العميد م. ناجي ملاعب*
الطائفية وتأثيراتها
لقد ذهب العالم ﺇﺭﻧﺳﺕ ﻏﻠﻧﺭ ﺇلى ﺍﻟﻘﻭﻝ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺩﻳﻥ ﻳﻘﻭﻡ ﺑﻭﻅﻳﻔﺔ ﻣﺷﺎﺑﻬﺔ ﻟﻠﻘﻭﻣﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺷﺭﻕ ﺍﻷﻭﺳﻁ ﺍﻟﻣﻌﺎﺻﺭ، ﻓﻬﻭ ﻳﺣﺷﺩ ﺍﻟﻧﺎﺱ ﺑﻔﻌﺎﻟﻳﺔ، ﻧﻅﺭﺍً ﻷﻥ ﻟﺩﻳﻪ ﻣﺣﺗﻭﻯ ﺭﻭﺣﺎﻧﻳﺎً ﻭﻋﺎﻁﻔﻳﺎً ﻟﻳﺱ ﻣﻭﺟﻭﺩﺍً ﻟﺩﻯ ﺍﻟﻭﻋﻲ ﺍﻟﻁﺑﻘﻲ. ولذلك، فإن “الديمغرافيا المشاغبة” في منطقة الشرق الأوسط، كما أسميتها شفاهة، أثرت على العلاقة بين السلطة الحاكمة والعقد الإجتماعي منذ تقسيم المنطقة بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو”. وفيما أمن الإستعمار الفرنسي الغلبة للطائفة المسيحية في حكم لبنان، لم يعد للمسيحيين في سوريا والعراق ذلك النفوذ القوي بعد زوال الإستعمار.
في لبنان، لم يكن الخلاف بين مسيحيين ومسلمين، بل كان النضال في سبيل تصحيح الخلل الممارس بواسطة ما سمي “المارونية السياسية” لصالح المواطنة أقلق المسيحيين فكانت أحداث العام 1975 ذات وجه طائفي. ولم يأتِ الحل في الطائف وفق معايير دولة علمانية حديثة.
وفي ظل انخراط حزب الله وما يمثل من “شيعية سياسية” في محور إقليمي يشارك في معارك خارجه، ويستقدم السلاح إلى الداخل، لا يركن اللبنانيون إلى الدعوة التي أطلقها المفتي الجعفري الممتاز، الشيخ أحمد قبلان، إلى “التخلص من الطائفية وبناء لبنان الوطن” بل انها كما قال عنها الدكتور انطوان مسرّة بأنها “تنمّ عن ضبابية فكرية شاملة، إذ تعبر عن جهل كامل، للأسف، لمفهوم الميثاق في التاريخ المقارن والعلم الدستوري المقارن”. ويشرح مسرّة “المواثيق في التاريخ اللبناني وفي تاريخ دول عدة كسويسرا والنمسا، والبلدان المنخفضة، هي سياق سياسي ودستوري للبناء القومي للدول، على إثر حروب أهلية تقع فيها. وهي نقيض السياق العنفي والدموي للبناء القومي انطلاقاً من مركز قوي وامتداداً إلى الأطراف. ولذا، فإن الطعن بميثاق 1943 واتفاق الطائف عام 1989، هو طعن بأهم قواعد البناء القومي اللبناني والسلم الأهلي”. ما يوحي بأن حدود الطوائف تترسخ أكثر على حساب قيام دولة المواطنة.
ولذلك ستبقى تأثيرات الحدود الطائفية ما بين مكونات الوطن، ما لم ينفتح لبناننا في حدوده الجغرافية على العمق المشرقي، والعودة إلى الدور الحضاري الذي مثله القرب من الغرب بإرسالياته وجامعاته، حتى يؤمن إحتواء أزمة الطائفية. وذلك يكون في بناء تكتلات اقتصادية وثقافية وسياسية يستطيع لبنان من خلالها التوسع والانتشار والاستفادة من محيطه على صعيد النهضة والنهوض والإرتقاء ومكافحة الإرهاب والتكفير بفعل مصطلح الكونكتوجغرافيا (الإتصال الجغرافي).
وهذا ينسحب كذلك على سوريا والعراق. فالدولتان اللتان كانتا لفترة زمنية تنعمان بالمواطنة “المقنعة”، تحت حكم توتاليتاري، كانت ممارسة السلطة فيهما محكومة بعقد اجتماعي تسوده غلبة فئة مذهبية على أخرى. فقد كانت القيادات العسكرية في المراكز الحساسة، وهي أداة الدولة الأمنية، تتبع لمذهب الرئيس أو لمن يواليه. وقد تفجرت تلك الحدود “المضبوطة” إلى العلن فور تغير السلطة في العراق ولكن بنمط انتقامي أسوء مما كان. وكانت القبضة الأمنية في سوريا سيفاً مسلطاً على العسكريين من الرتب كافة وحتى على عائلاتهم بغية المحافظة على الغلبة لطائفة الرئيس.
ولعل الثورة الرقمية التي أزالت الحواجز ما بين الدول وعممت ثقافة الذكاء الإصطناعي تكون حلاً شاملاً وحقيقياً يتجاوز الطوائف وحواجزها ويدخلنا في “العالمية”، سيما بعد معاناة البشرية جمعاء من وباء كورونا.
لبنان والتكنولوجيا
يعيش العالم الآن “حرباً باردة تكنولوجية” بين الدول الكبرى، هدفها السيطرة على العالم “رقمياً”، حيث تحاول القوى الدولية استخدام قدراتها في مجال الذكاء الإصطناعي من أجل الحصول على مكاسب على حساب باقي الدول بشكل رئيسي في الأبعاد الثلاثة للقوة: الإقتصادية، والعسكرية، والمعلوماتية. وقد أصبحت القدرة على اختراع واستخدام تكنولوجيا الجيل الخامس هي مصدر القوة للوحدات الدولية، ومحور المنافسة القادمة بين القوى الدولية. لذا بدأت القوى الكبرى سباقًا من أجل الحصول على زعامة جيو – استراتيجية وجيو – سياسية وجيو – اقتصادية بهدف تحقيق الريادة، والإمساك بزمام قدرات الذكاء الإصطناعي، التي تُعد مؤشرًا لحاضر ومستقبل الزعامة الدولية. ومن ثم سوف ينعكس هذا السباق على طبيعة النظام العالمي.
وأن هذا الصراع سوف تحسمه قدرة كل دولة على امتلاك تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي تمكنها من تحقيق التنمية الاقتصادية ولعب دور خارجي مؤثر، وقدرة على بسط النفوذ في العديد من دول العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا، وقدرة على الردع من خلال استحداث أسلحة يصعب هزيمتها في المعارك العسكرية. حين يمتثل لبنان إلى تلك المقومات يعود إلى دوره الفاعل في هذا المشرق بصيغة تقدمية ليعود لاعباً اقليمياً كما كان. ولنا في جارتنا اسرائيل المثال الأوضح على كيفية الصعود إلى مستوى الدول الفاعلة إذا ما قدّر لها الإنتماء إلى جيل المدن الذكية وعالم امتلاك البيانات والذكاء الإصطناعي.
*خبير أمني واستراتيجي – باحث أول في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري “إينغما”.
**المصدر: موقع الأمن والدفاع العربي (مقابلة بتاريخ 8/6/2020) – مرسل من الكاتب.
مصدر الصور: اليونيفيل – إندبندنت عربية – ميدل إيست أونلاين.
موضوع ذا صلة: الأمن القومي في مستقبل لبنان (1/3)