ضحى وضاح الشافعي**

لجأ الفلسطينيون إلى استراتيجيات متعددة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حيث بدأ النضال اللاعنفي منذ بداية الهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين، وبعد أن أقام الاحتلال دولته المزعومة في العام 1948 وفقاً لوعد بلفور، بالرغم من حتمية عدم قانونية هذا التصريح، حيث بدأ النضال المسلح للمقاومة دفاعاً عن أرض فلسطين.

ارتفعت وتيرة المقاومة بشقيها المدني والمسلح عقب حرب 1967 نتيجة لعدة عوامل أهمها الصحوة الوطنية، والرغبة بالحفاظ على الهوية الفلسطينية، كما كان لشدة القمع الإسرائيلي الذي تعرض له أهالي الأراضي المحتلة أثناء الحرب وبعدها غاية عادلة ووسيلة واحدة تدفع بهم لاختيار الطريق الأفضل، فكانت المقاومة بكافة أشكالها وصورها رداً طبيعياً على كل ما يقوم به الاحتلال.(1)

المقاومة المدنية “اللاعنفية”

تتضمن استخدام القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي من شأنها أن تخل بتوازن الخصم وأن تجعل العنف الذي يستخدمه يرتد عليه.(2)

إن استخدام تلك تقنيات والوسائل تهدف إلى شل قدرة الخصم ومواجهة سلطته وأهدافه(3) من خلال رفض اجراءاته القانونية والاقتصادية والسياسية، وعدم التعاون مع سلطاته والاستجابة لمطالبها، إضافة إلى التأييد الجماهيري للعمل الفدائي ومساعدته بمختلف أشكال المقاومة اللاعنفية.(4)

وعليه، فإن المقاومة المدنية أخذت مظاهر متعددة لدى الفلسطينيين منها الكتابات الجدارية، الاضرابات، المظاهرات والخطب العامة(5) ، أيضاً المقاطعات التي تعتبر أداة فعالة إذا ما قرر الفلسطينيون اتخاذ خطوة حازمة لتقليل تبعيتهم لإسرائيل وذلك بمقاطعة منتجات معينة أو شركات وخدمات لتحقيق الأهداف المتوخاه.(6)  كما أن المسيرات الجماهيرية التي تخرج في تشييع الشهداء المترافقة مع الهتافات المدوية ورفع الأعلام، والمسيرات السلمية ضد المستوطنين الذين يقتحمون المسجد الأقصى والتي تشهد تصعيداً في مواجهاتها مع الاحتلال، تعد من مظاهر النضال اللاعنفي.(7)

إن المقاومة المدنية تفترض تعبئة كافة قطاعات المجتمع لمقاومة الخصم، فيمكن رصد عديد من مظاهر المقاومة الثقافية والحضارية ذات مغزى كبير في الضفة الغربية مثل الإصرار على رفع الأعلام الفلسطينية، بغض النظر عن العقوبات المفروضة، وارتداء الأزياء ورسوم الفنانين بألوان العلم الفلسطيني، وازدهار مسرح فلسطيني وطني حقيقي في الأراضي المحتلة(8)،  إذ يتوزع عبء المقاومة على قطاعات الشعب المختلفة حيث شارك طلبة المدارس والجامعات في التظاهرات والمواجهات من خلال تنظيم اعتصامات للمثقفين والمعلمين والعمال والنساء والجماهير عامة.(9)

من أبرز الأمثلة على ذلك: عندما حاولت سلطات الاحتلال، في أعقاب حرب 1967، فرض تدريس الكتب والمناهج الإسرائيلية في مدارس الضفة الغربية حيث أضرب الآباء والمدرسون، وبعد ثلاثة أشهر تم الوصول إلى حل وسط يستجيب لمعظم مطالب المدرسين وأعيد فتح المدارس.(10)

المثال الثاني، عندما أعلنت وزارة التربية والتعليم عن تعطيل الدوام لجميع المدارس والجامعات في الضفة الغربية، من ضمنها القدس وقطاع غزة المحاصر في 7 ديسمبر/كانون الأول 2017، احتجاجاً على القرار الأمريكي بإعلان القدس عاصمة إسرائيل وتأكيداً على أن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية كما أعلنته فصائل العمل الوطني والإسلامي يوم إضراب شامل في كل الوطن داعية جماهير الشعب الفلسطيني للمشاركة في المسيرات في مراكز المدن وتظاهرات في عدة مدن عربية.(11)

