يشكل احترام القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان حجر الزاوية في حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، يتمثل ذلك في سلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تهدف إلى حماية الأفراد من الانتهاكات الجسيمة والجرائم الفظيعة، تشمل هذه القوانين اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، التي تنص بوضوح على ضرورة حماية المدنيين والممتلكات المدنية أثناء النزاعات المسلحة، وتحظر أي هجمات تستهدف البنية التحتية المدنية أو تسبب معاناة غير مبررة.
وتنص المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه “يحظر على أي طرف محتل تدمير الممتلكات الشخصية أو الجماعية في الأراضي المحتلة، إلا إذا كانت العمليات العسكرية تستدعي ذلك بصورة مطلقة”.
كما تندرج أعمال الكيان الصهيوني في غزة، بما في ذلك تدمير الممتلكات الثقافية والدينية، تحت إطار انتهاكات هذه المواد القانونية، فقد أكدت محكمة العدل الدولية أن الهجمات المنهجية على الممتلكات الثقافية والدينية يمكن أن تشكل دليلًا على نية الإبادة الجماعية، وتنص المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة على ضرورة حماية الأشخاص في أي وقت، من المعاملة المهينة، بما في ذلك احترام كرامتهم حتى بعد وفاتهم، وفي هذا السياق، تعتبر ممارسات الكيان الصهيوني في تدنيس الجثث وإنشاء المقابر الجماعية في غزة خرقاً صارخاً لهذه المبادئ القانونية الدولية، كما أن تدمير القبور واستخدام مواقعها لأغراض عسكرية يُعد انتهاكاً واضحاً لاتفاقيات جنيف التي تحظر مثل هذه الأفعال وتؤكد على وجوب حماية الجثث وضمان دفنها بطريقة لائقة.
أضف إلى ذلك، فإن استخدام أسلحة تهدف إلى إحداث أضرار جسيمة ووفيات واسعة النطاق يتنافى مع مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، وهو أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي الإنساني، إذ أن أنواع الأسلحة المستخدمة في الهجمات يمكن أن تشير إلى نية الإبادة الجماعية، وهو ما يتجلى في استخدام الكيان الصهيوني لقنابل غير موجهة والفسفور الأبيض في المناطق المدنية.
استهدف الكيان الصهيوني ممتلكات الفلسطينيين في غزة بشكل منهجي وواسع النطاق، حيث قررت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضيتي كاييشيما وروزيندانا أن نية الإبادة الجماعية يمكن استنتاجها من “الاستهداف المادي للمجموعة أو ممتلكاتها”، فقد دمر كيان الاحتلال الصهيوني ما لا يقل عن 60 إلى 70 في المائة من منازل الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك ما يصل إلى 84 في المائة من منازل شمال غزة، بالإضافة إلى ذلك، دمر الكيان مئات المباني، بما في ذلك أحياء سكنية بأكملها، ومساجد، وحرم جامعي، ومدارس تابعة للأمم المتحدة، ومنتجع، كما تُظهر منشورات الجنود الصهاينة في غزة على وسائل التواصل الاجتماعي قيام القوات الصهيونية بتدمير ممتلكات المدنيين الفلسطينيين، وتخريب المتاجر، وجرف الأحياء المدنية، بينما تحتفل وتستخدم لغة مهينة وعنصرية تجاه الفلسطينيين.
بالتالي، إن استهداف الممتلكات المدنية الفلسطينية في غزة من قبل الكيان الصهيوني يشكل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف التي تحظر الهجمات على الأعيان المدنية وتفرض على الأطراف المتنازعة اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين، كما يعد التدمير الواسع النطاق للممتلكات غير المبرر بالضرورة العسكرية جريمة حرب وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وقد تم توثيق استخدام الكيان الصهيوني للقوة المفرطة وعدم التمييز في الهجمات العسكرية، مما أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية المدنية وسقوط العديد من الضحايا بين المدنيين.
وفي سياق هذه الأعمال، تعتبر قرارات المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضيتي كاييشيما وروزيندانا ذات أهمية خاصة، حيث تؤكد على أن الاستهداف المادي لممتلكات مجموعة معينة يمكن أن يكون دليلاً على نية الإبادة الجماعية، هذا السياق القانوني يعزز من فهم الطبيعة الجرمية لأفعال الكيان الصهيوني في غزة، ويضعها في إطار أوسع من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الأدلة المستمدة من منشورات الجنود الصهاينة على وسائل التواصل الاجتماعي نمطاً من السلوكيات التي تتسم بالتخريب والاحتفال بتدمير الممتلكات المدنية، وهو ما يعكس تجاهلاً صارخاً للقيم الإنسانية والقانونية، كما أن استخدام اللغة المهينة والعنصرية تجاه الفلسطينيين يعكس تمييزاً ممنهجاً يعمق من جراح النزاع ويزيد من تعقيد جهود السلام والمصالحة، بالتالي، إن المجتمع الدولي، بما في ذلك المنظمات الحقوقية والمحاكم الدولية، مطالب بالتحقيق في هذه الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها، حيث لا يمكن تحقيق العدالة والسلام في المنطقة دون معالجة هذه الجرائم وتقديم الجناة إلى العدالة، وإن الالتزام بالقانون الدولي واحترام حقوق الإنسان يجب أن يكونا في صميم أي جهود تهدف إلى حل النزاع وتحقيق الاستقرار في غزة والمنطقة بأسرها.
