حوار: سمر رضوان – فان يان زيبروك

لا يزال الإرهاب يؤرق أوروبا، خصوصاً من الحديث عن اقتراب انتهاء الأزمة السورية وانتهاء الإرهاب في العراق باستثناء بعض البؤر البسيطة، والخوف من عودة ما يسمى “الجهاديين الأوروبيين” إلى بلدانهم مجدداً وتنفيذ عمليات إرهابية تطال دول الاتحاد.

عن هذا الموضوع وتداعياته، كان لمركز “سيتا” مقابلة مطولة مع الأستاذ لوك ميشيل، الباحث في الجيوبوليتيك والخبير في الشؤون الأوروبية.

“سيناريو الشيطان”

لقد حاول الاتحاد الأوروبي، مع الأمريكيين ودول الناتو، استغلال الإرهابيين لخدمة مصالحه الجيو – سياسية والتي أسميتها “سيناريو الشيطان”، لكن وكما يقول المثل الفرنسي القديم “إذا أردت تناول العشاء مع الشيطان، عليك أن تأخذ ملعقة طويلة أو ستحرق أصابعك.” إن القوى الأوروبية اليوم، وخدماتها السرية، أحرقت ليس فقط الأصابع بل الأذرع والأكواع.

هناك ثلاثة امثلة على ذلك. المثال الأول، المحاولة الامريكية الفاشلة لإنشاء قاعدة جوية كبيرة في الغوطة الشرقية بالقرب من دمشق، وهي آخر منطقة تحت سيطرة الإرهابيين، بالتحديد جماعة جبهة النصرة أو القاعدة سابقاً.

المثال الثاني، الأتراك. في معركة عفرين، يتم استخدام العديد من المجموعات الإرهابية كقوات برية مقسمة الولاءات، فمنها من هو موالٍ لجبهة النصرة، ومنها الحركات التكفيرية الأخرى ذات الأصول التركية. إن تعاون أنقرة الكامل مع هذه الجماعات هو حقيقة واقعة تعود أصولها إلى بداية العمليات الحربية التي “استوردها” الغرب العام 2011.

المثال الثالث والأخير، هو فرنسا التي استقبل مستشارو رئيسها، ايمانويل ماكرون في الجمعية الوطنية، أفراد من منظمة “الخوذ البيضاء”، والتي ليست في الواقع سوى تنظيم ترعاه المخابرات البريطانية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية. إن أعضاء هذه المنظمة ليسوا سوى مرتزقة مرتبطة بالمخابرات البريطانية الـ MI6 تم الترتيب لها في إحدى عواصم الدول الخليجية. إن الوقائع العملية تشير إلى أن مهمة “الخوذ البيضاء” هي القيام بالتغطية الإعلامية لجبهة النصرة. إن أجهزة الدعاية الغربية، التي تندد بـ “الاخبار الكاذبة” بينما تقوم هي بإنتاجها، جعلت منها “بطلاً” من أبطال هوليوود، حيث خصصت لهم الأفلام الدعائية، بينما هم في الحقيقة محضونين ومدعومين من جبهة النصرة. إنهم موظفو إنقاذ في النهار، وإرهابيون بعد الظهر، وهو ما أثبتته الكثير من الصور والفيديوهات المسربة على صفحات وشبكات التواصل الاجتماعي.

في هذا الخصوص، يمكن ذكر دور ثلاثة رؤساء ساهموا في محاربة الإرهاب بشكل جدي. الأول، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يخوض هذه المعركة منذ نهاية التسعينات، في القوقاز وداغستان والشيشان، والآن، في سوريا. أما الثاني، فهو الرئيس السوري بشار الأسد الذي يشكل “الحصن” ضد تمدد الجهادية التكفيرية، حيث إن التخلص من النظام السوري سيكون وراء “اجتياح” الجهاديين لأوروبا، لا سيما البلقان، وأفريقيا، وبخاصة الصحراء الكبرى. أما الثالث، فهو الرئيس التشادي، إدريس ديبي إتنو، الذي قاد جيشه زمام المبادرة ضد الإرهاب في وسط أفريقيا، بالتنسيق مع الجيش الكاميروني، على حدود مع النيجر ونيجيريا، حيث منع الجهاديين من السيطرة على منطقة خليج غينيا.

