وإرساء قيم التصالح بين التراث الديني والحداثة المعاصرة.

إن من أهم الأسباب المحفزة للإرهاب كشكل من الفساد العقدي والديني هو التوظيف السياسي للتراث الديني المضطرب، الذي يعادي الحياة، ويَدين الفرح، ويدعو للجمود الفكري، والتمسك بالقيود الاجتماعية التراثية، ويقاوم تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والذي يتخذُ من الخطاب الديني المهيمن الذي يتمثله أغلبية وعّاظ وخطباء المساجد المتأثرين بالأفكار المتشددة، والمقلدين والمتماهين مع طروحات واساليب مشاهير دعاتها، ومنظريها المعروفين، الذين يتم استقبالهم بحفاوة شعبية، ويتمتعون بشهرة إعلامية كبيرة، على المحطات الفضائية الدينية، وشبكات التواصلِ الاجتماعي، بمثابة حصان طروادة. فالفكر الوهابي القادم من الصحراء، والمتنفذ دولها، ما فتئ يفرض هيمنتهُ في الأردن، مثل غيرها من البلدان العربية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، فيما يسمى بـ “الصحوة الإسلاموية”، وله اليوم قاعدة ايديولوجية تتمثل بأتباع وأنصار التيار السلفي الجهادي ومنظوره والذي اكتسب تعاطفاً من بعض شرائح الشعب الأردني المتدين بطبيعته، والمحافظ على التقاليد بحكم بنيته الاجتماعية، في المدن الأردنية والمخيمات، يترك أثّراً واضحاً على مزاج التدين العام لينحو به نحو نزعة التشدد، بينما تنادي  المملكة الهاشمية رسمياً بـ “وسطية” الإسلام، وتسعى لأن تقدم نموذجاً لإسلام معتدل عصري، بدلاً من التطرف والتشدد الذي يسود المنطقة، ويغذيه تبني جماعات الإسلام السياسي العنيفة المتفرعة أصلاً عن جماعة  الإخوان المسلمين ذات الحضور التاريخي القوي في المدن الرئيسية والمخيمات، لنهج السلفية الجهادية التي ينظر لها بعض من أردنيي  الجنسية، والتي شاركت في ما يسمى بـ “الجهاد الأفغاني” المدعوم وقتها أمريكياً وخليجياً، ناهيك عن احتكار المشايخ السلفيين غير الرسميين شرعية تأويل هذا التراث، فعملت جهودهم الإعلامية والسياسية الناشطة، والمنظمة والمؤثرة، بنجاح على إعادة تشكيل الوعي الديني لكثير من الأردنيين، وخلق حاضنة للتطرف بينهم خلال العقود الماضية، وبالأخص في الأحياء الفقيرة من المدن والمخيمات، وليصبحوا عملياً بمثابة “رديف إيديولوجي”للإسلام السياسي الذي لا يدخر بدوره أي جهد سياسي او عسكري لتنفيذ أجندته، وتحقيق غاياته السياسيةِ الأسمى في الوصول للسلطة وفرض “الخلافة الأممية” بأي طريقة، أو ثمن.

لقد كانت حرب الخليج الأولى والغزو الأمريكي العراق شرارة لانطلاق “الإرهاب” الإسلامي الذي كان لبعض الإرهابيين من حملة الجنسية الأردنية دور بارز في قيادته حيث كانت معظم نشاطاته في العراق وسوريا، غير أن الأردن كان له نصيب أيضاً من العمليات الإرهابية الدموية التي استهدفت نظامه وأمنه وسلامةَ مواطنيه وعناصره الأمنية، منذ التسعينات، وآخرها عملية تفجير عبوة ناسفة بدورية أمنية أثناء حراستها فعاليات مهرجان الفحيص الفني قبل أيام، وأسفرت عن مقتل شرطي، وإصابة ستة عناصر آخرين، وما تبعها من عملية مداهمة للإرهابيين في منزل بمدينة السلط أدت هي الأخرى الى مقتل 4 عناصر أمنية و24 إصابة مما بين القوات الأمنية والمدنيين، وانهيار المبنى الذي تحصن فيه الإرهابيون، وهي عملية إجرامية قامت بها عصابة إرهابية حديثة التكوين تنتمي فكرياً لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، العدو الأول للدولة الأردنية، أعضاؤها إرهابيون أردنيون محليون، لم يشاركوا في عمليات إرهابية خارج البلاد، وكانت تخطط لإستهداف المهرجان نفسه أو غيره من المهرجانات والتجمعات والأهداف الرخوة الأخرى على حد قول وزير الداخلية الأردني.

