علوان أمين الدين*

لا تزال اتفاقية “مونترو”، الموقعة في العام 1936 والتي عدَّلت من أحكام اتفاقية “لوزان” 1923 بالنسبة للمضائق، تشكل قلقاً، إن لم نقل مشكلة، على الصعيد “الاستراتيجي” لتركيا حيث تضع الاتفاقية المذكورة مضيقا “الدردنيل” و”البوسفور” تحت أحكام معينة وهو الأمر الذي يمنع أنقرة من “التحرك”.

من هنا، يبدو ما كشفه وزير النقل والاتصالات والملاحة البحرية التركي، أحمد أرسلان، عما يسمى بـ “قناة اسطنبول” يصب في هذا الخصوص، حيث تم أخيراً تحديد مسار هذه القناة، إذ أشار الوزير أرسلان أنه تم “تحديد المسار البديل الرابع المار من مناطق كجك شكمجة، وصازلي دره، ودوروسو.”(1)

إلى ذلك، أشار الوزير أرسلان أيضاً بأن طول القناة سيبلغ حوالي 45 كيلومتراً(2)، بينما طول مضيق “البوسفور” يبلغ حوالي 30 كلم، بعرض يصل إلى 150 متراً. (3)  وبحسب الإحصاءات التركية فـ “إن 137 سفينة شحن، و27 ناقلة على متنها حمولات تجارية يصل وزنها إلى 150 مليون طناً.”(4)

من هنا، يمكن الإشارة إلى أهمية هذه القناة، بالنسبة إلى تركيا، على الكثير من الصعد، وأبرزها:

  1. الأهمية الاقتصادية

– خلق مناطق حيوية جديدة قادرة على جلب السكان لا سيما وأن تلك المنطقة تعتبر من الأماكن النشطة كونها تعد أحد أكثر مسارات سفن الشحن نشاطا(5)، مما يستتبع إزالة الأبنية العشوائية المقامة على المسار. (6)

– إقامة جزر صناعية في ماقصة ستطرحها الحكومة من خلال وزارة النقل التركية، إذ من المزمع أن تستخدم أتربة حفريات، بالإضافة إلى إقامة الجزر ضمن بحر مرمرة، في ملئ حفر مناجم الفحم، علاوة على بناء مناطق استجمام. (7)

– إقامة مطار ضخم جديد في تلك المنطقة إذ أنه من المتوقع أن يستقبل أولى رحلاته أواخر شهر فبراير/شباط (2018) قبل افتتاحه رسمياً في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2018. (8)

– التخفيف من آثار التلوث التي يسببها المرور الكثيف للبواخر في مضيق البوسفور، إضافة الى التقليل من الأضرار التي تبعثها السفن الناقلة للمواد الخطيرة. (9)  في مقابل ذلك، يرى بعض المتخصصين بأن افتتاح هذه القناة “ستؤثر بشكل كبير على التركيبة المعقدة للنظم المائية التركية”(10)، إضافة إلى أن “المسطحات المائية المحيطة باسطنبول، خاصة البحر المتوسط الذي يعتبر بحر مرمرة جزءً منه والبحر الأسود، يختلفان في تركيبتهما الملحية ومحتوياتهما الحيوية والغذائية جراء التفاوت في أعمارها بفوارق تتجاوز آلاف السنين.. هذا الاختلاف يجعل إمكانية اختلاط مياه البحرين وتجانسهما مستحيلاً، كإستحالة امتزاج الزيت والماء.”(11)

– إن حرية تسعير رسوم، المرور التي ستفرض على السفن، ستكون تركية محْضة، فأنقرة لا تزال تعاني من طريقة تسعير تعرفة المرور في المضائق التركية التي حددت بـ “الفرنك الذهبي”. في العام 1982، قامت تركيا “بتثبيت سعر صرف الفرنك الذهبي، لكنها تناقش منذ فترة إمكانية العودة إلى استخدام الفرنك الذهبي في تحديد الرسوم المأخوذة من السفن العابرة من المضيقين، الأمر الذي سيزيد الأعباء المالية بشكل كبير على السفن الروسية (تحديداً).”(12) من هنا، يرى بعض الخبراء الاقتصاديين الأتراك بأن إعادة عملية إعادة التسعير هذه، وبالمقارنة مع رسوم العام 2013، ستدر على تركيا حوالي 3 مليار دولار إضافية. (13)

