تشكل ممارسات الإبادة الجماعية والحصار واستخدام المدنيين كأداة حرب انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني وتؤدي إلى مآلات كارثية على المدنيين المتضررين، كما يعتبر الحصار الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني على غزة وسيلة من وسائل الحرب التي تؤدي إلى تجويع السكان وتدمير البنية التحتية الحيوية، مما يعرض حياة المدنيين لخطر دائم ويزيد من معاناتهم، بالتالي إن استخدام المدنيين كأداة لتحقيق أهداف عسكرية يتعارض مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والقوانين الدولية التي تضمن حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، حيث يجب على المجتمع الدولي التحرك بحزم لضمان احترام القانون الدولي الإنساني ومنع وقوع هذه الانتهاكات الجسيمة، حيث أن استمرارها يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية ويزيد من معاناة الأبرياء في مناطق النزاع.

على سبيل المثال لا الحصر لأن جرائم الاحتلال الصهيوني لا تعد ولا تحصى، ففي الأول من أبريل 2024، قامت القوات الصهيونية بقصف ثلاث سيارات تابعة لمنظمة المطبخ المركزي العالمي، وهي منظمة إنسانية تقدم المساعدات الغذائية داخل قطاع غزة، وأسفر الهجوم عن مقتل سبعة من عمال الإغاثة، ولا ننسى أيضاً محاولة استهداف الوفد الطبي الكويتي كجريمة إضافية للكيان المجرم، فقد كانت المركبات، التي تعرضت للقصف على مسافة ميل ونصف من بعضها البعض، وتحمل بوضوح شعار المطبخ المركزي العالمي على أسطحها، ووفقاً لتصريح ضابط مدفعية صهيوني سابق في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست، أُصيبت المركبات بصاروخ “دقيق للغاية وله قوة اختراق كبيرة”، مما يشير إلى أن الضربات كانت متعمدة وموجهة بدقة.

ورغم أن المطبخ المركزي العالمي كان قد نسق تحركاته مسبقاً مع سلطات الاحتلال الصهيوني، إلا أن الهجوم وقع، مما أثار تساؤلات حول فعالية وآليات التنسيق المسبق بين المنظمات الإنسانية والقوات العسكرية في مناطق النزاع، وعقب الهجوم، علّق المطبخ المركزي العالمي عملياته في غزة، وأعاد السفن التي كانت تحمل المساعدات من قبرص، وتبعه في هذا القرار المنظمة الأمريكية لمساعدة اللاجئين في الشرق الأدنى (أنيرا)، وهي منظمة إنسانية أخرى تعمل في تقديم الغذاء والماء والدواء، بما في ذلك 150,000 وجبة يومياً، في غزة، حيث أوقفت عملياتها أيضاً بعد هذا الهجوم.

بالتالي، إن هذه الحادثة تسلط الضوء على التحديات الجسيمة التي تواجه المنظمات الإنسانية العاملة في مناطق النزاع، خاصة فيما يتعلق بضمان سلامة موظفيها والمستفيدين من خدماتها، حيث يتعين على الأطراف المتنازعة احترام القانون الدولي الإنساني الذي يحظر الهجمات على العاملين في المجال الإنساني والمنشآت المدنية، بالإضافة إلى ذلك إن استهداف العاملين في الإغاثة والمساعدات الإنسانية يعد انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي، ويعرّض حياة الأفراد الأبرياء للخطر ويعطل الجهود المبذولة للتخفيف من معاناة المدنيين.

وتجدر الإشارة إلى أن القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، ينص بوضوح على حماية المدنيين والممتلكات المدنية أثناء النزاعات المسلحة، ويلزم الأطراف المتنازعة باتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب أو تقليل الضرر العرضي للمدنيين والممتلكات المدنية، بالإضافة إلى ذلك، يحظر القانون استهداف الأعيان المدنية والعاملين في المجال الإنساني، ما لم يشاركوا بشكل مباشر في الأعمال العسكرية.