كما رأت محكمة العدل الدولية أن الهجمات المنهجية على الممتلكات الثقافية والدينية قد تكون أيضاً دليلاً على النية، فقد ألحق الكيان الصهيوني الضرر أو دمرت التراث الثقافي الفلسطيني والمواقع الدينية الرئيسية، كما دمر البنية التحتية المدنية الأخرى وقتل وجرح وشرد الفلسطينيين بشكل جماعي، بالتالي إن استخدام إسرائيل للأسلحة التي تهدف إلى إحداث أضرار جسيمة ووفيات واسعة النطاق يشير أيضاً إلى نية الإبادة الجماعية، وفقاً للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا كما في قضيتي كاييشيما وروزيندانا.
بالإضافة إلى ذلك، تشير أنواع الأسلحة التي يستخدمها الكيان الصهيوني إلى نية التدمير المنهجي للفلسطينيين وممتلكاتهم، إذ أن ما يقرب من 50 بالمائة من القنابل التي أسقطها كيان الاحتلال على غزة كانت “قنابل غبية” غير موجهة، وهي أقل دقة ويمكن أن تشكل تهديداً أكبر للمدنيين، خاصة في منطقة مكتظة بالسكان مثل غزة، بالإضافة إلى ذلك، استخدم الكيان الإرهابي الفسفور الأبيض، الذي يحترق عند درجة حرارة تزيد عن 800 درجة مئوية، ويسبب حروقاً شديدة وعميقة في اللحم، في قطاع غزة المكتظ بالسكان، كما أسقط مئات القنابل التي تزن 2000 رطل، وهذه الأسلحة قادرة على قتل وجرح الأشخاص على بعد أكثر من 1000 قدم من موقع الارتطام.
بالتالي، إن الهجمات المنهجية التي تستهدف التراث الثقافي والمواقع الدينية والبنية التحتية المدنية تعزز الفهم القانوني لنية الإبادة الجماعية، كما أن تدمير التراث الثقافي يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح، وإن استهداف المواقع الدينية بشكل ممنهج يشير إلى محاولات لطمس هوية وثقافة الشعب الفلسطيني، وهو ما يعد انتهاكاً للقوانين الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الدينية، فالاستخدام المتعمد للأسلحة ذات الأثر الواسع والمدمر في المناطق المأهولة بالسكان المدنيين يعتبر انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، ويشمل ذلك بروتوكولات جنيف واتفاقياتها، التي تحظر الهجمات التي لا تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية وتلك التي تسبب معاناة غير ضرورية، كما أن استخدام الفسفور الأبيض في المناطق المدنية يعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي، حيث أن تأثيراته المدمرة تتجاوز حدود المعقول وتسبب معاناة كبيرة للمدنيين.
وتتطلب هذه الانتهاكات تحقيقات دولية ومحاسبة المسؤولين عنها. إن المجتمع الدولي، بما في ذلك المحاكم الجنائية الدولية والمنظمات الحقوقية، مطالب باتخاذ خطوات فعالة لضمان العدالة، إن حماية المدنيين في مناطق النزاع واحترام القانون الدولي هما أساس تحقيق السلام والاستقرار، في هذا السياق، يجب على الدول والمنظمات الدولية تعزيز الجهود الرامية إلى فرض العقوبات وتقديم الجناة إلى العدالة لمنع تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل، لذا من الضروري أن يتعاون المجتمع الدولي لتوفير الدعم اللازم لإعادة بناء ما دمرته الحرب وتعويض الضحايا، حيث يجب أن تشمل هذه الجهود تقديم المساعدة الإنسانية، ودعم إعادة الإعمار، وتعزيز حقوق الإنسان، وتحقيق هذه الأهداف يتطلب التزاماً مشتركاً من جميع الأطراف المعنية لضمان مستقبل أفضل وأكثر استقراراً للمنطقة بأسرها.
كما دنس كيان الاحتلال الصهيوني جثث الفلسطينيين وأنشأ مقابر جماعية في غزة، وكما هو الحال في قضية كرستيتش، حيث رأت الدائرة الابتدائية أن إنشاء المقابر الجماعية، والتشويه الجسدي، واستخراج الجثث ونقل المقابر الجماعية كان مؤشراً على نية الإبادة الجماعية، فقد دنست القوات الصهيونية ما لا يقل عن ستة عشر مقبرة في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بالإضافة إلى إزالة بعض الجثث وترك البعض الآخر عرضة للعوامل الجوية، وفي حالات مثل مقبرة بني سهيلا، قام الجيش الصهيوني بتجريف واستخدام مواقع المقابر كمنطقة انطلاق عسكرية، وقد توصلت التحقيقات إلى أن قوات الاحتلال “استهدفت غالبية المقابر في قطاع غزة” بما فيها الفلوجة؛ علي بن مروان؛ الشيخ رضوان؛ الشهداء؛ الشيخ شعبان؛ كنيسة القديس برفيريوس ومقابر الشهداء.