“بروكسل – ستان”

“بروكسل – ستان” هي حقيقة، ولكن ليست بنفس الصيغة التي يتم التداول فيها. مر في التاريخ الأوروبي، خلال الثمانينيات، شيء شبيه عرف بـ “لندنستان” لا سيما بعدما لعب الأوروبيون والكنديون دوراً مهماً، بجانب الامريكيين، ضد الاتحاد السوفياتي السابق، وجمهورية أفغانستان الشعبية، من أجل إلحاق الهزيمة بموسكو خصوصاً بعد قيام حركة أسامة بن لادن الإسلامية، إذ تحولت لندن إلى عاصمة “الإسلاموية”، والعمود الفقري للجهاديين، وهو ما أشار إليه أحد الكتّاب البريطانيين في كتابه “لندنستان”.

“لندنستان” تلك كانت موجودة بالفعل من بين العامين 1980 و2003، إلا أن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 قد غيرت نظرة البريطانيين للأمور. لكن هذا التغيير كان شكلياً لا سيما مع بقاء الجوامع “الراديكالية” مفتوحة، وانتشار ظاهرة التطرف، مراكز التعليم التكفيرية الأخرى، فضلاً عن استمرار التعاون مع “الجهاديين” خلف واجهة “محاربة الإرهاب”. لقد استمرت هذه الحملة ضمن حملة الإعداد لما سمي بـ “الربيع العربي”، حيث تم تعبئة الجهاديين ضد كل الأنظمة القومية العربية والعلمانية، بما في ذلك التونسية والمصرية والجزائرية والليبية، وخاصة ضد نظام البعث في سوريا.

لقد أطلقت لندن التحليلات حول إمكانية وجود قواعد خلفية مماثلة، حيث تلعب بلجيكا دوراً رائداً في هذا المجال، ولكن ليس المقصود هنا بروكسل بالتحديد، بل هناك ثلاثة مناطق في الغرب هي التي تعتبر مركزاً للجهاديين. أولى المنطقتين هما “فيرفيرس” و”شارلروا”، البلجيكيتين، الصناعيتين وتقعان في مقاطعة “والونيا” الناطقة بالفرنسية، واللتان “دمرتهما” العولمة، حيث عانتا من معدلات بطالة وهجرة مرتفعة. اما المنطقة الثالثة، والمعروفة الآن في جميع أنحاء العالم، هي “مولنبيك” الشهيرة التي تشكل هي واحدة من 19 بلدية في العاصمة بروكسل. “مولنبيك”، حقيقة، هي ما يمكن اعتباره مركزاً للجهاد التكفيري البلجيكي، خاصة، والغربي الأوروبي، عامة.

لماذا بلجيكا؟

ويمكن تفسير ذلك من خلال سببين. السبب الأول، يعود إلى بداية التسعينات مع وصول المهاجرين العرب إلى المنطقة واعتبارهم مواطنين يتمتعون بكافة الحقوق. في ذاك الوقت، ساهمت الأوضاع المالية، بالإضافة إلى وجود فساد في عدد من الأحزاب السياسية في الدولة، إلى إسناد إدارة المساجد للمملكة العربية السعودية حيث بدأت “الوهابية” بالإنتشار عبر الأئمة والخطباء، و”الإيديولوجيا الراديكالية” بالتطور من القاعدة وصولاً إلى داعش. مع بداية العام 2018، نحن نحاول فقط وضع حد لهذه الظاهرة، “الفضيحة”، من خلال قيام المملكة السعودية بتسليم إدارة هذه المساجد إلى الدولة البلجيكية. لنكون صريحين، إن ما لا يعرف يجب أن يقال. ما قلنا عنه أعلاه ينطبق على ما ارتكبه رئيسا فرنسا السابقين، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، من خطأ تمثل في وضع إدارة مساجد ضواحي باريس ومرسيليا بعهدة دولة قطر.

أما السبب الثاني، فيكمن في الروابط القائمة بين الأحزاب الديمقراطية المسيحية البلجيكية والألمانية مع حزب العدالة والتنمية التركي، “الراعي” الثالث للإرهاب الإسلامي. فعلى مدى أكثر من 15 عاماً، كانت هناك صلات وثيقة بين الأحزاب الديمقراطية المسيحية، أي المحافظين الكاثوليكيين، وحزب العدالة والتنمية، أي المحافظين الإسلاميين، حيث حصل الأخير على وضع “مراقب” داخل البرلمان الأوروبي. إن التجمعات التركية داخل بلجيكا، التي تعتبر أكثر عدداً من الجالية المغربية، أصبحت تشكل “غيتوهات” ضمن المجتمع نفسه، وأبرز مثال على ذلك هو مدينة سانت -جوس التي كان لديها وزير من أصل تركي، اسمه أمير كير. إن هذا الوضع، سهل على حزب الرئيس التركي الوصول إلى البيت البلجيكي، حيث أن بمقدور الرئيس التركي تنظيم اجتماعات لهذه “الذئاب الرمادية”، علاوة على أنه تمكن من تطوير شبكة من الاتصالات، ليس فقط مع الأحزاب الديمقراطية المسيحية، بل أيضاَ مع ما أسميته “الطبقة الديمقراطية الاجتماعية” البلجيكية.