– إن القناة ستدر “أرباحاً مالية كبيرة على تركيا تعوضها عن الأموال التي حرمتها اتفاقية مونترو من جبايتها خلال 31 عاماً.”(14) وتشير بعض التقارير الرسمية التركية إن القناة ستدر “نحو ثمانية مليارات دولار سنوياً”(15)، إضافة إلى “أن عائدات القناة الجديدة ستغطي خلال عامين فقط تكاليف المشروع البالغة نحو 15 مليار دولار، وستحوّل مضيق البوسفور التاريخي إلى خط ثانوي للتجارة البحرية مقارنة بالقناة الجديدة التي ستجتذب السفن والناقلات العملاقة.”(16)

– إن افتتاح “قناة اسطنبول”، على غرار قناة السويس الجديدة أي على خطين (البوسفور – قناة اسطنبول)، “سيحفز السفن على المرور منها تجنباً لانتظار دورها في البوسفور وهو ما ستستفيد تركيا من مقابله المادي.”(17)

  1. الأهمية السياسية

– قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده ستتخذ خطوات لإنجاز قناة “إسطنبول” مشيراً إلى أن “هذه القناة ستكون علامة جديدة ورائدة على مستوى العالم”(18)، وأكد أردوغان على أهمية هذا المشروع لأن تركيا “ستكسب أهمية أكبر من قناة السويس وقناة بنما.. سنخطو الخطوة الأولى فى أقرب وقت. (19)”

– تعد القناة أحد المشاريع العملاقة التي واكبت ظهور “رؤية 2023” التي اعتمدتها تركيا كخطة متوسطة المدى، تهدف من خلالها إلى احتلال مركز بين أقوى عشر دول في العالم بحلول الذكرى السنوية المئة لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة. (20)

– إن الرئيس التركي يسعى إلى كسب أكبر قدر من التأييد الشعبي تحضيراً لانتخابات العام 2019 ليكون رئيساً للبلاد. وما هو مهم في هذا الخصوص، هو أن تلك الاصلاحات الدستورية، التي تنص على اعتماد النظام الرئاسي والتي تم التصويت عليها سابقاً، ستدخل حيز التنفيذ في ذاك العام، مما يعطيه دافعاً اكثر في تحديد سياسات بلاده الخارجية من البوابة الاقتصادية مستقبلاً.

  1. الأهمية الاستراتيجية

– يرى العديد من الخبراء الاستراتيجيين الأتراك بأن “هذا المشروع لا يحمل أهمية بالنسبة لتركيا فحسب، بل للجغرافيا الإقليمية والدولية، فهي لن تكون مساراً للمواصلات المحلية بل مسار للتجارة والطاقة والاقتصاد والمواصلات والتكنولوجيا في المنطقة.”(21)

– الإفلات من بعض أحكام اتفاقية “مونترو” لا سيما الفقرات التي تحدد الحمولة الإجمالية للسفن البحرية لدولة من خارج حوض البحر الأسود والدول الأخرى (22)، إضافة إلى المدة التي ينبغي على السفن مغادرة المضيق إياباً (المقدرة بـ 21 يوماً كمدة إقامة في البحر الأسود) (23)، وأيضاً عدد السفن الحربية التي يجب أن تكون في المضيق في وقت واحد (تسع سفن فقط) (24). من هنا، إن السفن التي ستعبر إلى البحر الأسود مستعملة هذه القناة لن تخضع لأحكام وشروط الاتفاقية المذكورة، مما سيرفع المسؤولية الدولية عن تركيا.

