تعتبر الإبادة الجماعية واحدة من أخطر الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي، وتتطلب إجراءات صارمة من قبل المجتمع الدولي لمنعها ومعاقبة مرتكبيها، إن الهجمات المنهجية والمتكررة التي شنتها الحكومة الصهيونية على المدنيين الفلسطينيين في غزة، والتي تضمنت تدمير المؤسسات التعليمية والثقافية والبنية التحتية المدنية، تقدم دليلاً واضحاً على نية الإبادة الجماعية، تستند هذه النية إلى تصريحات علنية من مسؤولين “إسرائيليين” وتصرفات ميدانية تستهدف القضاء على الهوية الثقافية والتاريخية للشعب الفلسطيني، مما يستدعي فحصاً دقيقاً وتحركاً عاجلاً بموجب القوانين الدولية المعنية.
ووفقاً لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، تُعرف الإبادة الجماعية بأنها “الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية”، في هذا السياق، تشمل الأدلة المؤشرات الظرفية والتصريحات العلنية التي تعكس نية تدمير هذه الجماعات، على سبيل المثال، أدانت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضية “أكاماسو ضد المدعي العام” استخدام الخطاب التحريضي كدليل على نية الإبادة الجماعية، وبالمثل، أقرّت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية “بروتوكول بوسنيك” بأن التصريحات العلنية والأنشطة العسكرية الموجهة ضد جماعة معينة يمكن أن تكون دليلاً قاطعاً على نية الإبادة.
كما تشمل الأدلة على نية الحكومة الإسرائيلية للإبادة الجماعية في غزة تصريحات متعددة من مسؤولين “إسرائيليين”، بما في ذلك رئيس الوزراء، تعبر عن نية واضحة لتدمير حياة الفلسطينيين، بالتالي، إن تدمير البنية التحتية الحيوية، مثل المدارس والمستشفيات والمراكز الثقافية، يعزز من الأدلة على نية القضاء على الهوية الثقافية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وهو ما يتطلب اهتماماً خاصاً من المجتمع الدولي، وذلك تماشياً مع المبادئ المنصوص عليها في اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، واتفاقية حقوق الطفل، والعديد من المعاهدات الدولية الأخرى، حيث يتوجب على الدول الأعضاء اتخاذ تدابير فعالة لحماية المدنيين الفلسطينيين وضمان محاسبة مرتكبي هذه الجرائم.
بالتالي، إن الأدلة على نية الإبادة الجماعية في غزة ليست مجرد تخمينات أو افتراضات، بل تتجسد في تصريحات وأفعال واضحة وصريحة، هذه الإجراءات تستوجب تحركاً عاجلاً من قبل المجتمع الدولي لضمان العدالة للضحايا ومنع تكرار مثل هذه الجرائم الفظيعة. يجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، والمنظمات الدولية الأخرى، تحمل مسؤولياتها واتخاذ الإجراءات المناسبة وفقاً للقانون الدولي لضمان حماية حقوق الإنسان ومنع الإبادة الجماعية في أي مكان في العالم.
من هنا، تشهد غزة تدهوراً كبيراً في نظامها التعليمي بسبب الهجمات المنهجية التي يشنها الكيان الصهيوني، وقد أكد خبراء مستقلون في مجال حقوق الإنسان التابعون للأمم المتحدة في أبريل/نيسان 2024 أن 80 بالمئة من مدارس غزة تعرضت لأضرار أو دمرت، وبحلول أوائل فبراير/شباط 2024، قام الكيان الصهيوني بتدمير 390 مدرسة، منها 140 تعرضت لأضرار جسيمة أو دمرت بالكامل، كانت هذه المدارس تخدم حوالي 433 ألف طفل، ويعمل بها أكثر من 16200 معلم، ومن بين المباني المدرسية المتضررة، تم تدمير 65 مدرسة تابعة للأونروا بشكل كلي أو جزئي، وتعمل ما لا يقل عن 133 مدرسة كملاجئ للفلسطينيين النازحين داخلياً، وإجمالاً، تأثر أكثر من 625,000 طالب وما يقرب من 23,000 معلم في غزة جراء الهجمات الصهيونية على النظام التعليمي وإغلاق المدارس المرتبطة بها حتى أوائل مارس/آذار 2024.
كما أن الهجمات الصهيونية على النظام التعليمي في غزة تشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ تنص المادة 50 من اتفاقية جنيف الرابعة على ضرورة حماية المؤسسات المخصصة للأطفال، بما في ذلك المدارس، كما أن المادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تؤكد على حق كل فرد في التعليم، الذي يجب أن يكون متاحاً وميسراً للجميع دون تمييز، وتعتبر الهجمات على المدارس والبنية التحتية التعليمية خرقاً لمبادئ هذه المعاهدات والمواثيق الدولية.
بالإضافة إلى ذلك، تُعَدُّ الهجمات على المؤسسات التعليمية انتهاكاً لاتفاقية حقوق الطفل، التي تُلزِم الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير المناسبة لضمان حماية الأطفال من جميع أشكال العنف، ومن المهم الإشارة إلى أن المدارس تعد ملاذاً آمناً للأطفال، وأي هجوم عليها يعرض حياة الأطفال للخطر ويعوق فرصتهم في الحصول على تعليم جيد، وفي هذا الإطار حذر المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني من أن الضرر المنهجي الذي يلحق بنظام التعليم في غزة سيؤدي إلى “جيل ضائع” من شباب غزة.