بناء على ما سبق ذكره، فإن المقاومة المدنية تتشكل إما بالمقاومة الشعبية، التي تشمل مظاهر المقاومة العفوية من جانب الفلسطينيين كردود فعل على اجراءات إسرائيلية محددة، ولكن هذا لا يعني كون تلك الاحتجاجات العفوية غير منظمة أو غير موجهة إنما قد تستغل المنظمات المحلية فرصة وجود موجة من السخط الشعبي لتعبئة وتوجيه النضال من أجل إحراز أهداف محددة.(12)

أما المقاومة المنظمة فتدار عن طريق منظمات تدعو إلى النضال اللاعنفي وتلتزم به علناً، فيكون هدفها الرئيسي هو حق تقرير المصير للفلسطينيين وعودة اللاجئين. وهذه المنظمات إما أن تروِّج للاعنف، عن طريق التعليم في المدارس والجامعات مثل “المؤسسة التربوية العربية”، أو انها تركز على العمل الاجتماعي، مثل “المركز الفلسطيني للتقارب بين الشعوب”، ومنها من يهتم بالفعاليات الأكثر مباشرة كالتظاهرات والمقاطعات، مثل “حركة التضامن العالمي” وتشجع الحركة الأجانب على المشاركة في الأنشطة اللاعنفية في فلسطين، حيث سيتمكنون من مشاهدة ما يحدث على الأرض المحتلة بأم العين بدل مشاهدتها عبر وسائل الإعلام الغربية المتحيزة وتصرح برغبتها في وجود جهات دولية للمشاركة في أنشطة الاحتجاج لحماية الفلسطينيين وأنشطتهم.(13)

يثير الحديث عن استراتيجية المقاومة المدنية قضية هامة تتعلق بما إذا كان تنظيم هذه المقاومة وشنها يتم لتحقيق أهداف قصيرة الأمد(14)  كالاعتصامات التي حدثت في يوليو/تموز العام الماضي (2017) أمام أبواب المسجد الأقصى وكافة المدن الفلسطينية لرفض الدخول إلى المسجد عبر البوابات الالكترونية التي قام الاحتلال بتركيبها، ومظاهرات في مدن عربية وإسلامية وعواصم غربية وأوروبية دعما للأقصى والتي هدأت بعد أن قررت سلطات الاحتلال إزالة جميع العراقيل التي وضعتها في مداخل المسجد(15) أو أنها كجزء من نضال طويل ممتد ضد المحتلين(16)  كالمسيرات السلمية التي تخرج في ذكرى يوم الأرض من أجل الحرية والعودة إلى كل أرض فلسطين وإحياء المقاومة المدنية عن طريق التظاهر وتوعية الجماهير لثورات القسام، البراق، القسطل، مجازر كفر قاسم، دير ياسين، و صبرا وشاتيلا. كما أن الاحتلال كعادته يتخذ إجراءات متنوعة لقمع كافة أشكال المقاومة السلمية “اللاعنيفة” من الضرب الجسدي المبرح، وقنابل الغاز المسيلة للدموع، واعتقال العشرات، إلى إطلاق الرصاص بأنواعه المطاطي والبلاستيكي والحي والمتفجر.(17)

آخر بيان دولي أدان إسرائيل، فيما تستخدمه من عنف ضد المتظاهرين السلميين الذين خرجوا في مسيرات العودة منذ 30 مارس/آذار والتي تستمر إلى 15 من مايو/أيار كما أعلنها أهالي غزة، نص على: “أعرب خبراء الأمم المتحدة  في مجال حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية عن القلق البالغ بشأن استخدام قوات الأمن الإسرائيلية للقوة، ودعوا إلى وقف العنف وتعهدت إسرائيل بإجراء تحقيق في استجابة القوات الأمنية للاحتجاجات وعلى الرغم من ذلك فإن قوات الأمن الإسرائيلية لا زالت تستخدم الرصاص الحي والمطاطي والمتفجر ضد المتظاهرين مما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المتظاهرين غالبيتهم عزل من النساء والأطفال ورجال على حد سواء، كما شدد الخبراء على التزام إسرائيل باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال باحترام القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان وأكدوا إن قوات الأمن وتنفيذ القانون يجب الا تستخدم القوة إلا عندما تواجه تهديداً وشيكاً على الحياة وأشاروا إلى عدم وجود أدلة تجعل استخدام القوة المميتة أثناء المظاهرات قانونيا كما نقل الخبراء عن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية القول أن الاستخدام الفتاك للقوة ضد المتظاهرين قد يمثل جرائم وفق نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة.”(18)