وفي الخلاصة القانونية المميزة في هذه المسألة تكمن في ضرورة التزام الأطراف المتنازعة بأحكام القانون الدولي الإنساني لتجنب وقوع مثل هذه الانتهاكات، حيث يجب على المجتمع الدولي تعزيز آليات المراقبة والمساءلة لضمان احترام هذه القوانين وحماية العاملين في المجال الإنساني من الاستهداف غير المبرر، لضمان استمرار تقديم المساعدات الإنسانية الضرورية في مناطق النزاع بدون تعريض حياة المدنيين والعاملين للخطر.

وفي موقف شجاع، استأنفت منظمة أنيرا عملياتها بعد أسبوع من التوقف، وأعلنت منظمة المطبخ العالمي استئناف عملياتها في 28 أبريل 2024، لكن لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها التي تستهدف فيها القوات الصهيونية عناصر مختلفة من نظام توزيع المساعدات الإنسانية، ففي 13 مارس 2024، تعرض مركز توزيع المساعدات في رفح، وهو أحد المراكز القليلة المتبقية التابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في غزة، لغارة جوية صهيونية أدت إلى تدميره، وقد أكد المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، أن السلطات الصهيونية كانت قد أُبلغت بإحداثيات المركز قبل يوم من الغارة.

بالتالي، تسلط هذه الأحداث الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه المنظمات الإنسانية العاملة في مناطق النزاع، خاصة في قطاع غزة، حيث يؤدي استهداف البنية التحتية للمساعدات الإنسانية إلى تعطيل الجهود المبذولة لتقديم الدعم الضروري للمدنيين، كما يتعين على الأطراف المتنازعة، بموجب القانون الدولي الإنساني، احترام وحماية العاملين في المجال الإنساني والمنشآت المدنية التي توفر الدعم الأساسي للمدنيين، بالإضافة إلى ذلك ينص القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، على وجوب اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتجنب الإضرار بالمدنيين والممتلكات المدنية أثناء النزاعات المسلحة.

بالتالي، إن استهداف مراكز توزيع المساعدات والعاملين في المجال الإنساني يشكل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني، الذي يحظر مثل هذه الهجمات ما لم يكن هناك مشاركة مباشرة في الأعمال العسكرية، من هنا، يجب على المجتمع الدولي تعزيز آليات المراقبة والمساءلة لضمان احترام هذه القوانين وحماية العاملين في المجال الإنساني من التعرض للاستهداف غير المبرر، إضافة إلى ذلك، يجب تطوير آليات تنسيق أكثر فعالية بين المنظمات الإنسانية والسلطات العسكرية لضمان سلامة العمليات الإنسانية وتجنب وقوع خسائر في الأرواح وتعطيل الخدمات الأساسية للمدنيين.

قانونياً، تكمن هذه المسألة في ضرورة الالتزام الصارم بأحكام القانون الدولي الإنساني لتفادي الانتهاكات التي تعرض حياة المدنيين والعاملين في المجال الإنساني للخطر، حيث يتطلب ذلك تعزيز التعاون الدولي لضمان توفير الحماية الكافية للمساعدات الإنسانية والحرص على استمرار تدفقها إلى المناطق المحتاجة بدون عوائق أو مخاطر تهدد سلامة العاملين والمستفيدين منها.

فمنذ صدور حكم محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة، قام الكيان الصهيوني بتقليص وصول شاحنات المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل كبير، ففي الشهر الذي تلا صدور الحكم، سمح الكيان الصهيوني بدخول 2784 شاحنة فقط إلى القطاع، وهو ما يمثل انخفاضاً بنسبة 44 في المائة مقارنة بالشهر السابق، ووصف تقرير صادر عن منظمة أوكسفام هذا السلوك بأنه “يعرقل بشكل فعال” تقديم المساعدات الإنسانية، مشيراً إلى أن هذا التقليص يفاقم الوضع الإنساني المتردي بالفعل في غزة.

