حسين الموسوي*
منذ 14 يوليو/ تموز 2015، تاريخ إعلان الاتفاق النووي بين إيران والدول الست أو ما يعرف بخطة العمل الشاملة المشتركة، بدأ الحديث عن ضرورة التزام الأطراف كافة بتنفيذ الاتفاق. وفي قراءة سريعة لموقع الأطراف المعنية، لا سيما الإيراني والأميركي، فإن طهران التزمت بكامل تعهداتها وذلك باعتراف الجهة المخولة الإشراف على التنفيذ، أي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فالوكالة، وعلى لسان مديرها “يوكيا أمانو”، أعلنت مرات عدة وبوضوح أن مفتشي الوكالة تمكنوا من دخول كافة المواقع التي طلبوا تفتيشها. لكن في كل مرة كان هناك كلام لـ “أمانو” ربما لم يثر اهتماما حينها، إلا أنه اليوم يبدو أكثر أهمية وهو أن الوكالة معنية في التنفيذ التقني للاتفاق النووي وليس لها أي دور أو تأثير على مواقف الدول الأطراف تجاه البقاء في الاتفاق أو الانسحاب منه.
من هنا، تتضح أولى ملامح خلفيات قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالانسحاب من الاتفاق النووي، أي أن سبب الانسحاب لم يكن اقتراب إيران من القنبلة النووية، كما لم يكن السبب هو عرقلة عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لقد أكدت جميع الأطراف المعنية أن إيران لم تعمل على تصنيع سلاح نووي مضافاً إليها شهادات من داخل الولايات المتحدة لا سيما بعد الاستعراض الذي قدمه بنيامين نتنياهو وادعى فيه وجود برنامج سري تمتلكه طهران لتصنيع قنبلة نووية حيث أعاد إلى الأذهان استعراضه في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل سنوات في الإطار نفسه. لقد أكد مسؤولون أمنيون وسياسيون أميركيون حاليون وسابقون أن نتنياهو لم يقدم شيئاً ملموساً، وإن المعلومات التي عرضها، بمؤثرات خاصة، موجودة لدى المؤسسات الأميركية السياسية والعسكرية والاستخباراتية.
وهنا تبرز تصريحات المدير السابق لوكالتي الاستخبارات CIA والأمن القومي الأميركية NSA، مايكل هايدن، الذي قال إن المعلومات التي عرضها نتنياهو معروفة منذ سنوات للأميركيين. حتى البيت الأبيض نفسه، ومن خلال بياناته، قد غيَّر فيها مع مرور الوقت إذ قال في إحداها أن طهران “لديها” برنامج قوي لتصنيع سلاح نووي ليعود وينفي ذلك بقول آخر إن إيران “كان لديها” برنامجا لسلاح نووي، أي أنها لا تسعى للسلاح النووي.
هذه الإشارات وغيرها ترنو إلى مسألة تتخطى الشق النووي الذي يُجمع قادة العالم – لا سيما الأوروبيين – على أنه جيد ومقبول ويمنح الاطمئنان حياله، غير أن القرار الأميركي بالانسحاب والتحركات التي سبقته، لا سيما من قبل نتنياهو وبعض الدول العربية المعروفة، يهدف لما هو أبعد من البعد النووي.. أي القوة الصاروخية والدور الإيراني في المنطقة.
بالنسبة للقوة الصاوخية، فيمكن القول بأن هذا التوجه يفهمه الإيرانيون جيداً ويعرفون الحدود التي يجب السماح فيها لأي طرف بالحديث عنه، فالمسؤولين يؤكدون أن القدرات الصاروخية والدفاعية هي سبب صمود البلاد في وجه الحملات ضدها وإن تطوير هذه القدرات سيستمر أي أن الرسالة مفادها عدم محاولة الحديث عن التفتيش أو الحد من هذه القدرات، لا سيما من قبل الولايات المتحدة التي لا يمكن الوثوق فيها بحسب قائد الثورة الإسلامية في إيران، السيد آية الله علي خامنئي.
