د. حكمت مصلح*
مقدمة
إن الهداية في الأرض لم تنقطع، فمنذ أن وعد الله ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة له يكون من تراب، اعترض إبليس على ذلك بالرد على خالقه “أتجعل فيها من يسفيك دماً” و”نحن الذين نسبح بحمدك”. ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم(ع)، بعد أن تحداهم بعرض أسماء الأشياء فعجزوا عن ذكرها أما آدم فقد أدلى بالأسماء كاملة حينها، سجدوا لآدم وقالوا لربهم “سبحانك أنك علام الغيوب”.(1)
أما إبليس فأبى واستنكر أن يسجد لآدم؛ فبدأ الشر ينتشر في العالم، الذي مثَّله إبليس. أما الخير، الذي مثلته إرادة الله على لسان الأنبياء والمرسلين فكانوا جميعهم تحت نظر الله وإرادته إذ قال تعالى “وما خلقنا الجن والإنس إلا ليعبدون”(2). وبذلك أصبح أمر الهداية بيد رسول أو نبي مبعوث، أو ولي معصوم، أو من أنار الله بصيرتهم فكانوا من الحكماء بين البشر.
ولما كان فعل الهداية منطلقًا من الله إلى عبيده في التشريع السماوي، فإن فعل الهداية في بناء الإنسان والمواطن ينطلق من نصوص وقوانين وضعها البشر لأنفسهم تسمى القوانين الوضعية. هذه القوانين استقت مبادئها من الضمير الإنساني والأخلاق والفلسفة ونضالات الشعوب والأديان. وبذلك، كان الدين والقانون قرينين كل هؤلاء، وعليهما بنيت الحياة الإجتماعية فكانت القاعدة الدينية مقترنة بجزاء الآخرة، وأما القاعدة القانونية مقترنة بالجزاء الدنيوي. وفي كلا القاعدتين وجد الإنسان القدرة والإمكانية لضبط أدائه.
وفي عصر الدولة الحديثة، وضعت القوانين المقترنة بجزاء. ولكن نصوص الدساتير لا تشير إلى جزاءات وعقوبات بل إكتفت بوضع قواعد عامة مجردة، فما بالك إن كان الحديث عن التربية والتوجيه لبناء الإنسان والمواطن على أساس المواطنة الحقة. إن التربية على المواطنة في الدين ليست غريبة على مبدأ الإنسان، أما على صعيد المواطن فإنه يجب فصل الدين عن الدولة عملاً بالمبدأ القائل “الدين لله والوطن للجميع”.(3)
لذا، كان من واجب المشرع السعي إلى إيجاد نصوص قانونية تضمن بناء المواطن الصالح الذي يعلن “لا ولاء على الولاء للوطن”، وترسيخ تلك النصوص لقناعات وطنية عامة ينادي بها النظام الأساسي في الدولة أو القوانين المنبثقة عنه أو النظم القانونية التي تنبثق عن القوانين. من هنا، توجد العديد من التساؤلات وأبرزها، هل إن الرواسب الثقافية تُخرج المواطن عن وطنيته؟ هل أن النصوص القانونية قادرة على بناء مواطن يلتزم القيم المواطنية؟ كيف يكون التشريع أداة لحماية الوطن والمواطن من الخروج عن واجباتهما؟ هل توجد قواعد ما تعمل على القبول بالتشريع قبل إقراره؟ هل ذكر الدين في القوانين يتناقض المواطنة الحقة؟ كيف يكون الحل في بناء الإنسان ـ المواطن من خلال التشريع؟
للوصول إلى كل ذلك سوف نقسم بحثنا إلى عدة فقرات وهي: دور المعاهدات والإتفاقيات الدولية والدستور والقوانين والأعراف الدستورية في بناء الإنسان والمواطن، وأثر الرواسب الثقافية في تكوين المواطنة.
أولًا. دور المعاهدات والإتفاقات في بناء المواطن والإنسان
سوف يرتكز بحثنا على معالجة هذا الموضوع على شرعية حقوق الإنسان والتي هي مبنية على ثالوث قانوني متمثل في:
ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر/كانون الأول العام 1948.
ـ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في 16 ديسمبر/كانون الأول العام 1966
ـ العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية الصادر في 16 ديسمبر/كانون الأول العام 1966.
قد يكون من الغريب القول بأن للإتفاقيات والمعاهدات الدولية دور في بناء المواطن، فمن المعروف أن الغاية الأساسية للمعاهدات هي الإنسان والإرتقاء بحقوقه وواجباته من الأطر الوطنية إلى الأطر العالمية وذلك بجعل كل حق أو واجب ذا صفة عالمية له قواعد ناظمة تؤكده مرة، تحميه مرة أخرى، على الصعيدين الوطني والعالمي. أما أن تذهب المعاهدات إلى لعب دور الباني للمواطن والمواطنة، فهذا أمر مستغرب ولكن سوف نسوق الدليل القانوني على ذلك.