يعلق المراقبون على البيان بأنه لم يحدث في تاريخ إسرائيل أن تعهدت بإجراء ما والتزمت به، كما أنها ومن تاريخ وجودها على أرض فلسطين تقابل المسيرات السلمية والتظاهرات المدنية بالعنف المميت دون وجود لأي دليل على أنها تواجه تهديداً أو خطراً على الحياة، ولا يتم محاكمة عناصر قوات الأمن المتسببة بذلك، ولا حتى محاكمة إسرائيل دولياً، فهذا البيان “يسكن الجرح” في بدايته، لكن وكالعادة الدولية سرعان ما سيتم تجاهله أو تناسيه.

ذروة القول أن تاريخ فلسطين، رغم كل ما تتعرض له، حافل بجميع مظاهر وأشكال المقاومة المدنية، فلم يمر حدث تاريخي أو ديني ولا ذكرى وطنية أو قومية ولا مناسبة نضالية أو محلية إلا وأحياها الشعب الفلسطيني بمختلف الطرق السلمية وإن كانت تقابل بشتى أنواع العنف والقمع .

إن عدوا كالعدو الصهيوني لا يمكن الاكتفاء بمقاومته بهذا النوع من المقاومة(19)، كما رأت التنظيمات المسلحة أن المقاومة المدنية لا تكفي ولا تتناسب مع نتائج الحرب وأنه لا بد من العمل الفدائي لتجاوز اليأس الذي يسعى الاحتلال لفرضه على الفلسطينيين.(20)

المقاومة المسلحة

تبلورت حركة المقاومة في فلسطين بعد تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، فبرزت ظاهرة العمل الفدائي بصورة جلية ومحددة كأداة تسعى لإنجاز المهمات الوطنية وبناء الدولة الفلسطينية التي تعبر عن هويته الوطنية.(21)

وقد تميزت المقاومة المسلحة بالشدة وبارتفاع كبير في معدلات العمليات الفدائية إبان احتلال الضفة والقطاع في حرب 1967 بسبب الخبرة الوطنية المخزونة لدى الفلسطينيين منذ مواجهة القوات الإسرائيلية من بدايات إنشاء دولة الاحتلال مروراً بسنوات الخمسينات والأعمال الفدائية التي نُفِذت حينها فشكلت رداً لحجم القمع الذي تعرض له الفلسطينيون مبكراً.(22)

لقد وجدت المقاومة الفلسطينية أن للعمل الثوري أفضلية مميزة على صعيد القانون الدولي والحقوق الإنسانية، وذلك لأن الثوار الفلسطينيون إنما يمارسون حقهم في العودة إلى وطنهم وهو ما أقرته دولياً الأمم المتحدة.(23)

لقد نفذ المقاومون في مختلف حركات المقاومة الكثير من العمليات العسكرية كان أخطرها عملية القدس، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1986، حينما نفذوا هجوماً بالقنابل اليدوية على حشد من جنود الاحتلال قرب حائط البراق. كما قام المقاومون بخطف الطائرات الإسرائيلية، خصوصاً في السبعينات والتي اشتهرت بها الجبهة الشعبية، أيضاً استخدمت القيادة العامة للجبهة الرسائل المفخخة (وهي مادة قليلة ومصغرة تزن حوالي 31 غرام في ظرف بريدي وضغطه في الداخل وربطه بجهاز صغير وعندما يُفتح المغلف ينطلق “الرفاص” المتصل بالجهاز الصاعق ليفجر العبوة) حيث أرسلت العديد منها إلى رجال أعمال ومؤسسات يهودية.(24)

إضافة إلى ذلك، نجد أن المقاومة المسلحة اتبعت صوراً مختلفة للرد على العدوان الإسرائيلي، فتنوعت العمليات الفدائية ما بين دهس، طعن، تفجير للدبابات، وتفجير الفدائي نفسه وسط مجموعة من الجنود الصهاينة، هذا ما شهدناه في آخر انتفاضة، “انتفاضة القدس”، التي كانت حافلة بمختلف العمليات الفدائية خاصة الدهس والطعن حتى أن البعض أطلق عليها “انتفاضة السكاكين”.

