ليس “كورونا” سيئاً إلى هذا الحد، فأفعال الإنسان لا تزال أفظع بكثير. خطر الموت من جراء الفيروس لم يتجاوز الـ 2% من الأشخاص الذين أصابهم، بينما خطر الإنسان يطال كل المعمورة بما عليها ومن الأبعاد كافة. فإذا ما نظرنا إلى الأحداث العالمية بشكل موضوعي، يمكننا القول بأن هذا الوباء شكَّل نوعاً من سياسة “الصدمة” الطبيعية، لا الإستراتيجية هذه المرة، فتعدلت الكثير من توجهات الدول السياسية، لا سيما الكبرى منها، بحيث أنها إنكفأت إلى الداخل بدلاً من الإهتمام بالخارج.
أما على الصعيد الفردي، بدأ العالم بإعادة الإعتبار مجدداً إلى الخلية الأساسية في تكوين المجتمع ألا وهي “الأسرة”، لا سيما في الغرب الذي فقد الكثير من الشعور بالإنتماء لها، بحيث باتت العائلة “الملجأ” الذي يهرب الشخص إليه ويحتمي به وفيه، وزادت الروابط الأسرية متانة بين أفرادها بعد أن طغت عليها ضرورات العمل وتغيرات الحياة.
وعند الخروج إلى الدائرة الكبرى، لا شك بأن التكافل الإجتماعي قد زاد ضمن البيئة الواحدة، في الحي والشارع لا بل حتى في نفس المبنى وبين كل طبقاته. فرأينا الناس يخرجون إلى الشرفات، ويستمعون إلى الموسيقى، ويشاركون بعضهم بعضاً الرقص والغناء والحجْر. إن طبيعة المدن، لا سيما الكبيرة منها، تفتقد إلى الحياة الإجتماعية بالشكل الموسَّع، فالعديد من السكان لا يعرفون القاطنين في الشقة المجاورة لهم، فجاء هذا الوباء لكي يرمي حجرة في المياه الإجتماعية الراكدة.
بعد الأزمة، من الطبيعي أن يسعى الكل للتعرف إلى جاره الذي تفاعل معه عن بُعد ويذهب ليرى أحبة تواصل معهم إفتراضياً، وسينتظر اللحظة التي يُعلن فيها “فك الأسر” كي ينطلق إلى حياة جديدة لم يعش مثلها من قبل. كانت ذاكرته تختزن ما يرويه له الأهل والأجداد عن أوقات المحن والصعاب، لكن ذلك كله بقي في عالم الخيال. لم يكن يتوقع بأن ما أصاب بلاده قد أصاب بلاداً بعيدة عنه، أو يعيش القلق والرعب نفسه في ذات الوقت، كما يحدث اليوم، وباتت المصائب العالمية عاملاً جامعاً للشعوب في المصير المشترك.
إنها شريعة الحياة، فالإنسان مخلوق إجتماعي بالدرجة الأولى؛ وبالتالي، لن تنفع كل محاولات العزل التي تفرضها علينا سيرورة البقاء عبر الوسائل المتعددة خصوصاً التكنولوجيا، التي يُراد بها أن تحل مكان الأشخاص في يوم من الأيام لا أن تكون عاملاً مساعداً فقط. فلقد رأينا بأم العين مدى أهمية العنصر البشري في هذه الأزمة وعدم القدرة على الإستغناء عنه.
من هنا، أطرح عدة أسئلة: ماذا كان الحال بنا لو لم يكن هناك كادر علاجي بشري، من الطبيب إلى الممرض وصولاً إلى المسعف، يعرف الألم ويتفاعل مع الحدث من خلال الشعور الحسي بـ “الآخر”؟ ماذا لو كانت الآلات وحدها هي التي تتحكم بمصائرنا لا سيما وأن طبيعتها المادية تمنعها من أن تبقى معنا حتى النهاية لا بل قبلها بكثير؟ ستنتهي حياتنا عندما تقدِّم لنا كل الحلول المبرمجة فيها، لكنها بالطبع لا تعلم بأن للحياة أسرار لا يدركه ذكاءها الإصطناعي.
ومن ملامح الحياة في هذا الوباء تهديده للمسنين والمتعبين صحياً، الذي يشكلون الغالبية العظمى من المتوفين إلى حد الآن، وليس للأطفال أو صغار السن، وهو ما يعد ناحية إيجابية. لا نقول ذلك إستهتاراً أو عدم إكتراث بهم، فلكلٍّ منا له فيهم عزيز وحبيب. لكن الفكرة هي: ماذا لو كان الفيروس يستهدف الأطفال وصغار السن؟ ماذا لو تم القضاء على “بذور” المستقبل؟ بالطبع ستكون النتيجة كارثية.