1. في تحول أحكام المعاهدات إلى نُظم داخلية
كل معاهدة تكون نافذة وفق الأصول القانونية المرعية في كل بلد تكون بحكم القانون المحلي مع تقديم لأحكامها وقواعدها على سائر القوانين سواء كانت القانون الأساسي، وأعني الدستور، أو القوانين العادية الأخرى المعمول بها في الدولة. وبذلك، كلما تضمنت الشرع والقوانين قواعد وتتعارض في التطبيق مع القانون الدولي، أي الإتفاقيات والمعاهدات الدولية، كلما قدِّمت الأخيرة على الأولى.
بمعنى آخر، إذا تضمنت المعاهدة قاعدة إنسانية راقية، مثل إلغاء التمييز العنصري بين البشر، وبقي التشريع المحلي يشير إليه، فإن من واجب المشرع إزالة كل ما يشير إلى التمييز العنصري في قوانين البلد وذلك بهدف بناء إنسان راقي ومواطن متصالح مع محيطه الإجتماعي والإنساني. ولتأكيد ذلك، نعود إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث نص على أنه “لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان دون تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً أو غير سياسي أو الأصل الوطني أو الإجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر. فضلًا عن ذلك، لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان ذلك مستقلاً أم موضوعاً تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو خاضعاً لأي قيد آخر على سيادته”.(4)
إن أي بلد تتعدد فيه الاثنيات ويخاطب مواطنوه بمثل هذا النص العالمي الذي يلغي التمايز بين أبنائه على أسس متنوعة إنطلاقًا من الإنسان نفسه أو البلد الذي يعيش فيه. حتمًا مثل هذا الخطاب سوف يولد المواطنية الحقة في نفوس أبناء البلد الواحد حيث يندفع الكل إلى عدم التباغض والإرتقاء بالتعاطي مع بعضهم البعض في بوتقة واحدة هي الوطن.
2. بناء الدساتير على أسس متوافقة مع المعاهدات الدولية
بعض الدول عمدت إلى تعديل دساتيرها وقوانينها المتعارضة مع المعاهدات الدولية حتى أضحى كل ما تنص عليه تلك المعاهدات، من بناء المواطن، يشكل جزءاً من الدساتير المحلية. أما بالنسبة إلى الدول نشأت بعد وضع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، أي بعد العام 1948، والعهدين الدوليين لحقوق الإنسان أي بعد العام 1966، فلقد إلتزمت كلياً بالشرعة الدولية وعدتها إما جزءاً من مقدمة دساتيرها أو جزءاً لا يتجزأ من تلك الدساتير، وذلك من خلال تحويل أحكام المعاهدات إلى نُظم داخلية، والبناء على أسس متوافقة مع المعاهدات الدولية. من هنا، بدت قوة التشريع الدولي في بناء المواطنية.
ثانياً: دور نصوص الدستور اللبناني في بناء المواطنية
نصوص الدستور في هذا المجال عديدة، وسنقوم بعرض الجانبين السلبي والإيجابي منها يدفعنا إلى ذلك أن البحث بالدستور مبني على بحث بكل الإتجاهات. فإذا أصابت نصوص من واجبنا الوقوف عندها والثناء عليها، وهذا ما قصدناه بالجانب الإيجابي. أما إذا لم تصب، أو حرِّفت أو تحرفت أو منعت من أن تصل إلى هدفها، في هذه الحالة نكون أمام الجانب السلبي لها.
1. النصوص ذات الطابع الإيجابي
إن مجموع هذه النصوص موجود في الباب الأول من الدستور، حيث عمد المشرع إلى إيراد حقوق وواجبات المواطنين في هذا الفصل، والمثال عليها:
أ. في نهائية الولاء للوطن
يبدو ذلك من خلال مقدمة الدستور، وتحديداً من الفقرة (أ) التي تنص على أن “لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحداً أرضاً وشعب ومؤسسات، في حدوده المنصوص عليها في هذا الدستور والمعترف بها دولياً.”
