ربى يوسف شاهين*

المسرح السوري، ومنذ اندلاع أولى شراراته في بقع شتى، تصاعدت وتيرة الأحداث العسكرية والسياسية فيه بين راغب بالإبادة لمحور المقاومة، وآخر يرغب في تنفيذ الإملاءات الـ “صهيو- أمريكية”، وصولاً لأطماع بعض الحكام العرب، فلعل الكعكة السورية تكفي الجميع.

مفارقات عسكرية وسياسية كثيرة منيت بها سوريا من صانعي الحرب عليها، فكان الرد السوري في إعادة تشكيل الخارطة بما لا يشتهي المنفذون، حيث تسارعت وتيرة الأحداث الميدانية بعد سنة على اندلاعها، لتتحول إلى حلبة صراع دامية، اشتبكت فيها فرق كثيرة ضمت أكثر من 65 دولة؛ وإن كان وجودها ليس بعلني، ولكن مرتزقتها أضحوا ممثلاً لها على هذه الأرض، ليتطور المشهد بدخول الجانب الأمريكي، الذي كان ربان هذه المعركة في 2014، ليعود ويحتدم المشهد وتبدأ “المسرحية” التي كانت في ظاهرها مطالبات بالإصلاح، قبل أن تتوغل أيادي الأعداء كالداء في الجسد.

لكن الجيش العربي السوري لم يستكين وضحى بالغالي والنفيس، لتكون دماءهم قرابين لتحرير أرض سوريا من هذا الداء. فما شهدناه على مرور ثمان سنوات، كان من أقسى ما يمكن لبلد أن يخوضه من دمار وشتات وقتل وإبادة، غير أن الإرادة السورية أجبرت من كانوا على هذه الأرض أن يندحروا شيئاً فشيئا، لتتسارع وتيرة العملية السياسية التي اقتضتها المرحلة النهائية من الحرب، فتلك المعادلات التي وضعها “الشيطان” الأمريكي انقلبت عليه لتكون سوريا وحلفائها، روسيا وإيران، الجدار الذي امتص عنف الضربات، فكانت الحكمة السياسية للأطراف الحليفة كفيلة في إجهاض هذا العدوان، عبر التصعيد والتهدئة وفق متطلبات الحربين السياسية والعسكرية، لتتمكن من اللعب على كافة الجهات مع القوى المعادية.

إن الإنتصارات على شتى بقاع سوريا، وخصوصاً منطقتي الجنوب وحلب، كانت المفصل الذي مكّن الدفاعات على الأرض، أن تثمر انتصاراً سياسيًا بمفاعيل ستكون لها تداعيات ترهق أعداء سوريا.

إن سياسة إعادة التوازن الأمريكية، في الشمال السوري أو “شرقي الفرات” بالإضافة إلى سياسة “انتهاز الفرص” التي تبعتها تركيا بإحتلال أراض سورية كلما سنحت الفرصة كالدخول إلى جرابلس والباب وعفرين متذرعة بمخافة الأكراد السوريين، كانت تهدف إلى تحقيق نوع من التوازن بعد فشلها في تحقيق ذلك على الجهة الجنوبية بالرغم من وجود قاعدتها العسكرية في منطقة التنف، والتي شكلت بدورها إرهاباً لأهل منطقة السويداء والتي تم استهداف أهلها بـ “دواعشهم” الإرهابيين. غير أن الجيش العربي السوري استطاع دحرهم، لتستمر واشنطن بعدها بقصف الشمال الشرقي، فدمر الرقة بكاملها، واستمر الإجرام في دير الزور.

كل هذه التفصيلات في سياق الحرب، كانت مسماراً في نعش التدخل الأمريكي – الغربي السافر الذي جاء لدعم الإرهاب من أجل تدمير الدولة السورية، وإبعادها عن أي معادلة إقليمية.

لقد أصابت انتصارات الدولة السورية، وجيشها، كلاً من الأمريكي والتركي بهزات سياسية وعسكرية عنيفة، لتشكل السبب الأساس في قرار الإنسحاب الأمريكي؛ لكن هذا الإنتقال لم يذهب بعيداً، فالعراق وسوريا لهما حدوداً مشتركة، والرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أراد من قرار الإنسحاب هذا تغيير مواقع اللعبة، لتكون من العراق.

هذه الإرتجاجات السياسية أصابت تركيا بـ “نشوة” السيطرة على الشمال السوري والشمال الشرقي، بإعتبار أن الجانب الأمريكي قد رفع اليد عمن يقضون مضجع الرئيس رجب طيب أردوغان، أي الكرد السوريين بفصائلهم المتعددة، فطموحاته لم تدم طويلاً بهذه الخطوة الامريكية تلك. فمسألة أن تشن تركيا ضربات عسكرية على الكرد، بعد أن طلبت الأخيرة حماية الدولة السورية، بات أمراً مستبعداً مع وجود الحليفين القويين الروسي والإيراني اللذين استطاعا إشراك تركيا في اتفاق “أستانا”، ليجعلا الأخيرة تشعر بأنها لها دور وتأثير في الحل السياسي السوري، “فالطاووس يتباهى مختالاً”.

إن ما حدث للقوى المعادية هو نكبة بكل ما للكلمة من معنى، لأن نتائج التصادم العسكري والسياسي على ضفاف الفرات، ارتد على الأمريكي، فتموضع قواعده العسكرية على الأرض السورية لم تعوض خسارته بإنشائها.

إن تغيرات المشهد السياسي، وخصوصاً بعد الإجتماع الأخير بين وزراء الدفاع والخارجية لكل من روسيا وتركيا، قد رجحت كفة الميزان لصالح الكرد من المرجح أنه يقضي بتسليم الفاصل الكردية سلاحها إلى الدولة السورية مقابل وقف الهجمة التركية.

في المحصلة، هنا كنزاعات سياسية شتى لا بد من حدوثها فلكل مصالحه، وأبواب الحرب العسكرية وإن صدت في أغلب المناطق السورية، إلا أن الحرب السياسية ما تزال دائرة، والقادم من الأيام سيعري الفاعلين كافة، ولكن هذه المرة سيكون العري السياسي مدمر لكراسيهم، والأيام تشهد.

*كاتبة وإعلامية سورية

مصدر الصورة: سبوتنيك.