هذا الواقع يعطي القضية مساراً آخراً ضمن سياق الوصول إلى حل، والمقصود هنا الطرف الأوروبي الذي يجد نفسه وسط أزمة بأكثر من بُعد. فهو يبحث عن خطة واضحة لمواجهة “التسلط” الأميركي على الساحة الدولية وسعي ترامب لجعل الاتحاد الأوروبي “موظفاً” عنده (وهو ما رفضته المستشارة الألمانية انجيلا ميركل عندما اتصلت بالرئيس الإيراني حسن روحاني وأكدت له موقف بلادها القاضي بالالتزام بالاتفاق)، كما يبحث عن مخرج لانقاذ الاتفاق النووي الذي يشكل أهمية كبيرة بالنسبة للأوروبيين لا سيما على المستوى الاقتصادي.
من هنا، جاءت مقترحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي يبدو أنه تلقف حيثيات الموضوع بشكل جيد ليطرح خطة تبقي على البنود المتعلقة بالشق النووي في الاتفاق مع إيران (وهذا يعزز الرأي مقولة أن المشكلة ليست في البرنامج النووي لطهران) عبر إدخال “بنود جديدة” تتعلق بالبرامج الدفاعي الإيراني ومعالجة قضايا المنطقة بمشاركة طهران. هذا الطرح، قد لا يكون أقل تشعباً وتعقيداً من الشق النووي. فالإيرانيون لديهم خطوط حمراء حول الموضوع الصاروخي لا يمكن تجاوزها خاصة وأن الضمانات المطلوبة غير متوفرة، في ظل السلوك الحالي للإدارة الأميركية الذي يزعج حتى حلفاء واشنطن الأوروبيين.
غير أن ما يجب ذكره في هذا الخصوص، أن التفاوض على القوة الصاروخية لن يقف ضمن الحدود الإيرانية، في حال حصل، بل سيتعدها إلى ما هو أبعد من ذلك، كمسألة الصواريخ اليمنية على السعودية، حليفة واشنطن، وصواريخ حزب الله وسوريا المهددة للأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما ظهر واضحاً من خلال استهداف القوات السورية مرابض ومواقع عسكرية والكترونية إسرائيلية بأكثر من 50 صاروخاً، فجر يوم الخميس 10 مايو/أيار 2018.
إن الضغط من باب الملف النووي، هو لجعل إيران ترضخ للتفاوض على برنامجها الصاروخي، المحلي والإقليمي، ككل وهو الأمر نفسه الذي حدث أبان المفاوضات النووية، إذ أرادت واشنطن التفاوض مع طهران “على كل شيء” لكن الأخيرة رفضت وأبقت الموضوع ضمن “السلة النووية” دون غيرها.
أما بالنسبة لدور طهران في قضايا المنطقة، فلا يبدو أن هناك حلولاً مطروحة على هذا الصعيد بل بالعكس خصوصاً مع الدفع اكثر بإتجاه المواجهة مع إيران على الأراضي السورية من خلال الإعتداءات التي يقوم بها الكيان الإسرائيلي والتهديدات التي أطلقها قادته مؤخراً، يترافق ذلك مع المكاسب التي حققها “محور” إيران – روسيا – سوريا، في مواجهة الإرهاب والمشاريع الأميركية – العربية في الميدان السوري، والتي لا يمكن التخلي عنها بسهولة فقط لأن ترامب، ومن خلفه نتنياهو، وبعض الدول العربية يريدون ذلك.
في اليمن، توجد مشكلة حقيقة تواجه السعودية خصوصاً وأنها لم تحقق مكاسب مهمة في هذا الملف، إضافة إلى التنافس بين الرياض والإمارات في تلك الساحة مما يجعل الصورة أكثر غموضاً. يتوافق ذلك مع حدث في لبنان، في الانتخابات النيابية الأخيرة، من حيث أن الصورة باتت اوضح بعد تحقيق تفوق كبير لصالح “محور المقاومة” القريب من طهران. أما في سوريا، فالتواجد الإيراني، وخصوصاً الموجود على مقربة من الحدود الإسرائيلية، يشكل القلق الأكبر لا سيما وأنه كان للوجود الإيراني دوراً حيوياً ومحورياً في سوريا، من خلال المساعدة في عمليات مكافحة الإرهاب، وأصبح لهم معطيات ميدانية على أرض الواقع.