قانونياً، يعد استهداف النظام التعليمي في غزة جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يجرّم عمداً توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض التعليمية، حيث يتطلب الوضع الحالي في غزة تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولي لضمان حماية حقوق الأطفال في التعليم والعمل على إعادة بناء البنية التحتية التعليمية، كما من الضروري أن تُحمَّل “إسرائيل” المسؤولية الكاملة عن هذه الانتهاكات وأن يُتخذ ما يلزم من إجراءات لمنع تكرارها وضمان تعويض المتضررين.
بالإضافة إلى ذلك، تشكل الهجمات الصهيونية على جميع مستويات النظام التعليمي في غزة انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان والقانون الدولي، فقد دمر الكيان الصهيوني كل جامعة في غزة، بما في ذلك جامعة الإسراء التي فجرت في 17 يناير/كانون الثاني 2024، حيث أظهرت مقاطع الفيديو التي سجلتها القوات الصهيونية تدمير الجامعة بتفجير محكم للمتفجرات، حيث استخدم الجيش الصهيوني المبنى لمدة 70 يوماً كقاعدة عسكرية ومنشأة احتجاز لاستجواب المعتقلين الفلسطينيين، وقد أثارت هذه الأعمال إدانة واسعة من المجتمع الأكاديمي، حيث أدان أكثر من 1600 أكاديمي في أمريكا الشمالية الكيان الصهيوني بتهمة “القتل المدرسي” من خلال تدمير البنية التحتية التعليمية ومنع الوصول إلى التعليم، بالإضافة إلى القتل المتعمد والعشوائي للمعلمين والطلاب.
وضمن هذا الإطار، أفاد خبراء الأمم المتحدة أن الهجمات الصهيونية أدت إلى استشهاد أكثر من 5800 طالب ومعلم وإصابة أكثر من 8575 شخصاً بحلول 18 أبريل/نيسان 2024، كما قتلت القوات الصهيونية عشرات الفلسطينيين النازحين الذين لجأوا إلى المدارس، بما في ذلك 15 شخصاً على الأقل في مدرسة الفاخورة التابعة للأونروا و25 شخصاً في مدرسة البراق.
تراث غزة الثقافي
تشكل الهجمات الصهيونية أيضاً على التراث الثقافي في غزة انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية التي تحمي الممتلكات الثقافية، حيث دمر الكيان الصهيوني أو ألحقَ أضراراً جسيمة بالبنية التحتية المدنية الرئيسية اللازمة لصيانة الحياة المدنية والتعليمية والثقافية في غزة، بما في ذلك 195 موقعاً تراثياً، ومن بين هذه المواقع قصر العدل، مركز نظام المحاكم الفلسطينية في غزة، والمكتبة العامة الرئيسية في مدينة غزة، ومبنى الأرشيف المركزي في مدينة غزة الذي يضم مجموعة كبيرة من الوثائق التاريخية، كذلك، شملت الأضرار كافة جامعات غزة والعديد من المراكز الثقافية والمتاحف، مثل متحف رفح الذي أمضى ثلاثين عاماً في تنسيق القطع الأثرية القديمة، و227 مسجداً منها المسجد العمري الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس، وثلاث كنائس منها كنيسة القديس برفيريوس، ثالث أقدم كنيسة في العالم.
وحتى 10 أبريل 2024، تحققت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) من الأضرار التي لحقت بـ 43 ملكية ثقافية تراثية ذات أهمية تاريخية أو دينية أو فنية منذ 7 أكتوبر، بالتالي، إن استهداف الممتلكات الثقافية يعيق قدرة الفلسطينيين على المحافظة على ثقافتهم وذاكرتهم التاريخية وهويتهم، إذ تشكل هذه الهجمات انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، والتي تنص على وجوب حماية الممتلكات الثقافية وعدم استخدامها لأغراض عسكرية، كما تنص المادة 53 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف على حظر أي أعمال عدائية موجهة ضد الأعيان الثقافية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي والروحي للشعوب.
بالإضافة إلى ذلك، يعد تدمير الممتلكات الثقافية انتهاكاً لمبادئ اتفاقية اليونسكو بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي لعام 2003، والتي تهدف إلى حماية التراث الثقافي والمعنوي للمجتمعات المحلية والشعوب، كما يعوق تدمير المواقع الثقافية قدرة الفلسطينيين على ممارسة ثقافتهم وتقاليدهم، مما يشكل تهديداً لهويتهم الوطنية.
نية الإبادة
تتجلى نية الحكومة الصهيونية للإبادة الجماعية من خلال تصريحاتها وأفعالها الموثقة، هذه التصريحات والأفعال، المتجسدة في “أنماط الأفعال الهادفة”، ترفع سلوك الكيان الصهيوني من مستوى جرائم حرب فردية وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان إلى الإبادة الجماعية، التي تعتبر “جريمة الجرائم”. الحقائق التالية، التي تم تنظيمها من خلال التعبيرات الصريحة للمسؤولين “الإسرائيليين” وتحليل الأعمال العدائية “الإسرائيلية” في غزة، تقدم دليلاً واضحاً على نية الكيان الصهيوني للإبادة الجماعية في غزة.