– تستطيع تركيا منع السفن، حتى التجارية منها وليس الحربية فقط، من العبور من خلالها وذلك في حال حدوث أي متغيرات على وضع اتفاقية “مونترو” في المستقبل، خاصة وأن بعض وسائل إعلام روسية قد ذكرت، سابقاً، بأن السلطات التركية وضعت عراقيل أمام سفنها التي تمر عبر مضيق البوسفور. (25)  لنكون أكثر موضوعية في هذا القسم بالتحديد. إن حدث من هذا النوع سيكون له تداعيات كبيرة لا سيما مع روسيا كونه المنفذ الوحيد لسفنها إلى “المياه الدافئة”، وهو ما لن تقبل به روسيا إطلاقاً. لكن أحداً لا يستطيع التنبؤ بأحداث المستقبل وما تخطط له الدول من استراتيجيات. فروسيا على سبيل المثال، اتفقت مع طهران على شق قناة تربط منطقة بندر عباس، الإيرانية، ببحر قزوين، مما يسمح للسفن الروسية هناك بالوصول إلى منطقة الخليج بشكل كبير وفعال. وبالتالي، فإن التفكير في مثل هذا المشروع يعد رؤية استراتيجية مهمة تقدرها كل من روسيا وإيران.

– إن القناة ستكون تحت سيادة القانون الداخلي التركي، وبالتالي تستطيع أن تضع أي شروط ترها مناسبة. من هنا، أشار عدد من الخبراء في القانون الدولي أن اتفاقية “مونترو” لن يكن لها علاقة بـ “قناة اسطنبول” من حيث المبدأ، وبالتالي ان “عملية التقييم القانوني لها ستكون مختلفة عن المضائق الطبيعية مثل البوسفور.. ومن الناحية العسكرية فإن المشروع سيكون له بالتأكيد دور كبير في التوزانات العسكرية.”(26)

  1. هل تكون هذه القناة مقدمة لـ “قناة ساروس”؟!

هنا يرد إلى الذهن السؤال التالي: هل تكون “قناة اسطنبول” مقدمة لـ “قناة خليج ساروس”؟ للإجابة على هذا السؤال، يمكن القول بأن هذا الموضوع محتمل الحدوث لعدد من الأسباب، أبرزها:

– بنظرة بسيطة على برنامج “خرائط غوغل”، يمكن معرف المسافة التقريبة التي تربط ما بين منطقة خليج “ساروس” وبحر “مرمرة”، إذ أن متوسط المسافة يبلغ حوالي 4.5 كلم. وبالتالي، فإن الفكرة قد تكون واردة لا سيما وأن طول مضيق الدردنيل يصل إلى حوالي 61 كلم.

– إن عرض مضيق الدردنيل يتراوح ما بين 1.2 الى 6 كلم، وبالتالي فإن شق قناة مضيق “ساروس” قد يكون مفيداً لا سيما للبواخر التي تريد المغادرة بحيث ستسهل عمليات المرور المشترك (ذهاباً واياباً).

– إن هذه القناة، في حال شقها، ستكون الأقرب إلى أوروبا. فالسفن الآتية من ناحية غرب المتوسط، عليها الالتفاف لعدة كيلومترات قبل الدخول إلى المضيق، وبالتالي سيكون هناك توفير للوقت والمسافة.

– إن طبيعة المياه في تلك المنطقة قد تكون واحدة لا سيما وأنها مياه البحر المتوسط نفسه.

– تستطيع تركيا أن تجني أرباحاً كبيرة منها، لا سيما وأن مدة وتكلفة الحفر لن تكون كتلك في “قناة اسطنبول”، وإذا كانت تركيا بحاجة إلى عامين من أجل استعادة تكاليفها، فقد تكون المدة أقل بكثير في هذه القناة.

– هذه القناة أيضاَ ستكون تحت سيادة القانون الداخلي التركي، كما سبق وأسلفنا القول أعلاه.