على الصعيدين العسكري والسياسي، إستطاع الفيروس تهديد الجيوش وهز العروش. فلم تسلم منه أعتى آلات القتل على وجه الأرض، ومنها حاملة الطائرات الأمريكية “ثيودور روزفلت” إذ قام قائد سلاح البحرية الأمريكي توماس مودلي بتقدم إستقالته بعد أن تفشى الوباء ضمن صفوف طاقمها. كذلك، هز عرش “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس” في ولي عهدها، الأمير تشارلز، ورئيس وزرائها، بوريس جونسون. فشُلَّت المحركات وتعطلت السياسة.
لم تهزم الطبيعة يوماً، فقانونها هو من يفرض نفسه مهما طال الوقت. صبورة هي علينا لكن إنتقامها منا شديد. كل “إرتكابات” الإنسان بحقها سترد إليه أضعافاً مضاعفة وستخرج هي سليمة معافاة. في غضون شهر أو أكثر، إستطاع ما تبقى مساحات خضراء خفض نسب التلوث والإنبعاثات حول العالم بشكل لم تستطع “إتفاقية باريس للمناخ”، العام 2015، ولا “قمة الأرض”، العام 1992، أن تقوم به مجتمعة. على سبيل المثال، تراجعت مستويات التلوث في نيويورك بنحو 50% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، 2019، وإنحسرت الإنبعاثات في الصين بنسبة 25% في مطلع العام الحالي، 2020، وتحسنت جودة الهواء في 337 مدينة حول العالم بنسبة 11.4% مقارنة بنفس الفترة من العام 2019.(بي.بي.سي 5/4/2020). بالتالي، هذا يعني بأن نسبة ذوبان الجليد سوف تقل ما يعني التقليل من مسألة إرتفاع حرارة الأرض، ما سينعكس على مسألة كميات الأمطار وغيرها.
لا شك بأن هناك عملية ما لإعادة ترتيب هذا الكوكب لكن ليس من خلال حدوث المعجزات بل عبر العقل، “الشرع الأعلى”، المتسلح بالعلم. وهنا تستحضرني عبارة للمفكر والفيلسوف المصري الراحل، الدكتور مصطفى محمود، ويقول فيها “لو إنتشر فيروس قاتل في العالم، وأغلقت الدول حدودها وانعزلت خوفاً من الموت المتنقل، ستنقسم الأمم بالغالب إلى فئتين؛ فئة تمتلك أدوات المعرفة تعمل ليلاً ونهاراً لإكتشاف العلاج، والفئة الأخرى تنتظر مصيرها المحتوم. وقتها ستفهم المجتمعات أن العلم ليس أداة للترفيه بل وسيلة للنجاة.”
من هنا نقول بأن التغيير الكوني لن يقوم على الخوارق وإنما من خلال مواجهة الصعوبات بالعقل الذي خلقه الله في الإنسان وبدَّاه على التوكل. إنها فرصة لإختبار العقول في كل المجالات خصوصاً في مسألة إعادة صياغة العلاقات على كافة الصُعد بين الدول وفي المجتمعات. والأسئلة عديدة هنا، وأبرزها: لماذا لا يكون الوباء فرصة لإعادة التفكير في علاقات إستراتيجية محورها مصير البشرية المشترك؟ لماذا لا ننتقل من سياسات الإستعمار والإستغلال إلى إتفاقيات الشراكة والمشاركة؟ لماذا لا تتم إعادة تشكيل قواعد المجتمع على أساس الفرد لا الربح؟
لكن بالنظر إلى الحوادث التاريخية، يتبين بأن وراء كل أزمة عالمية كبيرة “مصيبة” جديدة، وذلك نتيجة “الأنا” المحيطة بعقلية “التاجر” المستعد لبيع كل شيء من أجل الربح بدون أية إعتبارات أخرى. فالخسائر التي تكبدتها الشركات العملاقة في هذه الفترة قد تكون الدافع إلى البحث عن سبُل كثيرة لتعويضها، ومنها الحرب. كيف ومتى وأين؟ ليس هناك من جواب محدد والسبب هو تغيير طبيعة ونمط الحروب.
ختاماً، إن الألم طبع من طباع التكوين نفسه. فكما ينظر إليه على أنه “حرق للذنوب” دينياً، كذلك هو سبب للتطور دنيوياً. ومن هنا، تبقى الحقيقة الخالصة بأن الحياة هي “روح” الدنيا التي لا تفارقها. قد يفني الإنسان نفسه، أما الحياة فباقية به أو بدونه.
*مؤسس ومدير مركز سيتا
مصدر الصور: سي.أن.أن عربية – فرانس 24.
موضوع ذا صلة: معاناة الشعوب تحت وطأة “كورونا”