بالمقابل من ذلك وفي ظل أوضاع المنطقة العربية الأمنية المتدهورة منذ  بداية أحداث الربيع العربي، واستعار الحروب الأهلية في الجوار، وتنامي دور وقوة التنظيمات الإرهابية المتعددة، وعلى رأسها تنظيم “داعش”،  فثمة شبح فساد سياسي وإداري ومالي موازٍ بات  يجثم على بعض دوائر السلطة ويخيم على مناحي الحياة العامة، فساد لاهث وراء الثراءِ السهل السريع بأي طريق، تغذيه زبونية سياسية، بظل أوضاع اقتصادية صعبة، تميزها اللا مساواة الاقتصادية بين فئات المجتمع، وفشل سياسات التنمية الحكومية، وتذمر وإحباط عام يجتاح شرائح المجتمع الأردني، بإزاء تسيد ثقافة اجتماعية قبلية، عمادته  توظيف سلبي  للتضامن العشائري، والتعصب للقرابة، والمعرفة الشخصية، والمحسوبية، ومراعاة التقاليد الاجتماعية السلبية، التي باتت تشكل عبئاً على التنمية الشاملة، والتقدم الاجتماعي، فباتت مراسم مواكب الأفراح المخلة بشروط السلامة العامة، وتقاليد التعبيرِ عن الفرح المخلة بالأمن أهم من أرواح الأبرياء، وكرامة رجال الأمن، وهيبة الدولة، فضلاً عن مقاومة فرض القانون، وإعاقة القبض على المطلوبين.

الإرهاب قطعاً لا يعمل فقط بالرصاصة والقنبلة، ولكنه آخذ في الانتشار والتغلغلِ فكرياً في نفوس الكثيرين من المواطنين، واكتساب أنصار ومؤيدين يوماً بعد يوم. كما أن الإرهاب كحركة دولية متربصة ذات إمكانيات مالية وتقنية ذاتية ومدعومة مالياً وتقنياً من جهات دولية أيضا يوظف من يبث السموم الفكريةَ والمتفجرات العقدية، ويغرق بها عشرات الصفحات والحسابات الوهمية على  الشبكة العنكبوتية، وشبكات التواصل الاجتماعي، لترويج أفكاره، وشرعنة أساليب تحقيقها عملياً. هذا الإغراق وهذه الكثرة المتواترة من الرسائل الأيديولوجية من شأنها تطبيع أفكاره، وفرضها رأياً عاماً، مهما بلغت فظاعة أساليب تحقيقها، وبالتالي يهون على المجتمع ما يقترفه من جرائم إرهابية، يضرب بها بين الحين والآخر، هدفاً هنا وآخر هناك.

أصبح الإرهاب اليوم يتصرف كالنظم السلطوية في العالم التي تستغل وكالات أبحاث الانترنت المتخصصة في التلاعب بالرأي العام للدول المعادية أو المنافسة، ويؤثّر من خلالها على المزاج السياسي والانتخابي فيها، كما بات يدرك أهمية الشبكات الاجتماعية، ويتقن استخدامها كإعلام وبروباغاندا، ويحقق الإنجازات عبر رسائل إعلامية مسمومة تحريضية تجتر المقولات المتطرفة، وتعيد تدويرها، وبثها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، رسائل متهافتة المحتوى، شعبوية التكتيك، تُقولب الرأي العام، فتوقع في حبالها الكثير من الناس، بعضهم للأسف من المتعلمين والمؤثرين في مجتمعاتهم، لتغسل أفكارهم، فتهون عليهم خراب الديار، وهدم الانجازات، والاستهانة بالكرامة  والحرية وحق الحياة، وكثير من القيم السامية، لتغرس بدلاً منها مشاعر اليأس والبؤس، والنقمة على المجتمع، والتباغض، والتشكيك، وإدانة الناس، وإطلاق الأحكام جزافاً على سلوكياتهم وقناعاتهم، وصولاً الى حدود التكفير العقدي،  والتخوين الوطني. ولذلك، تبدو الكثير من المنشورات المؤلبة على المهرجانات الفنية والثقافية بوسمها بالفسق والفجور، ونحوها تكتفي اليوم بعبارات التعزية المجاملة البلاغية، دون التطرق إلى إدانة جوهرية للفعل الإجرامي من ناحية المبدأ، فالمنشورات هنا تبرر ضمناً الفعل الإرهابي بذاته، وتوحي بشرعيته.

إن المراقب للرسائل التي تبثّ على الشبكة سيجد فيها أيضاً من يشمت بالأجهزة الأمنية، ويقلل من شأن كفاءتها، إزاء ارتفاع أعداد الضحايا، ومزاعم سوء تجهيزها، ويسخر من شهداءها وتضحياتهم، ومن يحرض على الأجهزة والمؤسسات الأمنية الحكومية في ظل الظروف الصعبة التي تستوجب إبراز ورفع منسوب الشعور الوطني الجامع، وتعزيز تضامن المجتمع الأردني وتماسكه بوجه الإرهاب فكراً وناشطين، وممولين، وداعمين، واستشعار الصدمة التي خلّفها الحدث، وإدراك الخطر الوجودي الذي يمثله هذا الفعل الإجرامي على حاضر ومستقبل الوطن وأجياله. 