إن مجرد قراءة هذا النص ومعرفة تاريخ صياغته، في العام 1989، يتأكد للباحث أن هنالك أزمة مواطنة بحق. والأسئلة هنا كثيرة، وأهمها: لماذا عاد المشرع بعد قرابة ثلثي القرن من نشوء دولة لبنان الكبير ليأتي بمثل هذا النص؟ وان كان من أزمة فما هي معالم أزمة المواطنة في لبنان؟
من خلال ما سبق، يمكن أن أن نرى ذلك بوضوح إذا ما عدنا إلى فترة الإستقلال حيث كان هنا “الفريق الرافض لعروبة لبنان وهو ينادي بمبدأ حماية الإستقلال السياسي للبنان بمساندة الإنتداب الفرنسي، يقوم على أساس أن تتوزع الطوائف الممثلة في الإنتخابات النيابية بنسبة تحدد بمرسوم تصدره سلطة الإنتداب، وحجته في ذلك هي الدفاع عن حرية الأديان في هذا البلد. وهذا الفريق وجد في الإنتداب الفرنسي شكلاً مطمئناً لضمان حمايته واستمرار نفوذه فيه.”(5)
أما الفريق الثاني الذي “نادى بالوحدة مع سوريا، فقد رأى بالإنتداب الفرنسي شكلاً من أشكال الإستعمار الجديد، وتمسك برفضه له هذا الرفض الذي تجلى في عدم التعاون مع هذا النوع من الحكم، وفي رفضه الإشتراك في المؤسسات التي استحدثها. وهو يمثل التيار الذي انطلق من معطيات قومية معتبراً أن القومية العربية تحقق أماني الشعب وتشكل مبعثًا لقوته وعزته.”(6)
من كل ما سبق نستنتج أن “لبنان الكبير”، المعلن في الأول من سبتمبر/أيلول العام 1920، ليس إلا وطناً مليئ بالهواجس بين الطوائف. فحين قصرت النصوص الدستورية عن معالجة هذه الأزمة، كان “الميثاق الوطني” بين الزعيمين الوطنيين، بشارة الخوري ورياض الصلح، حيث قضى بأن يكف المسلمون عن طلب الوحدة مع سوريا مقابل وقف المسيحيون المطالبة بالحماية الفرنسية مجدداً، وانتهى اللقاء إلى “لا شرق ولا غرب.. إنما وطن اسمه لبنان”.
من خلال ما سبق، يقول البعض بأن هنالك نصوصاً قانونية، في الإتفاق، شكلت وأكدت على ولاء المواطن اللبناني لوطنيته وكانت إحدى أهم المداميك الأساسية في بناء هذا الوطن. ولكن الرد عندنا أن الرئيسين، الخوري والصلح، لم يتوصلا إبداً إلى نص مكتوب إنما هنالك تعهد شفهي بين زعيمين وطنيين بعدم مولاة الشرق أو الغرب إنما الولاء فقط لبنان.
لذا، عاد المشرع اللبناني، وبعد ثلثي قرن من الزمن، ليعلن أن “لبنان وطن سيد حر مستقل وطن نهائي لجميع أبنائه، واحداً أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عليها في هذا الدستور والمعترف بها دولياً”.
والجدير ذكره هنا بأن “إتفاق الطائف” لم يترك الأمر على غاربه؛ فبعد أن طمأن أصحاب الهواجس على لبنان، جاءت الفقرة (ب) من مقدمة الدستور لتشير إلى إنتماء واضح للعروبة بقولها “لبنان عربي الهوية والإنتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات دون استثناء.”
لكن هذا الانتماء كان أشد وطأة ففي الماضي، ونعني بذلك الميثاق الوطني المكون من إتفاق بشارة ـ الصلح، فـ البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح الإستقلالية حيث ورد فيه “لبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب.”(7)
ب. مبدأ المساواة
ومن النصوص التي فعلت فعلها الإيجابي في بناء الإنسان والمواطن وكونت مواطنية حقة هي المادة 12 من الدستور التي نصت على أنه “لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة، لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الإستحقاق والجدارة بحسب الشروط التي ينص عليها القانون وسيوضع نظام خاص يضمن حقوق الموظفين في الدوائر التي ينتمون إليها.”
هذا النص، يرسخ صراحة مواطنية اللبناني بتطبيق مبدأ الكفاءة والجدارة. ولكن على الرغم من “الصعقة” الإيجابية لهذا النص، إلا أننا نجد الواقع العملي يخالفه ما يجعل المواطن يشكك مرة بصحة التمثيل عنه والإدارة القائمة مرة، وبمدى صوابية العيش بالحالة المثالية، مرة أخرى، خصوصاً وأن قاعدتي “الواسطة” و”المحسوبية” تدفعانه إلى إعلان “كفره بوطنه”. بذلك، يذهب مبدأ المواطنة أدراج الرياح ليبقى نص المادة 7 من الدستور يردد نفسه لغايات نفسه بقوله “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسوء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم.”
*باحث قانوني – لبنان
المصادر:
(1) القرآن الكريم.
(2) المرجع السابق.
(3) رفع الثوار في الثورة السورية الكبرى هذا الشعار حتى على البيارق الخاص بكل بلدة حتى أضحى هذا الشعار بالفعل شعار الثورة السورية الكبرى.
(4) المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
(5) مسعود ضاهر. لبنان الاستقلال الصيقة والميثاق ط2 دار المطبوعات الشرقية 1984 ص 273 ـ 274.
(6) خالد قباني. ” اللامركزية ومسألة تطبيقها في لبنان “، ط1. منشورات البحر المتوسطة بيروت (198) راجع مثل هذا المعنى أيضًا الدستور اللبناني قبل الطائف وبعده تأليف خليل الهندي وانطوان الراشق نشر المؤسسة الحديثة للكتاب طرابلس ـ لبنان ص 117 وما بعدها 1994.
(7) البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح الذي ألقي في البرلمان اللبناني على لسان رئيس الحكومة الأولى في عهد الإستقلال رياض الصلح بتاريخ 17/11/1943.
مصدر الصور: العرب – النهار.
موضوع ذو صلة: ميزان الوطنية ومعيارها في لبنان