– من الناحية الاستراتيجية، تستطيع تركيا الإفلات من أحكام اتفاقية “مونترو”، وبالتالي تستطيع إمرار السفن عبرها بالطريقة التي تتناسب معها. في هذا المجال، قد تكون مصدر خطر كبير على بعض دول البحر الأسود، وبالتحديد روسيا كون تركيا تعتبر دولة عضو في الحلف الأطلسي، وتمتلك ثاني أكبر وأقوى جيش فيه (حوالي 600 ألف جندي)، إذ ستتمتع سفن “الناتو”، حينها، بحرية الحركة دخولاً وخروجاً، وبالتالي ستكون مصدر إزعاج كبير لموسكو.

وللموضوعية أيضاً، يبقى مثل هذا المشروع خاضع للدراسات الجيولوجية وعمق المياه وغيرها من التفاصيل.

*مؤسس ومدير مركز “سيتا”

المراجع:

 (1) ناديجدا أنيوتينا. 15/1/2018. تركيا تكشف عن مسار “قناة اسطنبول”. روسيا اليوم. على الرابط التالي:

http://bit.ly/2E4UhoO

 (2) المرجع السابق.

 (3) خليل مبروك. 14/10/2017. قناة إسطنبول المائية تعوض تركيا عن خسائر “مونترو”. الجزيرة. على الرابط التالي:

http://bit.ly/2FEaBtC

 (4) ناديجدا أنيوتينا. تركيا تكشف عن مسار “قناة اسطنبول”. مرجع سبق ذكره.

 (5) المرجع السابق.

 (6) قناة إسطنبول.. المشروع الأضخم في تاريخ تركيا. 20/1/2018. الجزيرة. على الرابط التالي:

http://bit.ly/2DPHxmK

 (7) المرجع السابق.

 (8) ناديجدا أنيوتينا. تركيا تكشف عن مسار “قناة اسطنبول”. مرجع سبق ذكره.

 (9) قناة إسطنبول.. المشروع الأضخم في تاريخ تركيا. مرجع سبق ذكره.

 (10) خليل مبروك. قناة إسطنبول المائية تعوض تركيا عن خسائر “مونترو”. مرجع سبق ذكره.

 (11) المرجع السابق.

 (12) إسماعيل جمال. 7/12/2015. السفن الحربية الروسية تستفز تركيا في المضيق… متى يحق لأنقرة إغلاق “البوسفور والدردنيل” في وجه بوارج بوتين؟ القدس العربي. على الرابط التالي:

http://bit.ly/2DVleb4

 (13) المرجع السابق.

 (14) خليل مبروك. قناة إسطنبول المائية تعوض تركيا عن خسائر “مونترو”. مرجع سبق ذكره.

 (15) المرجع السابق.

 (16) المرجع السابق نفسه.

 (17) محمود سمير الرنتيسي. 17/1/2018. مشروع قناة إسطنبول المائية.. بوسفور جديد سينقل تركيا لمكانة كبيرة. نون بوست. على الرابط التالي:

http://bit.ly/2BPGdtS

 (18) سمير حسني. 7/10/2017. أردوغان يهذى: قناة إسطنبول ستفوق فى أهميتها قناة السويس. اليوم السابع. على الرابط التالي:

http://bit.ly/2DXCcK6

 (19) المرجع السابق.

 (20) خليل مبروك. قناة إسطنبول المائية تعوض تركيا عن خسائر “مونترو”. مرجع سبق ذكره.

 (21) محمود سمير الرنتيسي. مشروع قناة إسطنبول المائية. مرجع سبق ذكره.

 (22) اتفاقية مونترو. 8/12/2015. الجزيرة. على الرابط التالي:

http://bit.ly/2nwwF2N

 (23) المرجع السابق.

 (24) إسماعيل جمال. السفن الحربية الروسية تستفز تركيا في المضيق. مرجع سبق ذكره.

 (25) المرجع السابق.

 (26) محمود سمير الرنتيسي. مشروع قناة إسطنبول المائية. مرجع سبق ذكره.

مصدر الصور: جريدة الشرق – ويكيبيديا