بالتالي، إن القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية تتعارض مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، الذي يهدف إلى ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في مناطق النزاع دون عوائق، هذه القيود تتسبب في تفاقم معاناة السكان المدنيين في غزة، حيث يعتمد العديد منهم على المساعدات الدولية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، ووفقاً للقانون الدولي الإنساني، يجب على جميع الأطراف المتنازعة السماح بوصول المساعدات الإنسانية وضمان عدم عرقلة عمليات الإغاثة، إلا في حالات الضرورة العسكرية الملحة وبشكل مؤقت.

إضافة إلى ذلك، تؤكد العديد من المنظمات الإنسانية الدولية على أن القيود الصهيونية تؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، حيث تتسبب في نقص حاد في المواد الغذائية والإمدادات الطبية والوقود، هذه الظروف تؤدي إلى تدهور الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، مما يزيد من معاناة السكان، كما أن استمرار هذه السياسات يقوض الجهود الدولية الرامية إلى تقديم الدعم والمساعدة للمدنيين في غزة.

وتشير التقارير الدولية إلى أن تقييد دخول المساعدات الإنسانية ليس مجرد إجراء أمني، بل يعد وسيلة للضغط على السكان المدنيين، وهو ما يتنافى مع المبادئ الإنسانية والقانونية، كما أن المجتمع الدولي مدعو إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لضمان احترام القانون الدولي الإنساني ورفع القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، كما يتطلب ذلك ضغطاً دبلوماسياً شديداً المفروض على الكيان الصهيوني لضمان توفير ممرات آمنة ومستدامة لوصول المساعدات إلى المحتاجين دون عوائق.

أما في الرأي القانوني، يتضح أن التزام الأطراف المتنازعة بأحكام القانون الدولي الإنساني أمر ضروري لضمان حماية المدنيين وتقديم المساعدات الإنسانية دون عوائق، كما يجب تعزيز آليات الرقابة والمساءلة الدولية لضمان الامتثال لهذه الأحكام وحماية حقوق المدنيين في الحصول على المساعدات الضرورية، بالتالي، إن الفشل في ضمان وصول المساعدات الإنسانية يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي ويتطلب تدخلاً فعالاً من المجتمع الدولي لضمان العدالة والإنسانية في مناطق النزاع.

بالتالي، إن السياسة الصهيونية المتمثلة في منع مستمر لدخول الوقود إلى غزة أدت إلى تفاقم النقص الحاد في الغذاء والمياه، مما تسبب في إغلاق المخابز ومحطات تحلية المياه والآبار والمستشفيات وغيرها من المرافق الرئيسية الضرورية للبقاء على قيد الحياة، وبحلول 7 نوفمبر 2023، لم يكن أي مخبز في شمال غزة قادراً على العمل بسبب نقص الوقود والمياه والدقيق، فضلاً عن الأضرار الهيكلية الناجمة عن القصف، ولم تستأنف أربعة مخابز عملياتها في شمال غزة إلا في أبريل 2024، وذلك للمرة الأولى منذ 170 يوماً حيث كان لنقص الوقود والمياه تأثير مدمر أيضاً على الزراعة، حيث نفقت الماشية بسبب نقص الأعلاف والمياه، وأصبحت الحقول قاحلة بسبب نقص الوقود اللازم لضخ مياه الري.

أما بين 24 نوفمبر 2023 و21 أبريل 2024، سمح الكيان الصهيوني بدخول 12,340 طناً من الغاز المنزلي إلى غزة، بمتوسط يومي يبلغ حوالي 82 طناً، هذه الكمية أقل بكثير من المستوى اللازم للحفاظ على حياة الكفاف، وأقل بنسبة 68 بالمائة من المتوسط اليومي بين يناير وسبتمبر 2023، كما أن تأثير نقص الوقود كان خطيراً بشكل خاص في شمال غزة، حيث اضطرت الأسر إلى الاعتماد على بدائل وقود باهظة الثمن وغير آمنة مثل حرق الحطب والفحم والبلاستيك والمواد الكيميائية، مما يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي، بالتالي، إن تأثير الحصار على الفلسطينيين كان كارثياً، حيث أعلن برنامج الأغذية العالمي في مارس 2024 أن الفلسطينيين في غزة “يتضورون جوعًا حتى الموت”، وأن نصف سكان غزة يعانون من “جوع كارثي”، مما يؤدي إلى أعلى مستويات الجوع المسجلة على الإطلاق في التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) التابع لبرنامج الأغذية العالمي.