اتفاقيات “دبلن” وسياسات اللجوء الأوروبية

إن اتفاقية “دبلن”، التي أبرمت في العام 1990 وتم تعديلها باتفاقية “دبلن 2” العام 2003، هي اتفاقية تهدف إلى تنظيم استقبال اللاجئين. منذ العام 2003، تم تمديد نطاق تطبيقها، ليس فقط على دول الاتحاد، بل دول أخرى، لا سيما تلك التي تدخل ضمن اتفاقية “شنغن”، مثل سويسرا وفنلندا والنرويج.

إن إعادة التفاوض على مسألة الهجرة ضمن الاتفاقية، “دبلن 2″، هي قضية مركزية للاتحاد الأوروبي، لا سيما الهجرة التي تأتي من الشرق الأوسط وأفريقيا، خصوصاً وأن دول الاستقبال، مثل اسبانيا واليونان وإيطاليا، لم تعد باستطاعتها تحمل المزيد من اللاجئين. نحن بحاجة إلى إعادة التفاوض بشأن هذه الاتفاقية.

لقد أصبحت الهجرة موضوعاً رئيسياً بعد أن كان هامشياً، حيث سمحت للأحزاب اليمينية المتطرفة، بما في ذلك الجبهة الوطنية التي تقودها مارين لوبان، بالظهور وأضحت الهجرة عنواناً للحملات الانتخابية، وهو ما حدث أيضاَ في ألمانيا من خلال صعود حزب “البديل لأجل ألمانيا”، بالرغم من فوز للأحزاب التقليدية، ومنها حزب المستشارة أنجيلا ميركل. إنها نفس المشكلة في كل أوروبا، وهو ما يفسر بأن إعادة التفاوض حول اتفاقية “دبلن 2” لا مفر منه.

الدور الأمريكي في موضوع اللجوء

في المقلب الآخر، يمكن النظر إلى الموضوع كعملية مقصودة مدعومة من “النوافذ القانونية” لوكالة المخابرات المركزية التي تتلقى تمويلاتها من ميزانية الدولة الأمريكية ذاتها، إضافة إلى ما تقوم به “شبكات” الملياردير جورج سوروس والتي لها الدور البارز في الهجرة الأفريقية إلى أوروبا. كل ذلك، يصب في خلق وتطوير أداة تستطيع واشنطن استخدمها على هامش حروبها في الشرق الأوسط وأفريقيا من أجل “كسر” أوروبا، وتكريس الانقسام فيها بشكل عميق من خلال خلق تناقضات داخلية بين الكتل الحاكمة.

لنكن واضحين. إن دول الاتحاد الأوروبي هي الخصم الاقتصادي والمالي للولايات المتحدة، إذ توجد بينهما “حرب تجارية” منذ أوائل ثمانينات القون الماضي، ناهيك عن “حرب نقدية” ضخمة بين الدولار واليورو. فمن ناحية، لدينا تنظيم ما فوق القومية للاتحاد الأوروبي في المسائل الاقتصادية والمالية، ومن ناحية ، لدينا تنظيم ما فوق القومية لمنظمة حلف شمال الأطلسي.

برأيي، إن حلف شمال الأطلسي ليس “درع أوروبا”، وهنا أتذكر مقولة لأحد أهم خبراء الجيوبولتيك، جان ثيريرت، في الستينات إذ قال “الناتو هو سرج أوروبا” بما معناه أنه جعل من القارة قوة، وبالوقت نفسه وضعها بين يديه. هذا ما هو حلف شمال الأطلسي بالنسبة للأمريكيين الذي يشكل “الرئة الثانية” لهم. إننا لن نستطيع فهم هذه القوة الأمريكية العظمى إذا لم نفهم أنها تقوم على قاطرتين: الأولى شمالية أي الولايات المتحدة، والثانية دول أوروبا الغربية، وهو ما يظهر جلياً في كتاب مستشار الأمن القومي الراحل، زبيغينيو بريجنسكي، “رقعة الشطرنج الكبرى”.

مصدر الصور: النهار – Africa Presse – المرسال.