في المقابل كل ذلك، فإن أوراقاً ما زالت بيد كل من الأميركي والإسرائيلي، وبعض الحلفاء من الدول العربية، ربما أهمها العقوبات الاقتصادية التي أقرها ترامب. هذه العقوبات، في حال تنفيذها بشكل قاسٍ، قد تدفع بعض الأوروبيين للتراجع أمام ابتزاز ترامب خاصة وأن فارق الأرقام في ميزان التبادل التجاري الأوروبي مع كل من إيران والولايات المتحدة شاسع وبالتالي فإن هذا السيناريو سينتج أمرين؛ الأمر الأول، تفريق الأوروبيين وبالتالي إضعاف موقفهم. الأمر الثاني، تعريض الاتفاق النووي للفشل النهائي مع بقاء الصين وروسيا فقط فيه وهو ما لا يعطي أهمية كبيرة للاتفاق على أساس أن المفاوضات الحساسة والرئيسية كانت مع الأميركيين والأوروبيين.
إلى جانب ذلك، يراهن الأميركيون على تبعات العقوبات الإقتصادية على مكونات الداخل الإيراني التي لم تحصل على كل حقوقها المتأتية من الاتفاق النووي، إضافة إلى الأزمة المالية التي تعانيها وارتفاع سعر الدولار. هنا، تشير بعض التقارير الأميركية إلى أن خطة “إسقاط النظام” في إيران عادت إلى الطاولة وما يعزز ذلك التشكيلة الجديدة للإدارة الأميركية وفريق الأمن القومي المحيط بترامب، وتحديداً وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي “الصقر” جون بولتون. الرجلان من أشد الداعين لتغيير النظام في إيران، ولا يغيب عن الأذهان كلام بولتون، العام 2017 فيما يسمى “بتجمع إيران الحرة” في الولايات المتحدة، الذي توعد فيه بالاحتفال في طهران بعد تغيير النظام فيها قبل العام 2019.
لكن بين استغلال ذريعة النووي ومحاولات فرض أجندات سياسية وعسكرية على إيران داخل الحدود وخارجها، يوجد نقطتان أساسيتان تحددان مسار الأمور. النقطة الأولى، تتمثل بالإنتخابات النصفية في الولايات المتحدة والتي قد تقلب الطاولة على ترامب في حال حصول الديمقراطيين على الأكثرية وهو ما تظهره استطلاعات الرأي، أقله حتى الآن.
أما النقطة الثانية والمهمة، فهي أن الرئيس الأميركي يفتقر إلى “الصورة الصحيحة” عن إيران ويتعامل مع الملف الإيراني كما يتعامل مع ملفات أخرى مثل كوريا الشمالية أو حتى ملفات بعض الدول العربية. وما لا يبدو واضحا لترامب، وحلفائه الإقليميين، هو أن الشارع الإيراني اعتاد على العقوبات الاقتصادية طوال السنوات الماضية ويعتبر أن نتائج الاتفاق النووي لم توجد تغيراً مهماً على الاقتصاد والحياة في إيران نتيجة عدم تنفيذ واشنطن لكامل التزاماتها. فبرغم التبعات الاقتصادية القاسية التي قد توجدها العقوبات الجديدة، إن الإيرانيين يستطيعون مواجهة ذلك على قاعدة أساسية هي أن التغيير لا يمكن أن يكون من الخارج وأن أي تغيير أو إصلاح أو تصحيح لسياسات معينة يجب أن يكون مصدره الإيرانيون أنفسهم، وهم ترجموا ذلك على الأرض، وبنجاح كبير، خلال الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار 2017.
*باحث لبناني
مصدر الصور: نهرين نت.