كما تظهر السوابق القضائية المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية أن الاستنتاجات المتعلقة بالنية غالباً ما تستخلص من الأدلة الظرفية في غياب تعبيرات صريحة عن نية الإبادة الجماعية، إذ إن الأدلة الصريحة نادرة وغير شائعة، ومع ذلك، في هذه الحالة، أدلى المسؤولون “الإسرائيليون”، بمن فيهم رئيس الوزراء، بتصريحات تعبر بشكل صريح عن التجريد الصارخ والقاطع من الإنسانية والقسوة ضد الفلسطينيين في غزة وأماكن أخرى، وتعكس نوايا تدمير وإبادة الفلسطينيين بصفتهم هذه.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، أصدر مسؤولون رفيعو المستوى، مثل “رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو”، بيانات عامة تصف نيتهم تدمير حياة الفلسطينيين، كما استخدم القادة “الإسرائيليون” مراراً وتكراراً خطاباً وصوراً تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، مما يبرز نية الإبادة الجماعية بوضوح.
ونتيجة لذلك، لقد دق العديد من الخبراء ناقوس الخطر بشأن خطورة الخطاب الذي يستخدمه المسؤولون “الإسرائيليون”، على سبيل المثال: أشار المفوض العام للأونروا إلى أن خطورة الوضع في غزة “تتفاقم بسبب اللغة اللاإنسانية”، كما حذرت لجنة القضاء على التمييز العنصري من “خطاب الكراهية العنصري والتجريد من الإنسانية الموجه ضد الفلسطينيين”، ووصف مجموعة من 37 مقرراً خاصاً وخبراء آخرين من الأمم المتحدة الخطاب “الإسرائيلي” بأنه “إبادة جماعية وتجريد من الإنسانية بشكل واضح”.
بالتالي، في القانون الدولي، تعد الإبادة الجماعية جريمة جسيمة تستند إلى القصد المحدد بتدمير جماعة قومية أو عرقية أو دينية أو إثنية جزئياً أو كلياً، وقد تم توضيح هذا القصد في العديد من المحاكمات الدولية، بما في ذلك محاكمات المحكمة الجنائية الدولية لرواندا ويوغوسلافيا السابقة، أما في حالة غزة، يتجلى هذا القصد بوضوح من خلال الخطاب العلني والإجراءات الميدانية التي تتخذها الحكومة الصهيونية، مما يشكل دليلاً ملموساً على نية الإبادة الجماعية.
من هنا، تُعَدُّ التصريحات والأفعال الصادرة عن الحكومة الصهيونية دليلاً واضحاً على نية الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، أما في ضوء الأدلة المتزايدة على نية الحكومة الصهيونية لتنفيذ أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، يصبح من الضروري للمجتمع الدولي التحرك بسرعة وحزم، كما أن التدمير المنهجي للبنية التحتية التعليمية والثقافية، المصحوب بالتصريحات العلنية لمسؤولين “إسرائيليين” تعبر عن نية تدمير الهوية الفلسطينية، يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، واتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح.
إلى ذلك، إن التصريحات العلنية والموثقة من مسؤولين حكوميين، إلى جانب الأعمال العدائية المستمرة التي تسببت في مقتل الآلاف من المدنيين وتدمير ممتلكاتهم، تُعَدُّ أدلة قوية على نية الإبادة الجماعية، يتطلب هذا الوضع تحركاً عاجلاً من المحكمة الجنائية الدولية والدول الأعضاء في الأمم المتحدة لضمان تقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة ومحاسبتهم على أفعالهم.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على المجتمع الدولي تعزيز آليات الحماية للأقليات والمجموعات المستهدفة، وضمان توفير المساعدة الإنسانية الفورية للمدنيين المتضررين، بالتالي، إن فشل المجتمع الدولي في الاستجابة بفعالية لهذه الجرائم لن يؤدي فقط إلى تفاقم معاناة الفلسطينيين، بل سيضع سابقة خطيرة تسمح بارتكاب مثل هذه الجرائم الفظيعة دون عقاب.
في الختام، يعد استهداف الحكومة الصهيونية للبنية التحتية المدنية والثقافية والتعليمية في غزة، وما يصاحب ذلك من تصريحات علنية تعبر عن نية الإبادة الجماعية، جريمة خطيرة تستوجب اهتماماً فورياً وإجراءات حازمة من المجتمع الدولي، هنا يجب أن يكون الرد الدولي قوياً وشاملاً لضمان العدالة للضحايا ومنع تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل، إن تحقيق العدالة والمساءلة ليس فقط ضرورة قانونية، بل هو أيضاً واجب أخلاقي تجاه الإنسانية جمعاء.
مصدر الصور: موقع المجالة.
إقرأ أيضاً: معايير النصر والهزيمة في ملحمة غزة
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
مستشار قانوني – الكويت