ولعلنا نتوصل من خلال ما سبق إلى أن المقاومة المسلحة تستند إلى المقاومة المدنية وتتكامل معها، فدائماً ما كانت الانتفاضات الفلسطينية جامعةً في صفوفها المقاومة المدنية، بكافة أشكالها وصورها، وكذلك المسلحة لتعلن بذلك وأمام العالم أجمع أن الشعب الفلسطيني لا زال رافضاً للاحتلال، وسيبقى وستبقى المقاومة بكل صورها سبيلاً وحيداً لتحرير الأرض.

وعليه، فإن جميع الأعراف والقوانين الدولية قضت بحق الشعوب في مقاومة المحتل بكل الوسائل بما فيها المقاومة المسلحة بل واعتبرت أن إنكار حق الشعوب الشرعي في تقرير المصير والاستقلال عمل إرهابي بحد ذاته. إذاً، فالمقاومة حق والحق لا يقبل التنازل عنه ولا يمكن أن ينقضي بالتقادم، كما أن جرائم الاحتلال لا تنقضي بالتقادم كونها جرائم ضد الإنسانية.

*جزء من بحث بعنوان “الشرعية الدولية للمقاومة المسلحة الفلسطينية”

**كاتبة فلسطينية

المراجع:

(1) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية: الشعبية والمسلحة بين عامي1967-1987. مجلة الجامعة الاسلامية – غزة. المجلد 19. العدد 1. 2011. ص: 1216.

(2) د. سعاد الدجاني. المقاومة المدنية في الضفة الغربية: المقاومة المدنية في النضال السياسي. منتدى الفكر العربي. عمان – الأردن. 1988. ص: 85.

(3) عبد الغني عماد. المقاومة والإرهاب في الإطار الدولي لحق تقرير المصير. مرجع سابق. ص: 35.

(4) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية. مرجع سابق. ص: 1215.

(5) ندى غندور ديميري. فن المقاومة اللاعنفية: حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت – لبنان. الطبعة الاولى. 2010. ص: 190.

(6) د. سعاد الدجاني. المقاومة المدنية في الضفة الغربية. مرجع سابق. ص: 101.

(7) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية. مرجع سابق. ص: 1226- 1227.

(8) د. سعاد الدجاني. المقاومة المدنية في الضفة الغربية. مرجع سابق. ص: 87.

(9) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية. مرجع سابق. ص: 1220.

(10) د. توماس سميرلنج. امكانيات قيام حركات لاعنفية في الضفة الغربية وغزة: المقاومة المدنية في النضال السياسي. منتدى الفكر العربي. عمان – الأردن. الطبعة الاولى. 1988. ص: 115.

(11) تحرير محمد مجادلة. https://www.arab48.com, 14/4/2018

(12) د. سعاد الدجاني. المقاومة المدنية في الضفة الغربية. مرجع سابق. ص: 89- 90.

(13) ندى غندور ديميري. فن المقاومة اللاعنفية. مرجع سابق. ص: 190- 191.

(14) د. سعاد الدجاني. المقاومة المدنية في الضفة الغربية. مرجع سابق. ص:87.

(15) أهم محطات معركة البوابات الالكترونية. http://www.aljazeera.net. آخر تحديث: 27/7/2017 ,17/4/2018.

(16) د. سعاد الدجاني. المقاومة المدنية في الضفة الغربية. مرجع سابق. ص:87.

(17) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية. مرجع سابق. ص: 1227 – 1228.

(18) بيان صادر عن الامم المتحدة في 17 أبريل/نيسان 2018, news.un.org

(19) عبد الغني عماد. المقاومة والارهاب في إطار القانون الدولي لحق تقرير المصير. مرجع سابق. ص:35.

(20) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية. مرجع سابق. ص: 1215.

(21) نوري نجم. فلسطين والصراع العربي الصهيوني. 1986. ص: 148.

(22) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية. مرجع سابق. ص: 1230.

(23) هشام شرابي. المقاومة الفلسطينية في وجه اسرائيل واميركا. دار النهار للنشر. بيروت – لبنان.1970. ص: 199.

(24) د. عدنان ابو عامر. تطور المقاومة الفلسطينية.  مرجع سابق.  ص: 1231 – 1233 – 1244.

مصدر الصورة: قناة مصر العربية.