والمراقب أيضا سيجد من الرسائل الإرهابية، هجوماً يستهدفُ كل من يحاول مقاومةَ الإرهاب من أصحاب الفكر التنويري، والمثقفين والنخب الفكرية التي تحارب التطرف، والتشدد، وتقوم بالسخرية منهم، وتجريحهم أمام الناس، والتحريضِ عليهم، وتكفيرهم، وكتم أصواتهم، كي لا تصل إلى عقول كثير من الناس، فتزعزع إيمانهم بما غرسه الإرهاب في نفوسهم من بذور التشدد، وما أسسه وبناه عبر السنين في أذهانهم من جدران تمنع نور الحقيقة والاعتدال من الوصول إلى الزوايا المعتمة من فكرهم.

تستوجب العملية الإرهابية، التي أودت بحياة ضحايا أعزاء وخلفت وراءها الكثير من الجرحى والأضرار المادية والمعنوية، ضرورة إعادة النظر بإستراتيجية مكافحة الإرهاب الأردنية، وتكشف جوانب قصورها، وتسترعي ضرورة الاهتمام بتأثير شبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع والمنتديات الالكترونية، وضرورة مراقبتها، وتفعيل قانون الجرائم الالكترونية، وقانون مكافحة الإرهاب، لمنع استخدام هذه الشبكات في تداول وترويج للأفكارِ الظلامية والتعاطف مع الإرهابيين وجرائمهم، ولن تنجح  الجهود الحكومية لخلية الأزمة وغيرها وحدها في مكافحة التطرف والتشدد، الذي لا يجدي إنكار وجوده، وقوته وسعة انتشاره أفقياً وعامودياً على امتداد جغرافيا الوطن الأردني، وشرائح المجتمع فيه، بل لا بد من تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب سياسية وجمعيات ومنتديات، وأندية شبابية، ومدونين، وكتّاب، وفنانين، وأساتذة الجامعات والمثقفين ووزارات التربية والتعليم والأوقاف والداخلية، في تحمل المسؤولية الوطنية والتصرّفَ بشجاعة لتشخيص أمراض المجتمع الأردني، ومعالجة العيوب الثقافية المستشرية فيه، ومواجهة جريئة مع بعض محتكري الدين من منظري جماعات إسلامية متشددة، ورجال دين، وتفنيد طروحاتهم، ونقد عيوب فكرهم، وفضح مخططاتهم، دور تناقش خلية الأزمة سُبل تعزيزه، وضمه شريكاً رديفاً الى الجهود الوطنية الرسمية لمكافحة الإرهاب. 

ومن المهم كذلك الالتفات إلى أنه قد حان الوقت لمكافحة جادة وحاسمة لكافة أشكال الفساد السياسي والمالي، الجناح الثاني للإرهاب وصنوه، لسحب البساط من قوى الإرهاب، الذي يكسب التأييد الشعبي بحجة استشراء الفساد الحكومي، وتجديد النخب السياسية والثقافية، وتحجيم دور نخب الشد العكسي المعيقة بطبعها للتطوير والتغيير، والبحث في سُبل الحد من سطوة العادات القبلية، التي عملت كأغلال عدمية، حدت من تطور المجتمع وكبحت تحرر أفراده وقواه ومؤسساته المدنية، والأهم من ذلك كله، أنه  لا بد من تسهيل ودعم جهود الانعتاق من تراث الأحكام الدينية المقولبة الجاهزة، التي يتمترس وراءها الإرهاب، واستفاد ولازال منها في تحقيق مشاريعه واستراتيجياته، ولا بد من تمكين المجتمع الأردني من أن يلد من رحم معاناته جيلاً حراً لم تقولبه أفكار الأحزاب السلطوية، ولا يدين للاستبداد والديكتاتورية، وبالمثل لا تقولبه الطروحات السلفية المدمرة والمستوردة من الخارج، حيث باتت وبالاً على مجتمعاتها الأصلية التي صدرتها لنا، فراحت تلك المجتمعات مع حكوماتها تحاربها بكل شراسة سعياً وراء الخلاص، بينما لا يفعل الأردنيون الشيء نفسه.

بدون ذلك، ستتوالى الإحباطات وتعاد مآسي مسلسل الإرهاب الأحمق، وتزهق مجدداً الأرواح العزيزة على أهلها وذويها، وتسيل الدماء الكريمة، وتنهار بنايات وأحلام وذكريات أخرى.

*باحث سياسي أردني

مصدر الصور: هوية برس – تي.آر.تي عربية.