ووفقاً لمنظمة اليونيسيف، يعاني طفل واحد من كل ثلاثة أطفال دون سن الثانية في غزة من سوء التغذية الحاد، محطة تحلية المياه الوحيدة في شمال غزة لا تعمل، ووفقاً لمنسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فإن النقص الحاد في المياه النظيفة والآمنة وتعطل أنظمة الصرف الصحي يتسببان في الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه ويؤديان إلى أمراض خطيرة، فقد أفادت منظمة أطباء بلا حدود في فبراير 2024 أن حوالي 0.63 لتراً فقط من المياه النظيفة متاحة للشخص الواحد يومياً للفلسطينيين في غزة، وهو أقل بكثير من “عتبة البقاء” التي حددها برنامج الأغذية العالمي والتي تبلغ ثلاثة لترات.

أما التداعيات القانونية لهذه الأوضاع الكارثية فهي تنبثق من مبادئ القانون الدولي الإنساني، والتي تتطلب من الأطراف المتنازعة توفير الوصول الكامل وغير المشروط للمساعدات الإنسانية، بالتالي، إن منع الوقود والمساعدات الأساسية يتناقض بشكل صارخ مع التزامات القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، التي تحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب وتلزم بتوفير الظروف المعيشية الضرورية.

من هنا وكما أشرنا ونكرر آنفاً وفي كل مرة، يجب على المجتمع الدولي ممارسة ضغط فعال لضمان امتثال الكيان الصهيوني لالتزاماته القانونية الدولية وتيسير وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، حيث أن تحسين الظروف المعيشية في غزة يتطلب تعاوناً دولياً وإجراءات فورية لمعالجة الأزمات الإنسانية المتفاقمة، كما أن تعزيز آليات المراقبة والمساءلة الدولية ضروري لضمان الامتثال للقانون الدولي الإنساني وحماية حقوق المدنيين في تلقي المساعدات الأساسية، مما يسهم في تخفيف المعاناة الإنسانية وتحقيق العدالة في مناطق النزاع.

في الختام، يتجلى دور القانونيين في تجريم الممارسات الصهيونية ضد المدنيين من خلال الاستفادة من الأدوات القانونية الدولية المتاحة، حيث يجب على القانونيين العمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني بدقة، وتقديم الأدلة إلى المحاكم الدولية مثل محكمة الجنايات الدولية، كما يمكنهم استخدام اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها، بالإضافة إلى قرارات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية المتعلقة بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، لتشكيل أساس قانوني قوي لمساءلة المسؤولين عن هذه الجرائم.

بالتالي، إن تقديم الدعاوى القانونية والعمل على تعزيز الوعي الدولي حول هذه الانتهاكات يمكن أن يساهم في وضع حد للإفلات من العقاب، ويضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات ملموسة لحماية المدنيين، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقانونيين التعاون مع منظمات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية لتعزيز جهود الرصد والتوثيق والدفاع عن حقوق المدنيين المتضررين.

أما بالنسبة إلى دور القانونيين لا يقتصر على المحاكم، بل يشمل أيضاً المشاركة في الجهود الدبلوماسية والتشريعية لتعزيز القوانين واللوائح التي تحمي المدنيين في النزاعات المسلحة، ومن خلال هذه الجهود المتكاملة، يمكن للقانونيين أن يسهموا بفعالية في تحقيق العدالة ومنع تكرار مثل هذه الانتهاكات في المستقبل، وضمان تقديم الجناة إلى العدالة وتعزيز السلام والأمن الدوليين.

مصدر الصور: أرشيف سيتا – إزفستيا.

إقرأ أيضاً: الأبعاد القانونية للإبادة الجماعية في غزة

عبد العزيز بدر عبد الله القطان

مستشار قانوني – الكويت