وفي أبريل 2024، تم اكتشاف مقابر جماعية متعددة في غزة في مستشفى ناصر في خان يونس وفي مستشفى الشفاء في مدينة غزة، وعثر في هذه المقابر الجماعية على مئات الجثث لكبار السن والنساء والجرحى الفلسطينيين، وكان بعضهم مقيدين الأيدي ومجردين من ملابسهم، بالتالي، تشكل هذه الأعمال انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان التي تحظر المعاملة غير الإنسانية وتشويه الجثث، كما أن الدوس على كرامة الموتى واستهداف المقابر يعدان انتهاكاً لمبادئ القانون الدولي التي تحمي كرامة الإنسان حتى بعد وفاته، وتدمير المقابر الجماعية وتدنيس الجثث يرتقي إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية كما هو معرف في القانون الدولي. هذه الأفعال تتناقض مع اتفاقيات جنيف التي تفرض على الأطراف المتنازعة احترام الجثث وضمان دفنها بشكل لائق.
إضافة إلى ذلك، فإن إنشاء المقابر الجماعية يعكس نمطاً منهجياً من الانتهاكات التي تهدف إلى إخفاء الأدلة على الجرائم المرتكبة ولتقليل القدرة على محاسبة المسؤولين عنها، كما أن استخدام مواقع المقابر كمناطق عسكرية يعد تعدياً صارخاً على حرمة الموتى ومشاعر ذويهم، وهو ما يعزز من فظاعة هذه الجرائم، وإن اكتشاف المقابر الجماعية في مستشفى ناصر ومستشفى الشفاء يؤكد على أن هذه الانتهاكات ليست حوادث منعزلة، بل هي جزء من سياسة أوسع تهدف إلى إرهاب السكان وتدمير البنية الاجتماعية والثقافية للفلسطينيين في غزة، كما أن وجود مئات الجثث، بما في ذلك كبار السن والنساء والجرحى، في هذه المقابر الجماعية، وبعضهم كان مقيد الأيدي ومجرداً من ملابسه، يدل على الاستخدام المنهجي للعنف والإرهاب ضد السكان المدنيين، وبالطبع هذا يتطلب تحقيقات دولية شاملة لتوثيق هذه الجرائم ومحاسبة المسؤولين عنها، كما أن المنظمات الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، مطالبة باتخاذ إجراءات قانونية حازمة لضمان عدم إفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب، كما يجب على المجتمع الدولي تقديم الدعم للضحايا وأسرهم وضمان عدم تكرار مثل هذه الفظائع في المستقبل.
في هذا السياق، تعتبر الإجراءات القانونية الدولية ضرورية لفرض العدالة وحماية حقوق الإنسان في غزة، يجب أن تكون هناك جهود مشتركة من قبل الدول والمنظمات الدولية لضمان محاسبة المسؤولين وتقديمهم للعدالة، ولتقديم الدعم الإنساني والتعويضات للضحايا، تحقيق هذه الأهداف يتطلب التزاماً قوياً من المجتمع الدولي بالمعايير القانونية والإنسانية الدولية، والعمل على تعزيز سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
في الختام، تقتضي حالة غزة تفعيل مواد القانون الدولي لضمان حماية المدنيين وتحقيق العدالة. يجب أن يتحرك المجتمع الدولي وفقاً لأحكام اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، وخاصة المواد المتعلقة بحماية المدنيين والممتلكات المدنية، مثل المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تدمير الممتلكات الشخصية أو الجماعية إلا إذا كانت العمليات العسكرية تقتضي ذلك بصورة مطلقة، كما يجب تطبيق المادة 27 من نفس الاتفاقية التي تؤكد على حماية الأشخاص من المعاملة المهينة وضمان كرامتهم حتى بعد وفاتهم.
وتتطلب هذه الانتهاكات تحقيقات دولية شاملة من قبل المحكمة الجنائية الدولية لضمان محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين في غزة، يجب أن يشمل ذلك تفعيل المادة 8 من نظام روما الأساسي التي تجرم جرائم الحرب، بما في ذلك الهجمات العشوائية على المدنيين واستخدام الأسلحة المحرمة، إضافة إلى ذلك، يجب تعزيز جهود إعادة الإعمار وتقديم الدعم الإنساني للضحايا بما يتوافق مع مبادئ القانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
فالالتزام بهذه المعايير القانونية الدولية سيشكل خطوة أساسية نحو تحقيق العدالة وضمان عدم تكرار هذه الفظائع في المستقبل، مما يعزز من فرص السلام والاستقرار في المنطقة.
مصدر الصور: أرشيف سيتا.
إقرأ أيضاً: تدمير التراث في غزة.. أطر قانونية ومسؤوليات دولية
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
مستشار قانوني – الكويت